عبد الرزاق حرج
الحوار المتمدن-العدد: 2259 - 2008 / 4 / 22 - 10:24
المحور:
سيرة ذاتية
ولا فرق على الآطلاق, هنا, بين قاتل وكاتب يشارك قاتلا في مشاعره ونواياه وأفعاله ودوافعه. إن مايفرق بين القاتل المحترف والكاتب القاتل, هو أن الآول ينخرط دون تفكير في فعل القتل, بينما يستخدم الثاني وعيه لممارسة ذلك. فالثقافة, حتى ثقافة القتل والموت, هي وعي عقلي ومحتوى نفسي مصاحب له, إضافة الى مهارة فنية تعين ذلك الوعي على أظهار صورته خارج الذات الواعية. ...سلام عبود ..أديب وباحث عراقي ..
كان الصباح الصيفي يسخن الجلد والجدران الآسمنتية تفوح منها الآبخرة..وأقدامي المحشورة بحذاء قديم ومتعب قادني بعد أداء التحية الصباحية على شغيلة المقر والتسجيل ..الى مواجهة أمام الباب الخارجي للمقر ....حشر من الناس بوجوه دهنية صفراء ومحببة ومقهورة وعيون غائرة ومتوسلة وسائلة بمحاجر مظلمة وباكية والدخان الرصاصي يتطاير من الآنوف والافواه من اثر السكائر الردئية ..رجال مشردين بدشاديش طويلة,,, ضاعت ملامحهم من قضم عث الماء المالح والتسكع والصنادل الجلدية حازة أقدامهم بخطوط الطول والعرض ..وغبار نوم شوارع المدينة عفن الآجساد والرؤوس الغير حليقة..أمرأتان ..الاولى تلبس ثوب طويل صيفي,, التاثت أقدامها الطويلة ونعال النايلون من كوم الطين.. جالسة والدموع تغسل خدودها ووجها الجاف كجلدت حزام العتالين العريض المسود والمهروس من تراكم سنين الشد وترطن بكلمات كردية قرب الباب والعباءة السوداء الصيفية منزوعة من شعرها الطويل منسابة على أكتافها المقوسة الى الآسفل..والثانية يحصر قامتها القصيرة والثخينة فستان يعكس على وجهها المدبب والآسمر لونه السماكي ينتعل أقدامها القصيرة صندل نسائي مخرم واقفة مع رجل شارد الذهن قرب مدخل باب التسجيل..تلتفت برأسها الكبير على المرأة الباكية بين مرة وأخرى ولسانها الرماني يدوس على أطراف أسنانها المتفارقة ..أقتربت من الحشر وسلمت عليهم ..ردوا التحية بعيون متسائلة ..أقترب مني رجلان أيديهم كعودان الكبريت المحترقة ..رموا أعقاب السكائر بخفة ..قالوا لي ..مرحبا أخي ..توقفت بوسط الممر الفاصل بين باب المدخل والخروج ..قلت لهم ..أهلا أخوان ..قال احدهم ولحيته غير محلوقة من عدت أيام ..والله ما أعرف شكلك ..أخي ..أستاذ ..لو رفيق ..من فضلك ..أشوكت يجي المسؤول الحزبي ؟؟..قال الثاني وعفونة فمه يهرب منه نشاط الصباح ..يمعود ..والله صار أكثر من أتلث تيام ..نايمين بالشارع ..بدون أكل وشرب ..وأحنا أجينا من البصرة هاربين من ضيم صدام ..أشو رحنا الى جماعة الوفاق الوطني .. محد أستقبلنا ..وفوك هاي( الآسايش,) كل يوم تحقق ويانه ..زين بربك وين أروح ..وخاطبني الآول ..أحنا عسكرين وهاربين ..ونصحونا الناس أهل المروة..أن نقابل مسؤول الحزب العربي بهاي المحلية .. والثاني أردف بأسم المسؤول ..المدعو ..أبو فلان ..نظرت لهم بتأني وعيناي تشيط غضبا من أنعكاس الشمس الطاغية..قلت لهم ..أنتم سألتوا التسجيل ..أجابوني ..بكلمة نعم ,,وبلغنا التسجيل ..سوف يحضر المسؤول ..لكن تعرف ..أحنا وصلنا من الصبح ..قال الثاني بصوت كصوت الرجال في الماَتم الجنوبية حين يفقد أنسان عزيز وقابع بالنفس
..ييييييييييييييييييييييا بن عمي ..(ألي أيده بالنار مو مثل ..الي أيده بالماي البارد) ..والعاقل يفتهم!! ... أقترب مني الرجل شارد الذهن ..(قاتل بن سباهي) ..بوجهه كحبة لوبيا جافة ..أنتبه أيها القارئ ..أنا لم أقل جزافا( قاتل بن سباهي أو سهوا بنسيان أو سقوط العبارات من فم يتشدق بسيولة الكلمات السريعة والتهم الجاهزة ..لكن سوف أثبت ذلك بالآدلة ومقرونة بالبراهين )!!..قال لي السلام عليكم ..قلت له وعليكم السلام ..قال لي.. ووجهه الكسول تدميري ومحتال ..عفوا ..أقدم لك نفسي ..أنا من بغداد ..قلت له ..أهلا وسهلا ..ووجهي الكحلي ساح فيه الماء المالح ..كلما أحرك أطرافي أحس بنغزات ورطوبة سيول العرق على ملابسي النظيفة,,..قال ..اليوم أبو فلان أتاخر ..قلت له ..أعتقد أنت مع القول ..(الغايب عذره وياه)..قال لي ..أنا أتفق معك ..(وتعرف المرة مو مثل الرجال) ..وألتفت على المرأة القصيرة ذو الشعر القصير ..وقال ..تلك المرأة هي زوجتي ..قلت له ..جيد ..بدأ يتكلم من مغارة فمه العريض بسرعة وفوران عباراته شاكية متهدلة قافزة غير مترابطة أتضح من خلال جملة الغير منتظمة مصاب( بالذهان,)..جاء المسؤول بقامته النحيلة ورأسه أصلع ولامع من جهنم الشمس ونظاراته الطبية حابسة عيناه الصغيرة على وجهه الحنطي..أحاطوا به نباشي الشوارع والساحات المقطوعة,, أصبح كخطيب ثوري وسط هؤلآء المتسكعين والتائهين ..قال ..نحن ..أي الحزب ..سوف نفتح بيوت مستأجرة ..تناموا بها وتأكلوا ..لكن يجب عليكم الآنتظار ..بفتح تلك الدور ..ألتفت لي ..قال ..كيف الآحوال ..قلت له ..والله لحد الآن ماشية ..تفرق الحشد وصفارة الحزن توسوس بنفوسهم ..الرجل الذهان وزوجته..تكلموا مع المسؤول الحزبي والوقت يمر بدقائق بطيئة ..ودعوا المسؤول وساروا الى الشارع العام ....جاء شاب بهندام صيفي نظيف من قلم التسجيل ..قابل المرأة بتوتر ..ظل الحوار يدور بغليان حرارة الجو ..لم أفهم ..لآن الشجار حاد وباللغة الكردية ..تركها الشاب ووجهه الحليبي يتلاصف فيه الآحمرار من شدة الغضب,, وهي تبكي بجانب باب المقر المفتوح على مصارعيه ..رفعت رأسها والدموع تحفر خديها اليابسة ..قالت لي وأنا أدنوا منها ..بالعربية ..ألله يقبل ..زوجي تأخذه حكومة صدام ..وزوجي من حزبكم ..لعد وين أروح وين أشتكي ..قلت لها ..تتكلمين عربي أختي ..قالت نعم ..أنا من كركوك ..وعندي أطفال ..مستأجرة غرفة بأحد البيوت بأطراف السليمانية ..أخذوا زوجي بأحداث 91 ..ولم نحصل على أي معلومات عنه ..أما أنا كل فترة أطالبهم بمساعدة ..قلت لها ..هل يساعدوك ..قالت ..نعم ..لكن بفترات متباعدة..وتعرف الآطفال ميكدرون على الجوع ..أتفقت معها أن تذهب معي الى السوق ..صرفت بعض الدنانير بشراء أرزاق جافة وركبنا باص المصلحة ..وصلنا الى البيت الخرب والوقت يعبر المنتصف من النهار الجامد ..
دخلت البيت من باب خشبي منخور الاضلع الى ساحة محصورة بين عدت غرف ضيقة ..أبوابها مفتوحة ..فيها رجال ونساء وأطفال ..في أيديهم مراوح يدوية ..
وجوه كالحة يثرم بها العطش والجوع ..حقائب ملابس جلدية وأفرشة بسيطة وعتيقة ومبلولة بحفر قيعان الآرض ..رحب بي الذهان وزوجته ..جلست على بساط قديم ..
أكلت معهم الفاصوليا والرز ..أثناء شرب الشاي ..قلت ..أنا أشكركم على الغذاء الدسم ..لكن سوف أغادر الى سنتر المدينة ..قالت لي زوجة الذهان ..بعد هذا الوقت ..لم تصل أي باص ..أو حتى سيارة ..فقط ..تبدا سير السيارات والباصات ..صباحا وظهرا ..والوقت الآن يسير الى العصر والمساء ..قلت لهم والحل ..قالوا بسيطة ..نام معنا الليلة ..وفي الصباح نغادر سويا الى المدينة ..حل المساء بعد غروب الشمس ..صعدنا على سطح الغرفة الحقيرة والرياح ساكنة ..سكن البيت الظلام الشبيه بالكهوف المتداخلة,, لاتزال أصوات العوائل والآطفال ضاجة من أبخرة قواطي الغرف المنقوصة من الهواء العليل ..وضعت زوجة الذهان على السطح الحار..فراش النوم ..كانت الآفرشة متجاورة وتعط بروائح شبيهة بأماكن الزنزانات المقفولة ..كان بين الفراشين المتجاورين ..نصف بطل عرق وقدحين بلاستك وماعون فيه خليط من اللبن والخيار ..صب الذهان في الآقداح العرق بدون ثلج .. وماء الزير البارد أصبح ضيفا باردا على العرق ..رفعنا الكؤوس الآولى في الشرب ..عيناه الثعبانية تنظر لي من وراء قدحه بكره ..ظل يثرثر بأفراط بمغامراته وبطولاته وهروبه بذكاء من عيون رجال الليل ..أحيانا يلعن بوقاحة أزلام السلطة ..يسميهم ..أغبياء ..تكلم عن تضحيته في سبيل الشيوعية ...زوجته جالسة على فراشها وهي تنصت الى أحاديثنا بملابس النوم .. عرفت نفسي لقد وقعت في فخ الكذب والآدعاء..لا أدعي الذكاء ..لكن منتبه من هذا اللغو ونتائجه التافهة ..في داخلي أحسب ساعات الصباح ..سمعنا صراخ داخل البيت ..صاحت زوجته ..هم صارت عركة ..قفزنا من فراشنا ووقفنا على أطراف السطح وعيوننا تنظر الى شجار العوائل خارج الغرف الحارة والآطفال تبكي بدموع نائمة ..كان جسدي مقوس وقدماي الحافية ثابتة على حافة السطح ورأسي يتلاعب به السكر ومعدتي تقرقر كقربة لبن ..وعيوني تتابع وسط الظلام خيال العوائل المتشاجرة ..بلحظات ضوء القمر والنجوم الزرقاء ..التفت بوجهي ..كنت ابحث عن الذهان ..جاء الذهان سريعا من الطرف الآخر من السطح ..ويداه مفتوحة لدفعي الى الاسفل ...لا أعرف ..بيني وبينه متر أو مترين ..سحبت نفسي بقسوة السرعة الى مساحة جانبية من السطح الطيني ..وصحت عليه ماذا تفعل ..قال ..لا شئ ..لا شئ ..أنا فقط أريد أعرف ..من هؤلاء المتعاركين ..صاحت زوجته من الساحة المظلمة في البيت..عائلة فلان وفلان ..شعلوا الفوانيس والشموع ..نزل الذهان بسرعة البرق من السطح..سمعته يقول للمتشاجرين ..عيب عليكم ..يمعودين ..نريد أن ننام ..الله أيخليكم ..تبخر العرق من راسي ولم تطبق أجفاني الى الصباح ..والذهان يشخر بجانبي وزوجته نائمة بأحد زوايا السطح ..جاء أنبلاج الفجر بثوبه الآزرق ...نزلت من فوق الغرفة ..ذهبت الى موقف الباص بدون فطور ...أنتظر ....حتى أصل الى المدينة ..يتبع
الاسايش .. هي الاجهزة الامنية في مناطق شمال العراق
الذهان .. احد الامراض النفسية التي تعرف بامراض انفصام الشخصية
#عبد_الرزاق_حرج (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟