نودع اليوم العام 2003 وهو العام الثالث من الالفية الثالثة , وقد كان هذا العام يختلف عن الاعوام التي سبقته من حيث الاحداث الكثيرة والكبيرة التي كان يحملها لنا في جعبته الممتلئة بالمفاجأة الغير متوقعة . فثمة احداث كان وقعها حزيناً ومأساوياً على شعوب الارض , كتلك التي ارتبطت بالحروب والمنازعات المبررة والغير مبررة , وبالكوارث الطبيعية كالزلازل التي انهالت على تركيا وايران ودول اخرى وذهب ضحيتها الالاف من الابرياء والفقراء في الارض , وايضاً فقد افتكر الله سبحانه وتعالى العديد من عباده خاصة ممن لهم وزنهم السياسي والثقافي والديني في كافة مجتمعات الدنيا واحداث كثيرة وكثيرة جدا كانت قد ارشفت لعام 2003 . ولكن يبقى الحدث الاهم والاعنف هو الزلزال السياسي الكبير الذي قصم نظام الطاغية المجرم صدام حسين وزمرته في التاسع من ابريل , انه حدثاً لم يصدقه العراقيون حتى القي القبض على رأس النظام العفن في الثالث عشر من ديسمبر , وفكرة عدم التصديق كانت نابعة من ان هذا النظام الذي شيّد هرمه على اسس الاضطهاد والقمع قد ترك في نفوس رعيته كل مكامن الخوف والرعب اللتان آلت الى دفن الابرياء احياء , والاعدامات اليومية التي كان النظام يتلذذ بها اثناء فترات الاستراحة في مزارعه الممتدة في كل شبر من ارض العراق عراق الرافدين العظيمين . فبدلاً من استغلال ثروات البلاد الطائلة والتي لا تضاها في البناء والعمران , ظل النظام المقبور والغير مأسوف عليه يمارس عمليات الابادة الجماعية والفردية على حد سواء , ويبدد بثروات البلاد هنا وهناك من اجل البقاء في كرسيه , فثمة العديد من الصحف والمجلات التي تصدر في خارج العراق ويرأس تحريرها كتّاب عرب كانوا قد باعوا ضمائرهم وخانوا مهنتهم من اجل حفنة من الدولارات المستقطعة من خبز العراقي ومن علاج ودواء اطفال العراق في ظل ظروف يندا لها الجبين , كان اثرها ووقعها في غاية المعاناة على شعب وارض العراق العظيمين . وكان التاسع من أبريل هو يوم الخلاص من ذلك النظام الدموي الذي زرع الرعب والموت في كل مكان من العراق . وبعد عملية التحرير التي اكتسحت اكتساح ساحق النظام ورموزه الذين اول من هربوا على عجل دون ان يبدوا اية مقاومة تذكر ولو ليوم واحد , الامر الذي جعل منهم سخرية ما بعدها سخرية بالسن الناس البسطاء , وقد تأسف الجميع من ابناء الشعب لخدوعهم بحروب النظام السابقة التي كان يفتعلها مع جيرانه وذهب ضحيتها الملايين من الابرياء مابين قتيل وجريح واسير , وبينما كان النظام ينفذ حكم الاعدام بآلاف العراقيين جراء هروبهم من الخدمة العسكرية ويعتبرهم متخاذلين وجبناء ويستحقوا الموت , الان وبعد هروبهم الا يستحقوا الموت وخاصة رأس النظام على الاقل بتهمة الهروب والتخاذل والخيانة كما كان يفعل مع البسطاء , اسئلة كثيرة بحاجة الى اجوبة , ولكن ليس من العرب الدجالين !!
ثم جاءت عملية السلب والنهب التي اوقعت خسائر كبيرة في ارشيف وتاريخ العراق الحضاري والذي يمتد الى اكثر من سبعة الاف سنة , كذلك ارشيف وتاريخ العراق المعاصر المتكون من عشرات الالاف من الكتب والوثائق واللوحات التشكيلية والافلام وثمة اشياء اخرى لا تحصى ولا تعد .
وبعد هذه الصفحة الغير حضارية والغير انسانية جاءت ومازالت عمليات الاغتيال والتي قام بتنفيذها مجموعات من بقايا فلول النظام المجرم , وكانت العملية التي كان وقعها كبير وكبير جدا على نفوس العراقيين هي تفجيرات النجف الاشرف والتي ذهب ضحيتها سماحة السيد محمد باقر الحكيم ومعه كوكبة من الشهداء الابرار في عملية جبانة تنضح من منفذيها الخسة والعفونة والرذالة , وكيف لا وقد تجرأ منفذوا العملية تلك على حرمة امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام , فماذا ترتجي من زمرة فاسقة فاجرة تصل بها الدناءة والوقاحة الى هذا الحد , وعدا عن ذلك كانوا قد ارادوا بهذا العمل الجبان هو خلق واندلاع الفتنة مابين الشيعة , لكنهم لم يفلحو بذلك , وقد حاولوا الدخول لاشعال الفتن من كافة المحاور والاتجاهات , وفشلوا ايضاً .
وبعد مرور العديد من الاحداث والسيناريوهات على ارض العراق ما بعد عملية التحرير , اي الفاصل التاريخي والذي هو التاسع من ابريل وحتى هذا اليوم , اخر ايام العام 2003 لم يطرأ تحسن ملحوظ على الوضع في العراق سوى ان الانسان قد فاز بحريته التي كان محروماً منها لعقود طويلة , وطبعا هذا الشيء بحد ذاته لا يمكن الاستهانة به على الاطلاق , كون ان الحرية ليس بالشيء اليسر فثمة شعوب ناضلت مئات السنين حتى نالتها وقسم اخر من الشعوب لم ينلها لحد الان .
وطبعا السبب الرئيسي في عملية تأخير بناء العراق وبناء مؤسساته نابع من عدم استقرار الامن , هذا بالدرجة الاولى , وكيف يستتب الامن ومازال العديد من رموز وجلاوزة النظام طلقاء وباحضانهم الملايين من الدولارات التي سرقوها من بنوك العراق ويمولوا بها بعض المرتزقة والافاقين وبعض المتطرفين القادمين من خلف الحدود ليحدثوا العديد من البلبلات والمشكلات الامنية حتى يبقى الوضع غير مستقر ومتضعضع داخل العراق . وبدلا من ان تبادر بعض المؤسسات السياسية والثقافية لاستنكار الاعمال الاجرامية التي اقترفها النظام المجرم المقبور المتمثلة بمقابره الجماعية التي ملئت ارض العراق شمالا وجنوبا سارعوا للدفاع عن راس النظام العفن كونه المنقذ لهم في اصعب ظروفهم المادية , ولكون هؤلاء عربا ومن النوع الذي لا ينكر ولي نعمته , تلك النعمة المغمسة بدماء العراقيين , لكن مالذي جرى لبعض العراقيين وخاصة الكتاب منهم هل ان سقوط الدكتاتور كان ضرراً لهم ايضاً قد يكون الجواب بنعم اذا ما افترضنا ان هؤلاء كانوا يقبضون ايضاً على حساب شعبهم المغلوب على امره , لقد عجبت لامر هؤلاء المستميتين لصدام وزمرته ويحاولوا بشتى الطرق ان يجيشوا الجيوش على قوات الاحتلال , لماذا هل ان قوات الاحتلال الان هي ذاتها التي في فلسطين التي تبني في السياج العازل وتبني باستمرار المستوطنات وتصادر الاراضي وتغير هوية الارض وجنسية سكانها , قطعا الجواب يختلف اختلافا جذريا فالقوات الامريكية لم تعمل شيئاً من ذلك فهي تحاول جل وقتها ان تنشر الامن للبلاد وتعيد الخدمات الانسانية للمواطن لكي تبدأ مرحلة بناء العراق من جديد , فالعراق الجديد المبني على اسس العدالة والديمقراطية لا يحبذه العرب الاعدقاء ولا العراقيين المحبين منهم لنظام القتلة والذين ضربت مصالحم جراء سقوط النظام فهؤلاء ثلة تعيسة لابد للعدالة ان تنال منهم ولو بعد حين , خاصة هنالك العديد من المجرمين الذين هربوا خارج العراق بعد التاسع من ابريل الى دولة الامارات وبعض الدول الاخرى , الا ان العدالة ستلاحقهم حتماً اليوم او غداً , لكي تعاد كل الحقوق المسلوبة من الوطن ومؤسساته او مواطنيه الذين تحملوا الذل والهوان لعقود طويلة من الزمن . قد يقول قائل لماذا لم يستقر الوضع في العراق ما دام صدام قد ولى وانتهى امر العفالقة النتنين , والجواب هو وبكل بساطة هو : نحن العراقيين المعتادين على الاضطهاد والاعتقالات والسجون والاعدامات والمنفى والحروب , ليس من السهل علينا استقبال الديمقراطية واحترام مبادئها على الطريقة الاوربية والامريكية اي نحن غير مؤهلين لذلك على الاطلاق , هذا من باب ومن باب اخر فثمة اربعة ملايين من العراقيين عاشوا المنفى لعقود طويلة وقد اتقنوا الممارسات الديمقراطية بطريقة عالية جدا فمتى ما تتم عودة هؤلاء ليساهموا في بناء وطنهم , عند ذاك سيندمجوا في صفوف الشعب محدثين خلخلة في التوازن الفكري والسياسي الامر الذي سيعالج العديد من نقاط الضعف الفكري والسياسي لدى عراقيو الداخل الذين اكتوا بجحيم النظام البائد والذي اوصلهم الى حالة فكرية ميأوس منها تماماً , نتيجة لدرجة الفوبيا العالية التي زرعت داخل نفوسهم .
وان هذه المرحلة الانتقالية التي يتولى امورها مجلس الحكم الانتقالي منذ شهور عدة ما هي الا فترة عابرة يراد من خلالها التصفية الكاملة للساحة السياسية العراقية التي مالبثت وهي في ايامها الاولى حتى خرجت علينا العديد من الشخصيات العفنة والتي حاولت بشكل او باخر شغل الساحة العراقية من خلال التصريحات الرنانة والخالية من ابسط مقومات اللياقة السياسية واللياقة النحوية داخل اللغة العربية الامر الذي أساءوا فيه لكل شيء هو عراقي , خاصة هؤلاء المجرمون امثال مزهر الدليمي وجبار الكبيسي وناطقه المعتوه الشيوعي السابق فاضل الربيعي ومن لف لفهم , هذا من الجانب السياسي اما الجانب الديني فقد ظهرت تيارات تافهه همها الوحيد اعتلال مقعد في مجلس الحكم , المجلس الذي سوف يتلاشى خلال الاشهر القريبة القادمة , فتجد التيار الشيعي المتمثل بمقتدى الصدر الذي أبرز عضلاته الغير مسبوقة في ظل قدوم ووجود الامريكان , اين كنت ايها الصدر الصغير ومن معك الان عندما اعدم صدام سماحة السيد العلامة الكبير محمد باقر الصدر , وعندما قتل والدك السيد الصدر الثاني واخرين من علمائنا الكبار , ومن جهة اخرى يقابل تيار الصدر تيار مجلس العلماء السنة , وهؤلاء مازال قسم منهم يوالون صدام وزمرته , بسبب مصالحهم التي ضربت بعد الاطاحة بالنظام العفن , فقد كان اغلب رجالات الامن والمخابرات وضباط الجيش هم من السنة , وهذا لا يعني ان ثمة العديد منهم كانوا ضحايا النظام فان مقدار البطش بالسنة ليس اقل نسبة من باقي فئات الشعب العراقي , وتجد في الجهة الشمالية التي يمثلها الاكراد في كردستان العراق رغم الامن والاستقرار الذي ينعمون به بفضل الولايات المتحدة الامريكية منذ عام 1991 فقد حاولوا ومازالوا ان ينقسموا من العراق على الرغم من ان لهم خمسة مقاعد في مجلس الحكم , متمثلة بمسعود وجلال ومحمود واخرين , فبينما العراق وشعبه يحاول جهد قدرته وبمساعدة القوات الامريكية الحد من الهجمات الارهابية في السيارات المفخخة والانفجارات الاخرى , يرفع الاخوة الاكراد علم كردستان , وكأنهم في دولة مستقلة , هذا من جهة اما من الجهة الثانية فبدلا من ان يكونوا مثالا لمدن العراق في الامن والاستقرار لحين ما تستلم حكومة امور السلطة في العراق وتقوم بترتيب الاوضاع بطريقة حضارية , تجدهم يطالبون بالفيدرالية ! العراق اين هو الان من الفيدرالية , الامر الذي جعلهم لان يطالبوا بكركوك وخانقين وجلولاء , مما اثاروا مشاعر التركمان والعرب في كركوك وما حدث ليلة امس اثناء المظاهرات السلمية كان شيئا مخجلا بحق الشعب العراقي , واذا كان الامر كذلك فمن باب اولى ان تصادر العاصمة بغداد والجنوب اي من بغداد وحتى البصرة , كنفدرالية الشيعة , الشيعة الذين هم وحدهم تم اضطهادهم بطريقة اوسع من كل شرائح المجتمع العراقي حتى لو وضعنا في حسباننا مجاز حلبجة , فهي لا تشكل نسبة قياسا لما تعرض له الشيعة في العراق , فقط مجاز المقابر الجماعية لاهالي الجنوب تكفي وتنوب عن كل المجاز التي ارتكبها النظام المجرم في العراق , ولعلم الجميع ان ما ظهر عبر شاشات التلفاز من مقابر جماعية هي لا تساوي نسبة الربع منها , فاغلبها قد سيجت واحيطة بحراسات خاصة , حتى لا تضيع هوية الضحايا ,.. فملخص القول ان فئات الشعب العراقي اذا بدا لها هكذا تفكير عنصري ذات مصالح خاصة سوف لن تستقر الامور في العراق الا لسنوات طويلة , وهذا يعني المزيد من الدماء والدمار , ونكون قد جنينا على انفسنا , كما جنت على نفسها مراقش . وهذا كله طبعا هو تكهنات ولكن الشيء الوحيد والذي يجب ان يعرفه جميع العراقيين من شيعة وهم الغالبية ومن سنة ومن اكراد وتركمان واقليات وديانات اخرى , ان كل التصريحات والمقابلات والاحزاب الجديدة التي شكلت ما بعد صدام حسين وما شاكل ذلك كلها ستذهب هباء الريح شيئنا ذلك ام ابينا . ذلك لان العراق بيد الامريكان وهم المحررون وهم المحتلون في نفس الوقت , اولا هم مسؤلون مسؤلية كبيرة جدا عن وحدة العراق , من خلال تصريحات كافة المسؤلين الامريكيين وعلى رأسهم الرئيس جورج بوش , فليس من السهولة ان تترك امريكا العراق يجزأ او عدم استقراره فتلك المسلمات ستصب ضد الولايات الامتحدة الامريكية . ولهذا فان الامريكان ليسوا باغبياء لهذا الحد , هم الدولة العظمى الوحيدة في العالم من دون منازع فهي تعرف كيف تسير الامور بطريقة محسوبة بدقة متناهية , الامر الذي ستجعل من العراق شعبا واحدا وارضا واحدة تسوده الديمقراطية والمحبة والمساوات ,.. وليضرب رأسه باقرب شجرة كل من تسول له نفسه في ان يحاول المساس بسيادة وكرامة العراق والعراقيين وليكن العام الجديد 2004 عام بناء العراق الجديد الخالي من الطائفية والتفرقة العنصرية التي يطمح لها البعض من اصحاب النفوس المريضة الحاقدة . ولقد كان بحق عام 2003 عاما زاخرا بالمفاجئات المفرحة والحزينة على حد سواء الا ان سقوط النظام وأسر رأسه العفن كانت اكبر فرحة ونصر لكل عراقي مظلوم , والى الامام يا عراق الرافدين العظيمين , عراق الحضارات الاولى في الارض عراق نبوخذ نصر وحمورابي وكلكامش وانكيدو
- هادي الحسيني -
شاعر عراقي يقيم في النرويج