أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - جواد بشارة - على مفترق الطرق : العراق وآفاق الحل















المزيد.....


على مفترق الطرق : العراق وآفاق الحل


جواد بشارة
كاتب ومحلل سياسي وباحث علمي في مجال الكوسمولوجيا وناقد سينمائي وإعلامي

(Bashara Jawad)


الحوار المتمدن-العدد: 701 - 2004 / 1 / 2 - 08:11
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


في "المستنقع العراقي"يمكننا اأن نتخيل  كيف يتحول الشبان المجندون في صفوف المارينز الى محاربين مرعبين ليصار من بعدها الى رميهم في اتون نزاع سيتبين خلاله ان إعدادهم لم يكن مناسبا ولن يفيدهم أو يسعفهم في مواجهة عدو غير مرئي بدون جبهة ولا خطوط خلفية، يتحرك كالغاز القاتل...العراق ليس فيتنام لكن خلال "رمضان الاسود" حصل تبادل في الادوار: المهاجمون باتوا في موقع الدفاع وصار امام قوات الاحتلال الاميركية هدف رئيسي وهو حماية نفسها من ضربات الجهات التي تمارس أعمال العنف التي تزداد جرأة. والارقام تتكلم: عشر هجمات في تموز/يوليو، 35 اليوم وما يقارب العشرة اميركيين يسقطون اسبوعيا... من دون احتساب الاعتداءات الاضافية التي توقع اصابات في صفوف البريطانيين والايطاليين والبولونيين والاسبان... الامور تتحول الى كابوس.وكان المخططون الاميركيون المتمتعون بقدرة نارية جهنمية اكتفوا لغزو العراق بتطبيق مسلّمة الماريشال فوش القائلة بأن الحرب الحديثة تقوم على الوصول الى قلب الجيش المعادي ومركز قوته وتدميره في المعركة. وكانت المهمة سهلة وخصوصا ان الجيش العراقي تبخر امام بغداد ولم يوقف تقدم الغزاة بنسف الجسور او تدمير المطارات مثلا.الى حد يمكن التساؤل معه هل وراء هذا السلوك خطة متعمدة لادخال الغزاة في عمق العراق وايقاعهم في فخ نزاع غير متواز طويل الامد. ذلك ان القوات الاميركية تبدو باقية في بلاد ما بين النهرين لردح طويل من الزمن حيث ان خروجها المتسرع قد يؤدي الى حرب اهلية والى "لبننة" العراق مما يحوله لعقود من الزمن الى "بؤرة لتعكير صفو العالم".ان منظّري المقاومة يعرفّونها كما يأتي: العدو يتقدم، نحن نتراجع، العدو يستقر، نحن نهاجمه. ينصح سان تسو وهو من اقدم مفكري الحروب باستغلال نقاط ضعف القوي عندما يكتب قائلا: "تحاشوا قوته واضربوا رخاوته". ومن اجل عدم تحولهم الى هدف للمحتلين، يجهد المتمردون العراقيون كي يفرضوا على الاميركيين اطول خط دفاع سلبي ممكن وهي الحرب الاكثر تكلفة على الاطلاق.حلقة العنف تصاعدت هكذا من دون هوادة. والقمع الذي سيتزايد مع ظهور الميليشيات شبه العسكرية التي انشأها الاحتلال سوف يعيد اطلاق المقاومة على اشكالها. فدينامية الثأر الذي يغذيه الحقد على الغزاة، تنهش المحتلين المبلبلين والمضطربين الذين يصعب عليهم التمييز بين اخصامهم و"اصدقائهم". لذلك تراهم يكثرون من "الهفوات" حتى في حق الذين يتهمون بأنهم "متعاونون" معها والذين يمثلون هدفا اول للمهاجمين  المعادين .ومن الآن يتبين ان الـ 130 الف جندي ـ ومنهم 56 الفا فقط ضمن وحدات مقاتلة فعلية ـ غير كافين لضمان الامن في البلاد والجدير بالذكر إن قوات الاحتلال التي لا تتمتع بتكليف من الامم المتحدة تعد 155 الف رجل من 34 بلدا (لا يوجد بينها اي بلد عربي او اسلامي).. وقد تحول العراق جنة للاعمال بالنسبة الى شركات الامن الخاصة. فالسفارات الاجنبية والشركات الغربية المستفيدة من عقود اعادة الاعمار (وهي اساسا أميركية ومرتبطة بادارة بوش) كما الوزارات وباقي المؤسسات الرسمية، تلجأ لتأمين حمايتها الى آلاف من المرتزقة الذين تجندهم مكاتب خاصة مثل "أرينيز" التي تعاقدت مع 6500 شخص لحماية المنشآت النفطية، و"غلوبال ريسك" التي تؤمن حماية اعضاء مجلس الحكم الانتقالي، و"فينل" التي تدرب الجيش العراقي الجديد، و"دينكورب" التي تؤهل عناصر الشرطة و"اوليف" التي تحرس كوادر الشركات الاميركية الكبرى ( وتجدر الإشارة إلى أن الشركات التي تتقاسم غنيمة اعادة الاعمار الهائلة ـ 8 مليارات دولار ـ هي التي ساعدت المرشح بوش بشكل رئيسي في حملته الانتخابية في تشرين الثاني/نوفمبر 2000 وفق تقرير مركز الشفافية العامة Center for Public Integrity الصادر في 30 تشرين الاول/اكتوبر 2003). من جهة اخرى، وبدل ردع الارهاب الدولي، اعطى احتلال العراق دفعا مأسويا اعاد اطلاق هذا الارهاب من عقاله. وخير دليل على ذلك الاعتداءات الرهيبة المتكاثرة بين الدار البيضاء والرياض ومن مومباسا الى اسطنبول بينما يبتعد يوما بعد يوم مشروع اقامة نظام ديموقراطي في العراق…وقد انتهى الزمن الذي كان يعلن فيه "صقور" البنتاغون ان العراقيين يرحبون بقوات الاحتلال كمحررين... ان هذا الخطأ الكبير هو في اساس الفوضى الراهنة. فمنظّرو واشنطن الذين اسكرتهم القوة (تشيني، رامسفيلد، وولفويتز، بيرل الخ...) كانوا مستعجلين لاستخدام آلة الحرب الاميركية من اجل تحقيق حلمهم الهذياني في "اعادة رسم الشرق الاوسط": ولكن كل شيء يرتد عليهم اليوم. ان الذين انكروا على الولايات المتحدة الاميركية شرعية حربها في العراق وانتقدوا عجرفتها، وجدوا في الاستقبال غير الحماسي الذي لقيته قوات الاحتلال تطمينا وتأكيدا لمواقفهم. والاهتمام الاعلامي الذي لا يزال مركزا على هذا البلد ينقل صورة سكان غير راضين يستنكرون الاخطاء المرتكبة ويطالبون بحقوق مهدورة ويعبّرون بوضوح رؤية عن نيات الادارة الاميركية... نادرة هي التحقيقات التي تعكس تجاوبا ولو محدود مع مشاريع الاحتلال حيث تطغى الانتقادات على غيرها من المواقف وتتكرر عبارات من نوع "الاوضاع اسوأ مما كانت عليه  قبل الحرب" او "الاميركيون يشبهون صدام" الخ...
أن هذه المقارنات مقلقة خصوصا انها تصدر عن افراد لم يحققوا اي منفعة من النظام السابق بل بالعكس كانوا من أوائل المتضررين منه. ان المحتلين الين يتحسسون كثيرا منوجود وسائل الاعلام  المناوئة لهم لن يتمكنوا من ارتكاب جرائم مشابهة لجرائم السلطة البائدة. فبالرغم من الاعتقالات العشوائية وحالات التعذيب التي استنكرتها منظمة العفو الدولية وعمليات التضييق على الصحافة، يصعب تشبيه ممارسات الاحتلال القمعية بانحرافات يرتكبها جيش يخوض حربا. ويكفي لذلك التذكير بالقوات الروسية في الشيشان وبالجنود الاسرائيليين في فلسطين او حتى بالجيش الاميركي في افغانستان.
من البديهي أن يؤدي قمع المعارضة المسلحة الى تجاوزات عديدة حيث يصار غالبا الى تعنيف المتهمين. فخلال الغارات الاميركية يتم تفتيش اثاث البيوت وتخريبها، كما تنهب احيانا المدخرات بالدولار. ويشكو بعض العراقيين انهم اخضعوا لاهانات كبيرة مثل وضع وجوههم تحت جزمات الجنود. كما ان بعض الممارسات تذكّر بالعهد السابق: فتدمير مزروعات الضلوعية التي تؤوي معاقل العناصر المسلحة التي تمارس أعمال العنف تذكّر بقيام جيش صدام حسين عام 1991 بقلع اشجار النخيل لمطارة ثوار الإنتفاضة. ويشير اعتقال نساء الرجال المطلوبين لمبادلتهن الى مبدأ العقاب الجماعي اذ تدفع عائلة او قبيلة كاملة ثمن سلوك احد اعضائها وهذا ما كان يمارسه صدام حسين  إبان حكمه البائد.
لكن المعارضين المسلحين وانصارهم يدركون جيدا انهم لن يتعرضوا للتعذيب وفق تقنيات تفوق الخيال وان زوجاتهم لن يغتصبن تحت انظارهم ولن يعدم اهلهم وابناؤهم كما كان طاغية العراق المخلوع يفعل. فالجميع يعرف في داخله ان عصر الارهاب ولى، لذا فان التجاوزات التي تثير عن حق حفيظة وسائل الاعلام الاجنبية لا تستدعي اكثر من استنكار مبدئي في العراق. فالفارق بين التوقعات الصحافية لتصاعد العنف والسلبية السائدة في اوساط السكان يترجم بالشعور المعلن عنه منذ أشهر بانفجار تمرد وشيك يتأجل موعده يوما بعد يوم. لا يمنع ذلك الشهود على العمليات المضادة للاميركيين من التعبير عن فرحتهم امام كاميرات التلفزيونات الاجنبية، فلا شعور بالحزن يظهر عند احتراق الشاحنات او اسقاط الطائرات الأمريكية...
من هنا تأتي المفارقة: كيف يمكن لشعب يعاني ظروفا مؤاتية للمعارضة أن ينتقد المحتل بهذه الشدة ويتساهل بشكل واسع مع الاحتلال؟ للاجابة يجب ان نأخذ على محمل الجد المقارنة التي يقيمها تلقائيا العراقيون بين النظام القديم والمسؤولين الجدد.
في المقام الاول نجد ان الادارة المدنية والقوات العسكرية الاميركية اعتمدت سياسة المعاقل المحصنة التي كانت سائدة في زمن الطغيان. لم تكتف باحتلال القصور الرئاسية والمراكز الحزبية البعثية بل سيطرت ايضا على بعض الفنادق والمدارس والمجمعات السكنية حيث اتخذت اجراءات أمنية ضخمة. ففي سبيل تفادي الهجمات المحتملة بالسيارات المفخخة، باتت بغداد مخترقة بتحصينات كبيرة من الباطون يسمّيها العراقيون "جدران برلين" ويتطلب اجتياز هذه الحواجز تدابير أمنية مشددة وصفة متميزة لمن يرغب في هذا الاجتياز.
فالسلطة المختبئة في هذه المعازل تبدو عصية المنال على العراقيين ويحوطها الغموض. أما القدرة التقريرية الرئيسية فمحصورة بين يدي رجل واحد هو السيد بول بريمر المعزول عن الناس بواسطة جهازه الامني الخاص ودائرة من المستشارين يذكّرون بالوشاة الذين كانوا يحيطون بالطاغية. فجميعهم يعيشون ويعملون داخل هذه المعاقل، يتنقلون بين واحد وآخر بواسطة مواكب عسكرية يثير مرورها القلق في نفوس العابرين العاديين على الطرق. هكذا تتخذ القرارات الجذرية خلف الاسوار وتأتي نتيجة مسارات سياسية تبقى آلياتها في منتهى الغموض.
وتعطي هذه القرارات العشوائية في ظاهرها انطباعا بانه يمكن الرجوع عنها عند الاقتضاء لكثرة ما تميزت به من تناقضات وتراجعات حتى الآن. فالعراقيون ما زالوا يعيشون في مناخ من الشائعات والتسريبات الحقيقية او الخيالية والنظريات الضبابية. فهم ينظرون الى شبه الحكومة الراهنة على انها مؤسسة في الواجهة تخضع لارادة السلطة الاميركية على غرار ما كان الوزراء عليه في عهد صدام. فالابتعاد البنيوي يتزاوج مع غياب سياسة تواصل حقيقية مع الشعب ليخلق جوا مؤاتيا لكل الافتراضات حول نيات قوات الاحتلال.
يسقط العراقيون بالتالي على المسؤولين الجدد ثقافة سياسية موروثة من النظام القديم، وهذا عامل استمرار رئيسي بما انه يحدد تصورات تتطابق مع التجربة المعاشة في ظل الطغيان. وخير مثال على هذا الوضع، الالتباس النموذجي التالي: يوم دعا الجيش الاميركي العراقيين الى التعاون معه في مجال الامن تسهيلا لاعادة الاعمار ورفع شعار "اعطونا الامن لنعطيكم الكهرباء" اعتقد العديدون ان الكهرباء متوافرة... وان قطع التيار الكهربائي المتواصل عنهم هو مجرد عقاب لهم. ويمكن تخيل مفعول هذه الهفوة في مدينة كالفلوجة  التي تعتبر نفسها عرضة لاعمال قمع غير مبررة.
ينحو المحتل ايضا منحى النظام البائد عندما ينزع اولا بأول الى الدفاع عن مصالحه الخاصة تحت غطاء خطاب يعتمد المصلحة العامة في الشكل فقط. فأمن الرعايا الاميركيين، النخبة الجديدة الحاكمة، يفوق كل اعتبار وعلى نحو مبالغ فيه كثيراً. وتعمل قوات الاحتلال على استبدال جنودها بالعراقيين في المواقع الاكثر عرضة ولا سيما في نقاط التفتيش. ويرتفع عدد الضحايا بين المدنيين بسبب الاوامر المتساهلة لاطلاق النار. لكن يتم تصوير هذه التضحيات على انها ضرورية في سياق سيل الاتهامات الذي يرفض التفحص الموضوعي للمعارضة المسلحة اذ يعتبرها بشكل منهجي مجرد اعتداء على الشعب نفسه. ففي الخطاب الرسمي يعمل "البعثيون" و "الارهابيون" المصنفون في خانة الاشرار ضد العراقيين قبل كل شيء. لذا فان العراق، وفق هذا الترويج، مهدد من عدو يصعب القبض عليه وهو مصدر المراوحة الحالية في الاوضاع وعدم حدوث أي تقدم ملموس في منحى من مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في البلاد. وحده القضاء على هذا العدو من شأنه ان يفتح باب التقدم وعلى الشعب ان يدرك ان معاناته انتقالية في الوقت الذي تكرس فيه السلطة جهودها وتضحياتها في هذا الصراع الجوهري. نلتقي هنا مع جوهر خطاب صدام حسين حول الحصار الذي كان مفروضا على العراق والذي استخدمه الطاغية ذريعة لكل تجاوزاته اللاإنسانية . فبالنسبة للسيد بريمر "ان المهم هي الحرية (...) وعلينا تجاوز اعمال العنف وازمات التموين لنذكّر بمجموعة من الحقوق يتمتع بها العراقيون اليوم بفضل انتصار التحالف" كما يقول . بالطبع "ان خسارة الارواح البشرية مأساة للمعنيين لكن عددهم محدود جدا في واقع الامر" كما يدعي السيد بريمر. في الواقع ان عددهم غير معروف بسبب غياب جهاز لإحصاء الخسائر والتحقيق في "الهفوات" المرتكبة.
يرفع الاحتلال بصورة عامة عن نفسه وبحدة اي مسؤولية في اعمال العنف والخلل في آليات العمل. فمن الضرورات الاعلامية ان تمتنع الادارة الاميركية عن اي إقرار بسؤ التصرف، لا بل انها تنهل من عذابات العراقيين الماضية والحاضرة لاغراض دعائية ثمينة. فالمقابر الجماعية تم كشفها للملأ على حساب اي عملية توثيقية جدية يمكن ان تؤدي الى محاكمات.وإلقاء القبض على صدام حسين سيستثمر إعلامياً ودعائياً إلى أقصى حد في حملة الرئيس بوش الانتخابية ورفع شعبيته المتدهورة قبل تاريخ القبض على الدكتاتور، كذلك فلا اهتمام يذكر بالمصالحة الوطنية العراقية بينما تم قتل نجلي الطاغية بسرعة  في الوقت الذي كان يمكن تطويق المنزل الذي كانوا فيه دون كبير عناء.
فلا يصار الى افساد مغزى معاناة العراقيين باسم المصالح العليا للمحتلين فقط بل ان الشرطة التي اعيد تفعيلها للتو تستخدم في حماية القواعد الاميركية. أما اجهزة المخابرات التي كان خروجها على الشرعية يمثل تحديا للمستقبل فيصار الى اعادة تكوينها تدريجيا على اسس غامضة. يبقى ان نفترض ان الروزنامة الانتخابية تنسجم مع الاستراتيجيا الرئاسية للسيد جورج والكر بوش كمؤشر الى "التحول الديموقراطي" في الشرق الاوسط. وهذا ما يوحي الى اي مدى تهيمن مصالح الاحتلال الخاصة على الساحة السياسية العراقية. وفي المحصلة وضعت الادارة الاميركية في بغداد نفسها في وضع غريب وغير متوقع في آن واحد، عندما امتلكت العديد من ميزات "ديوان الرئاسة"، مركز السلطة الفعلية تحت حكم صدام حسين.
تسري ثنائية مشابهة بين سلطة فعلية تمتلك وسائل ضخمة وجهاز دولة منكوب. فبينما المواطنون متروكون من دون رعاية، تستضيف القصور المحصنة النخبة صاحبة الامتيازات المحاطة برجال مسلحين موالين تماما لها وهي تحتكر الاموال المتوافرة وفق آليات (نفقات تشغيل باهظة او فساد بكل معنى الكلمة) لا تبتعد كثيرا عما كان سائدا من منطق سابق مختصره ان "القوي يأكل الضعيف".
نصل هنا الى اهم عوامل الاستمرارية مع الطغيان السابق الا وهو ان الشعب المنهك بسبب حكم صدام حسين يهتم اولا ببقائه على قيد الحياة فيظهر عجزه عن التحرك في مواجهة السلطة. فهو اعتاد الشعور الاليف بأنه مقصي عن وطنه وموارده ومصيره. لذا فان انتظارات العراقيين متواضعة وعملية الى حد يصعب تصوره على المراقبين الاجانب وهناك موقف نمطي كاف لاختصار الموقف: "الاميركيون طامعون بنفطنا. ونحن لم نكن نستفيد منه في عهد صدام فاذا تركوا لنا قسما منه لا بأس بذلك...". 
في هذا الاطار تتضاعف النتائج الايجابية لبعض التقدم الذي تجهد قوات الاحتلال في تحقيقه بينما في المقابل تبقى ملطفة مفاعيل الاخطاء التي لا تحصى ومنها الدراماتيكية مثل قرار حل الجيش العراقي. بالطبع تم اعتقال بعض الوجهاء من رجال الدين وزعماء عشائر مرموقين. الاخطاء تتوالى، ويتعرض من حين لآخر ركاب سيارة للدهس بواسطة مدرعة عسكرية... لكن لا يبدو ان تمردا حقيقيا قابلا للتفجر ولا حتى تظاهرات تضم اكثر من بضعة آلاف من المشاركين.
فالفكرة الشعبية القائلة بان الرئيس العراقي السابق مهّد الطريق امام الاحتلال لها بالتالي ما يبررها اذ ان حكمه ضرب حصانة الشعب العراقي الذي لا يمكن اعتباره "أمة" الا بصفة مؤقتة. فالعراقيون في سوادهم الاعظم باتوا يخشون الخروج المبكر للقوات الاميركية والذي قد يتسبب في اندلاع حرب اهلية. فقوات الاحتلال تتمتع اذن بشرعية الحد الادنى نفسها للنظام السابق. اي شرعية الخوف من الفوضى.
هنا تتوقف المقارنة مع الماضي، فقوات الاحتلال، خلافا للنظام السابق، لا تريد فرض نفسها بأي ثمن على السكان. فالجيش سينسحب في غالبيته والادارة الاميركية سوف تجد وسائل أقل فظاظة من الاحتلال العسكري للدفاع عن مصالحها في العراق. أضف الى ذلك ان اهدافها الحالية تحمل الامل للشعب العراقي بسبب الضغوط التي تمارس على فريق الصقور داخلها. بالطبع ان الاهتمامات الانتخابية للرئيس بوش تبقى مهيمنة لكنه مضطر لتحقيق النجاح في مهمته... وهذا النجاح يفترض نقل السلطة الى العراقيين. بحدو  دشهر  حزيران من العام القادم 2004 وتشكيل حكومة انتقالية ذات سيادة تمهد لإجراء انتخابات عامة وحرة وديموقراطية في غضون عام 2005 .فهل ستسكت القوى المناوئة للوجود الأمريكي عن هذا السيناريو المتفائل؟ وماذا ستفعل ومن هي الجهات التي تمارس العنف المسلح ؟
اذا صدّقنا الخطاب الرسمي للادارة الاميركية فان المعارضة المسلحة تقتصر على بعض آخر الفصائل "البعثية" وفلول النظام المباد التي تلقت دعما من "ارهابيين" اجانب حيث يجتاز المئات منهم بصورة مستمرة حدود العراق وفقا لما صرح به "الحاكم"  المدني الأمريكي بول بريمر. لكن  التأمل في المشهد العراقي اليوم يكفي لتكوين صورة اكثر تنوعا وتعقيدا عن واقع الحال في العراق.
مما لا جدال فيه ان عناصر موالية للنظام السابق شكلت بالفعل خلايا للمقاومة على قاعدة العلاقات العائلية والمهنية. وقد ترك البعض منهم مراكزهم في الاجهزة الامنية حاملين معهم ادواتهم التقنية والعسكرية. ويستفيدون ايضا من مخابئ للاسلحة وزعها النظام السابق في شتى الانحاء. بيد انهم لا ينفذون استراتيجيا وضعها صدام حسين الذي كان عاجزا عن التكهن بسقوطه...
ان هذه الخلايا تأتي نتيجة تداعي النخبة الحاكمة السابقة وبعد بداية عشوائية أخذت تتشكل شيئا فشيئا لتعيد انتاج الهرمية التي كانت سائدة قبل الحرب. لكن لا يجدر بنا الافتراض ان الحرس الجمهوري والمخابرات ذابت في "المثلث السني" من اجل متابعة الحرب. فان مدنا مثل تكريت وباجي او شرغات تضم العديد من هؤلاء العناصر لكن الغالبية تفضل انتهاز الفرصة للاستفادة من الحياة... كما في الماضي.
كذلك يجب عدم اهمال وجود مقاتلين اجانب. كيف لا يدخلون الى بلد تمّ حل اجهزة المخابرات فيه وبقيت حدوده من دون رقابة لمدة ستة اشهر؟ فوجود هؤلاء الاجانب لا يخفى على احد بسبب لهجتهم وعاداتهم الخفية والشاحنات الصغيرة التي تقلهم في ساعات الصباح الباكر مما يفضح وجودهم امام الجيران. وهم يلقون الرعاية من عراقيين أئمة او تجار ميسورين ويثير وجودهم مشاعر متعارضة من الخوف والتعاطف او اللامبالاة.
هل يمكن مع ذلك ان نعتبرهم جيشا من الانتحاريين؟ يجب التمييز بين الفدائيين المتحمسين للمواجهة مع الولايات المتحدة ـ ولو دفعهم ذلك الى الموت كما في زمن الحرب ـ وبين مجموعات قادرة على ارسال متطوعين يفجرون انفسهم في سيارات محشوة بالمتفجرات. ان الفاصل الزمني بين هذا النوع من الهجمات يشير الى انه لا وجود لخزان لا ينضب من الافراد المستعدين لتفجير انفسهم الا في مخيلة الغربية.
هكذا، خلال الحرب لم يترجم تدفق الفدائيين بموجات من العمليات الانتحارية. على الارجح ان مجموعة خلايا شبكات العنف المنبثقة من النظام السابق لم تشرف على الاعتداءات على فندق بغداد ومراكز الشرطة في بغداد والتي تبدو من توقيع منظمات ذات خبرة في هذا الميدان. لكن ما حاجة شبكة مثل "القاعدة" الى بعض المئات من العناصر المتسللة يتحولون بسرعة الى طابور خامس ارهابي غير مجد على المستوى اللوجستي وغير مضمون على الصعيد الامني؟
تتعقد الظاهرة مع بروز اطراف أخرى، بدءا بالاسلاميين العراقيين المتطرفين المتصلين بنظرائهم الاجانب. اما الصلة غير المتوقعة فتتم بين الاسلاميين وبقايا الصداميين اذ يستجيب هؤلاء لحاجات اولئك اللوجستية ولتشكيل نوع من القيادة. يضاف الى هؤلاء افراد اثرياء يمولون خلايا م العملاء او يكافئون مجرمين عاديين على ارتكابهم الهجمات. اخيرا تسجل ضربات من قبل أفراد منعزلين ناتجة من الثأر او من هفوات وفظاظات يرتكبها الاحتلال بحقهم أو بحق أقاربهم. من المستغرب بالتالي صدور تصور عن الجانب الاميركي مفاده ان هناك قيادة مركزية متجسدة في  صدام حسين إن لم يكن في عزة ابراهيم الدوري. واللافت هو التنوع الكبير في الدوافع. فحتى بين أنصار الطاغية المفترضين، تبقى الاشارة الى صدام حسين ملتبسة. فالاشخاص الذين القي القبض عليهم وجرى التحقيق معهم من جهاز الامن السابق لا يبررون افعالهم بإمكان عودة النظام البائد بل بمزيج من الواجب الوطني والديني والنزعة الانتقامية. وفي خطابهم لا يظهر صدام حسين الا كرمز للماضي والشجاعة والوحدة داخل معارضة مهمشة. وان اعتقاله او القضاء عليه سيقضي على الارجح على مقاتلين من هذا الصنف ليس بسبب قدراته العملياتية بل بسبب الشحنة الرمزية المرتبطة بشخصه.
كذلك فإن اعمال العنف بالغة التنوع ولا تقوم جميعها، من اعتداءات او اغتيالات، على مقاومة الاحتلال. ففي بعض الحالات تحوم شكوك جدية حول بعض الشخصيات او الاحزاب السياسية. وفي حالات اخرى فإن الشائعات تحمّل وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية او الأجهزة الاسرائيلية او الايرانية، المسؤولية. فطالما ان واشنطن مصرة على تحميل "اتباع النظام السابق ـ الارهابيين" وزر اعمال العنف فانه يتم التداول بالنظريات الاكثر خيالية. خلافا للدعاية الاميركية، يمكن استنتاج خلاصتين، الاولى ان المواطنين ليسوا مستهدفين حتى الآن بالرغم من الخسائر التي تقع في صفوفهم والثانية ان اي عملية لم تقدم حتى الآن البرهان على تعاون بين الصاميين و"الارهابيين".
مع ذلك فان هذه الخلاصات ليست بمنأى عن التقلبات، فالمعارضة المسلحة هي قبل كل شيء ظاهرة دينامية متغيرة. ان حل اجهزة الامن العراقية والنقص الذي يعانيه الاحتلال لجهة المعلومات بالطرق التقليدية اتاحت امام مختلف فصائل المعارضة فرصة ستة أشهر للتنظيم والتلاقي الى حدود لا يمكن التكهن بها. وقد برهنت حملات المداهمة ضدهم عدم جدواها كما ان العمليات العسكرية ارغمت قوات الاحتلال على التكيف مع اشكال متنوعة من الاخطار. فالقوافل الاميركية باتت تترافق مع تغطية جوية فعالة كما تم تأمين طرق كانت خطرة في السابق. وتتزايد اعمال التفتيش فيما تتضاعف التحصينات حول معاقل الاحتلال.
هذه الترتيبات تدفع بدورها الخصم الى التكيف الدائم وهذا ما ينعكس في تطور تقنيات الهجوم والاستهداف. وهذا ما يجعل شبح الاخطار غير المتوقعة يحوم دائما في الاجواء. فلنتخيل مثلا انه تم اطلاق بعض بقايا الاسلحة الكيميائية بواسطة مدفع هاون على تجمع للجنود... ان الولايات المتحدة في سباق مع الزمن ضد عدو لا تعرفه جيدا وهي اذ تدرك الفجوات تتكل اكثر فأكثر على الشركاء المحليين من مخبرين واجهزة امن اعيد احياؤها، او احزاب تشارك في مطاردة فلول النظام السابق كالحزب الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني وحزب الدعوة الشيعي والمجلس الاعلى للثورة الاسلامية.
لن يربح الاميركيون السباق هذا من دون خسائر ولا يفترض المبالغة في حجم التحدي الذي يواجه قوات الاحتلال. فالمعارضة المسلحة لا تتمتع بدعم شعبي حقيقي. ان الشائعات حول اختطاف مجندات اميركيات تعبّر عن الرغبة في الاذلال الرمزي لهذا الاحتلال كما ان بعض العمليات المشهودة (اطلاق الصواريخ على فندق الرشيد، اسقاط الطوافات العسكرية...) ترفع معنويات العديدين. لكن ردود الفعل هذه تعبّر قبل كل شيء عن شعور بالمهانة. فالمواطنون لا يزالون عمليا في وضع سلبي.



#جواد_بشارة (هاشتاغ)       Bashara_Jawad#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العراق : اليوم وما بعد اليوم هل يمكن أن تصبح بلاد الرافدين ف ...
- من الانتداب الأول إلى الانتداب الثاني: إنهيار نظام ما بعد ال ...
- تداعيات من داخل الجحيم البغدادي
- الإسلام يهدد الغرب أم يتعايش معه ؟
- من الانتداب الأول إلى الانتداب الثاني: إنهيار نظام ما بعد ال ...
- من الانتداب الأول إلى الانتداب الثاني: إنهيار نظام ما بعد ال ...
- رؤية أمريكية للوضع في الشرق الأوسط
- من الانتداب الأول إلى الانتداب الثاني: إنهيار نظام ما بعد ال ...
- أمريكا ومنهج التجريب في العراق : قراءة في تحليلات وسائل الإع ...
- الرؤوس المفكرة الأمريكية في خدمة الدولة العبرية
- التيار الديني معضلة واشنطن في العراق
- تقرير عن حقوق الإنسان في العراق
- حلول اللحظة الأخيرة للمحنة العراقية
- عراق الأمس وعراق الغد : بين طموحات التحرر ومطامع الإمبراطوري ...
- حرب النفط الأمريكية وإعادة رسم خارطة العراق والعالم العربي
- مأزق واشنطن في العراق: نظرة تجديدية
- تحية إلى الحوار المتمدن نافذة مضيئة للرأي الحر
- النتيجة المجهولة في المعادلة العراقية
- عالم المخابرات السرية والأمن الداخلي في فرنسا
- لإسلام ماله وماعليه - الجزء الثاني


المزيد.....




- جنرال أمريكي متقاعد يوضح لـCNN سبب استخدام روسيا لصاروخ -MIR ...
- تحليل: خطاب بوتين ومعنى إطلاق روسيا صاروخ MIRV لأول مرة
- جزيرة ميكونوس..ما سر جاذبية هذه الوجهة السياحية باليونان؟
- أكثر الدول العربية ابتعاثا لطلابها لتلقي التعليم بأمريكا.. إ ...
- -نيويورك بوست-: ألمانيا تستعد للحرب مع روسيا
- -غينيس- تجمع أطول وأقصر امرأتين في العالم
- لبنان- عشرات القتلى في قصف إسرائيلي على معاقل لحزب الله في ل ...
- ضابط أمريكي: -أوريشنيك- جزء من التهديد النووي وبوتين يريد به ...
- غيتس يشيد بجهود الإمارات في تحسين حياة الفئات الأكثر ضعفا حو ...
- مصر.. حادث دهس مروع بسبب شيف شهير


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - جواد بشارة - على مفترق الطرق : العراق وآفاق الحل