آرام كربيت
الحوار المتمدن-العدد: 2260 - 2008 / 4 / 23 - 10:30
المحور:
سيرة ذاتية
رن جرس الهاتف.
كان المساء بارداً, يغط في حلم الكون وسطوة الوجود.
رنين الهاتف أيقض السكون المسترخي في بيتي من غفوته, ممزقاً جدارالصمت المتناثرفي أرجائه, ناثراً هبوب الرياح القطبية الباردة في فضاء متواتر. قال الصديق:
ـ لقد ماتت كريتل, سأذهب إلى كنيستا/gnesta/ لحضورجنازتها, هل تأت معي. قلت دون تردد:
ـ نعم. سأذهب معك, متى سننطلق, في أية ساعة من ساعات النهار. قال:
ـ سأكون عندك في الساعة العاشرة صباحاً. كن مستعداً. قلت:
ـ اتفقنا.
كنت في وحدتي, في غربتي الغريبة, غارقاً في نبش ذلك الانفصال الطويل عن دائرة الضياء والوطن, الأهل والأحبة والأصدقاء. أرسم لون الحنين إلى زمن كان زمناً, أجنحة القطا والحجل وشلالات جداول على نهر الحياة, أجدف فصول من خرز وأكتب حكايات ستروى على مسامع الليل. أجلس وحيداً, أنهل من ذلك الأفتراق الذي مضى رعشة الأمل والعودة إلى ماض لن يعود.
رحت في شرود, غرقت في نبش الماضي, فرشت صورالملائكة على ضفافي الغائبة حتى تزين الحلم حولي. زرعت النجوم العالية, الكثيرة والبعيدة في غابات السماء العميقة. مددت بصري فرأيت طريقاً طويلاً, طريقاً متعرجاً تقبع خلفه أسرجة خائبة الضوء خافة الوميض تدفع أثلام اللون وراء جدار الزمن كي تدحرجه.
كان الزمن مواسم أعياد حزينة, بيارق محملة على زنانيرالفضاء المكتوبة بحروف قلقة, حروف متلجلجة, تنبسط حول محيط مفروش على الهوام, ترسم صدى احتفالات متوسلة, راحلة.
مشيت قليلاً في البيت, سرت كما كنت أسيرفي أزقة بلادنا الضيقة, حاملاً على وجهي لوناً ضارباً إلى لون لا لون له, لوناً ملتفاً حولي, كراية منكسة فوق أهداب الجفون.
صوت صديقي أيقظ غفوتي الضاربة في شرود, أعادني إلى نفسي, إلى سنوات خلت, سنوات العافية والوجع, ينابيع الحزن والفرح. قلت لنفسي بصوت عالي:
ـ إذاً لقد أنطفأ ذلك البريق الجميل, أنطفأ ذلك الأسم الذي كررته في مناسبات كثيرة, ولقاءات عدة.
لقد ماتت كريتل!
هواء الليل كان ثقيلاً علي, ضارباً إلى غروب, لسعته فوق سروج قلبي ثقيلاً متماوجاً كظل الأوراق العتيقة, كأنطفاء الضوء فوق الأغصان المنسابة إلى الرحيل. عدت أرتب حدود أنفاسي, أعاين حدود التنافرات والتجاذبات التي سرت في داخلي كغيمة مشتعلة باللون الأسود الداكن. تمتمت أسمها في غواية, في لمعان مرصع بالنجوم القاطنة في لب الكون. حزن عميق أخذني إلى واد عميق وأغرقني في ذهول لا حدود له. رحت أنصت لتكسر أوراق الأشجار وهي تتمايل فوق أنزلاق أزقة العاصفة المصطدمة برنين الكون وخفقان الروح, أدفع الأشتهاء لتمتلئ بأمتلاء التجاذب بين نظائره الملغزة.
لقد ماتت كريتل.
امرأة من من معدن أصيل, جبلة نقية, جبلة من طين صاف التكوين.
امرأة سويدية اللون, الوجه والقسمات, الروح والقلب. لم أرشكلها أوطول قامتها, لون عينيها أوشعرها. جاءني صوتها من الماضي كتأريخ, كبوابة فرح للولوج إلى قدرغامض. جاءني صوتها عميقاً موغل في القدم, كإنسان مدون في عمق أستدارات الوجود, كراية مرسومة في قسمات الصخور, في مدونات التكوين, كملاك طاهرفي كتابات الأولين, كخيال من خيال, كخيال من صورمعلقة على عرين الإرث الإنساني المتناغم مع بدء تكوينه الطاهر.
صوت صديقي المرتبك جاءني على ورق الريحان والريح محملاً بالحزن العميق.
كنت مرتكباً مثله, زائغ العينين والرئتين, وحزن عميق يداهمني في احتشاءي للهواء الخامل في عمق وحدتي. شبح صوتها الحاضركان حاضراً معي, مسامراً أختلاجات أنفاسي, يؤرقني ولا يريد أن يغادرني مدة إحدى وعشرين سنة.
امرأة, إنسان معجون من تأريخ نظيف ونقي.
لم أراها على الاطلاق, كما لم تراني أو تسمع صوتي. هي ليست أحجية أو شيئ من الخيال, أنها حقيقة. كانت الأقدارجمرة مشتعلة تطرق باب دارنا في لمعان انسلال الضوء على بيادرحياتنا. كنت واقفاً.. أجول النظر.. أحاول لملمة الضوء المخبوء المتناثر على الجدران العتيقة.
أعجن بقايا الانكسارات الغافية على صدر الريح..
أحرس جموع التلاشي
أرصد الخطا..
عند ذلك الأصيل المتعب
عندما انطوى الزمن مقرفصاً.. متكئاً على لوحة عجوز فانية..
كنت واقفاً.. اختلس الرؤى الميتة..
أستجدي عذوبة الأقدار وأوجاعها.. أبذرالاحتمالات المحتملة فوق الرياح القادمة من خلف الضباب, أرصد نفسي على أبواب الدارالعتيق, تفسد شهواتي الحزينة..
أقف متعلثماً على مصطبة الزمن.. مصطبة الأدراج الخائبة.. النائمة فوق صدى السنين المرهقة.. تاركاً الهواجس المجنونة تقتحم خيالاتي المدربة على الألوان الرمادية الداكنة.
مسمراً في مكاني اتبضع الاحتمالات القادمة..
كريتل, اسم مطبوع على جدار قلبي, كقدرجسور, كألفة غريبة, كسنين متعاقبة فوق بعضها على خيال الريح, نافرة ألسنتها كرقيم على جلدي وذاكرتي.
بقي صوتها حاضراً بقوة على باب قلبي يقرع إيذاناً بخلخلة الفراغ, فاسحاً المجال لإيقاع الصمت.
صوت كريتل كصدى زمن حاضرفي وجداني وقلبي. ضحكتها القوية في صدري, لم يغادركياني إلى هذه اللحظة الرائعة.
عندما تكلم صديقي معها, كان الربيع مزاجياً عند ذلك الأصيل المرهق, يلعب بين أصابع الوقت والغيوم السوداء المتناثرة على شكل كتل سوداء متدافعة في صدر السماء. كان ذلك بداية العام/1987/ لحظة أبتهال للمفارقات, لحظة أعترافات للسماء المملؤءة بالغيوم الغاضبة على شكل ضباب متدافع.
كانت كريتل معطاءة.. شهمة, كريمة.
لقد تبنت الكثيرمن الأطفال الرضع, ربتهم ورعتهم وأعتنت بهم إلى أن بلغوا مبلغ الحلم والوصال مع الحياة والقدر.
لم تكن كريتل تريد شهادة من أحد نبراساً على طيبة قلبها ونبلها وسعة صدرها ومعدن روحها الأصيل.
كانت تمنح الآخرين السعادة والفرح دون مقابل. كانت قناعتها منها وفيها, خدمة إنسانية مجانية دون تحضير مسبق أو تصنع زائف. عندما كانت تفعل ذلك لم تكن تريد بركة من المقدس أوشهادة من الأولياء الصالحين على حسن سلوكها. فعلت ذلك لأنها أرادت أن تفعل, لم تنتظر من أحد أن يرد جميلها بجميل أكبر. قال لها:
ـ لدي مشكلة يا كريتل. قالت:
ـ قل يا صديقي ما تريد قوله, إنني أصغي لما تقول. قال:
صديقي بجانبي, يحتاج إلى مساعدة. قالت بأبتسامة هادئة:
ـ ماذا تريد مني أن أساعده يا صديقي. قال:
ـ ذئاب بشرية كثيرة تدورحول بيته, تحوم حوله, تريد أن تنهش في لحم أسرته, ذئاب جائعة تبحث عن مضغة, قأقأة تضعها تحت لعاب نعال أفواهها الكريهة. كل شيئ لديها صالح للهضم والأفتراس. أفواه الذئاب القذرة حادة الأنياب تبحث عن اللحم الحي الطازج كي تمزقه أرباً أربا ثم تتركه يباب أسود.
هذه الذئاب متماوجة الذهن والقلب, ممرغة الرؤوس بالمقدس, بالصنم المحنط, مرهونين للرمز النائم فوق أجفانهم عشرات الآلاف من السنين. هذا المقدس العاقرما زال إلى الأن جاثياً فوقهم كقدر فوق قدر, لا يبارح صدورهم وأنفاسهم النتنة. كل شيئ ممرغ بالمحنط والمقدس والتكرارالأجوف. الرأس مرهون لذلك الرمز القابع فوق رؤوسهم الجامدة, يلوك بهم ويلوكون به, يشكل حياتهم وآرائهم وضربات قلوبهم الفارغة كسفينة راحلة إلى سراديب نتنة:
ـ هل تسمعيني يا كريتل. قالت
ـ أسمعك جيداً, لكني لا أفقه شيئاً مما تقول. عن ماذا تتكلم يا صديقي العزيز. قال:
ـ حكايتنا عويصة يا كريتل, تحتاج إلى وقت طويل وجهد أطول كي أشرح لك ما أريد ان أقوله. كان صديقي يتكلم من بيتنا عبرالهاتف العادي.
لقد أتقن صديقي اللغة السويدية عندما عاش في السويد مدة عامين في ريعان شبابه وشكل مع كريتل صداقة عفوية ونزيهة في زمن ما. أردف قائلاً:
كل النساء في بلادي أسرى تحت أجنحة ظلال المقدس, سطوته, أنهم, إننا رهائن للمحنط والصنم الجاثي على قلوبهم, قلوبنا منذ أن تناسل المقدس وخرج من عمق الزمن والسنين المتناثرة المرمية في الاعماق المندثرة. لقد بايعنا عقولنا وأرواحنا وقلوبنا لذلك الميت الحي المستيقظ دائماً في نفوسنا ليلاً نهاراً قالت:
ـ أسرى, مقدس , رهائن, مبايعة, ميت, حي, ما هذه النواميس الجامدة التي تتحدث عنها يا عزيزي. تكلم شيئاً مفهوماً يدخل العقل ويتمثله الوعي. قال:
ـ المقدس موجود في كل العالم, بنسب, لكنه مكثف في بلادنا. ومضى يتكلم:
ـ أريدك أن تساعدي أخته في الغربة, في السويد. فتاة في العشرين من العمر, وحيدة, غريبة, غرة, غدربها الصنم والمقدس, القدرالغامض. هذا المحنط أغرق أحلامها في لجج عميقة. أنها حزينة, يائسة, دروب الحياة مغلقة أمام قلبها وعينيها, لفظها مجتمعها, ناسها وزمنها المهزوم مثل عيون النساء الجميلات في بلادنا.
يتبع
#آرام_كربيت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟