المطالب القومية الكردية و ردود الفعل العربية
تثير المقالات المنشورة عن القضية الكردية في العراق في الصحافة العربية و على صفحات المواقع العربية في الشبكة العالمية للمعلومات (الأنترنيت ) وكذلك ( تحليلات!) من يقدمون من على شاشات القنوات الفضائية العربية كمحللين و خبراء سياسيين ، تساؤلات كثيرة و مشروعة . و بعيدا عن كيل التهم و الدخول في مهاترات عقيمة و اللجوء الى محاولات الألغاء و الأستئصال و ردود الفعل المتشجنة التي يمارسها الكتاب من الأطراف المختلفة ، نحتاج الى حوار يستمد مصداقيته من القرائن العلمية في حقول التاريخ و الجغرافيا و الأقتصاد و الأحصاء و العلوم الأنسانية الأخرى بهدف الوصول الى الحقيقة .
من نافلة القول أن نشير هنا الى أن الذين يلجأون الى تزييف الحقائق و تغليف الأطماع التوسعية و والنوايا الشريرة بالشعارات الديماغوجية عن الأخوة و حقوق الأمم و الشعوب و الذين يحرضون الناس الى كيل الشتائم للأفراد و الطوائف و الجماعات و حتى الشعوب، وهذا منحى خطير يعاقب عليه القانون ، غير قادرين على الأنخراط في مثل هذا الحوار الحضاري .
هناك جمهرة من العراقيين الذين هربوا من جحيم الدكتاتورية و شرورها و لم يسمحوا لأدرانها أن تنال من أفكارهم و قيمهم الأنسانية . و سيلعب هؤلاء حتما دورا ملحوظا في الدعوة الى التسامح بين المكونات الأثنية و الثقافية و الدينية في العراق و تبني الديموقراطية و مبادئ حقوق الأنسان و الجماعات و مناصرة المظلومين و ضحايا الدكتاتورية و الشوفينية . و إذا قدر للكيان العراقي أن يبقى موحدا سيكون مدينا لهؤلاء و ستكون لسيادة هذه التوجهات في الثقافة العراقية الجديدة و إنحسار الأفكار الظلامية القومية و الطائفية دورا أيجابيا في تحديد مسار الأحداث في العراق لبناء دولة القانون و رفاهية المواطنين . و من المؤسف حقا أن هناك في المقابل شلة صغيرة من العراقيين لازالت تتبنى نفس الخطاب السياسي الذي تسبب في إلحاق الكوارث بالعراق و مواطنيه . ولمعرفة هؤلاء بحقيقة مشاعر الناس إزاء البعث و أفكاره الفاشية و سياساته الهمجية فقد عادوا متخفين تحت مسميات و واجهات جديدة . ويركز هذا الخطاب في جانب رئيسي منه على معاداة الشعب الكردي و تطلعاته القومية المشروعة . ولا يتوانى أصحاب هذا الخطاب عن تزييف الحقائق التاريخية و الجغرافية و المعطيات الأحصائية لتبرير مواقفهم و وجهات نظرهم . كما أنهم يلجأون و من خلال بعض البرامج التحريضية في القنوات الفضائية العربية،التي توفر مساحات واسعة لبث سمومهم و أفكارهم العنصرية و الطائفية ، الى الضحك على ذقون المشاهدين البسطاء و إختلاق أخبار ملفقة و من ثم اللجوء الى أناس غارقين في ظلام الشوفينية و الأنحطاط الفكري و السياسي للتعليق على تلك الأخبار الملفقة . من الواضح أن هذه الفئة لم تتعلم درسا من التجربة المريرة التي مر بها العراق ، كما أنها لم تتعلم شيئا من نعم الحرية و الأصغاء الى الآخر و إحترام آرائه وخصوصياته و بقيت تسبح في مستنقعات الفاشية البعثية .
هناك على الدوام و في تاريخ الشعوب و المجتمعات أناس يحملون أفكارا عنصرية متطرفة تعميهم عن رؤية الحقائق و تدفع بهم الى تبني السلوك العدواني و الأساليب الهمجية لأستئصال الآخر ، الأمر الذي تنجم عنه دائما كوارث إنسانية كبرى . ولنا في تاريخ العراق القريب و في سياسات صدام حسين و زمرته المجرمة خير مثال على ذلك النوع من البشر. لا يمكن للأفكار المتطرفة إلا أن تفرز التطرف و الكراهية على الطرف الآخر وهو أمر عانى منه العراقيون أكثر من الكثير و لا أعتقد بأنهم سوف يتسامحون مع من يدعو الى المزيد منه .
على المرء أن يتمعن كثيرا في البيئة التي أفرزت هذه الأفكار المتطرفة و تشخيص الظروف التي أحاطت بها و البحث عن جذورها في الفكر السياسي العراقي خلال القرن الماضي . وللقيام بهذه المهمة لابد للمرء أن يتصف بالموضوعية و يبتعد قدر الأمكان عن الأحكام المسبقة و التشنج و ردود الفعل العاطفية.
لننطلق من الحالة الراهنة للأمور على أن نعود الى الماضي القريب من تاريخ العراق الحديث كلما تتطلب الأمر ذلك. سيجري التركيز هنا على القضية الكردية في العراق و تحليل أسباب و دوافع عدم التفهم الذي يبديه بعض التيارات السياسية و الفكرية العربية للتطلعات القومية الكردية المشروعة .
يبدو لي أن جهل هذه الأطراف العراقية بالحقائق التاريخية و الجغرافية المتعلقة بالكرد يوضح الى حد ما مواقفها المتشنجة تجاه المطالب الكردية المشروعة . لقد نجحت الحكومات المتعاقبة في فرض تصوراتها الشوفينية على قطاعات واسعة من العراقيين . لقد غيب كل مايتعلق بالكرد و كوردستان في المناهج الدراسية العراقية . و منعت هذه الحكومات الأشارة الى الكرد كشعب و ثقافة و الى مناطقهم كوطن جرى تقسيمه نتيجة لسياسات معروفة . بينما في عهد البعث أصبح إسم الكرد مرادفا للتمرد على الحكومة بدفع من القوى الأجنبية المعادية التي تريد تفتيت الوحدة الوطنية العراقية. يشرف الكرد أنهم وقفوا بوجه حكم البعث الى آخر يوم له . ولا تتعجب إذا قرأت (لمناضل صنديد ) ضد النظام البائد أن يعتبر هذا النضال الكردي المعمد بدم مئات الآلآف من الكرد تمردا على الحكومة و النظام وهذا مالم تقم به أقليته القومية أبدأ !!. ولكن يمكن أن تقرأ له في نفس المقال بأنهم أكثر من قارع النظام الفاشي !!!. وأحلت هذه الحكومات أستخدام مصطلح شمال العراق محل كوردستان رغم عدم تطابق المفهومين لا جغرافيا و لا تاريخيا و لا أثنيا . لذلك يجب أن لا نتعجب كثيرا عندما نسمع إعلاميا عربيا سابحا في ( تقديس الجهالة) على حد تعبير الأنساني الهولندي العظيم إيرازموس الروتردامي يستخدم عبارة ( ماتسمى بكوردستان أو ما يسميها الأكراد بكوردستان ) للأشارة الى كوردستان العراق . كما أن مناقشة بعض العراقيين من (جيل الثورة و الحزب ) لحقيقة وجود كوردستان بهذا الحماس الكبير على صفحات بعض المواقع المعادية للكرد أو من على شاشات القنوات الفضائية العربية تصبح أمرا مفهوما أيضا ، رغم مرور أكثر من تسعة قرون على تداول هذه التسمية في الأدبيات التاريخية و الأدارية و إشارة الخرائط العثمانية و الأجنبية اليها و الى تقسيماتها الأدارية بكل وضوح و رغم وجود مقاطعة رسمية بإسم كوردستان في إيران دون أن يؤدي ذلك الى تفكيك الدولة الأيرانية. لقد نشأت أجيال من العراقيين في ظل حكم البعث تردد بأن العراق هو ( قلب العروبة النابض ) و ( الدفاع عن البوابة الشرقية للأمة العربية ) و (جيش العروبة) و ( نفط العرب للعرب )رغم أن الجزء الأكبر من النفط كان يستخرج من قلب كوردستان العراق و غير ذلك من الشعارات القومية الشوفينية العربية . لذلك تجد هذه الفئة صعوبة كبيرة في التأقلم مع فكرة أن العراق ليست بدولة عربية و إنما دولة متعددة القوميات و الطوائف و لايمكن أن يسود السلام و التعايش هذه البلاد لا بإقرار المساواة الكاملة لجميع المواطنين بغض النظر عن إنتماءاتهم القومية و الدينية و المذهبية . وقدر تعلق الأمر بالكرد فإنهم لن يرضوا بعد كل التضحيات التي قدموها على طريق التحرر و بعد كل لمآسي و الكوارث التي أحلها بهم البعث الفاشي بمواطنة من الدرجة الثانية ولن يرضوا بأن تكون بلادهم الجميلة مناطق تخوم مهملة و منهوبة من قبل الحكومة المركزية.
يجب أن يكون الخيار واضحا للشركاء في الوطن. إما نكون جميعا عربا و كردا و تركمانا و كلدانا أصحابا لهذا الوطن و تضمن القوانين حقوق الجميع على قدم المساواة ، أو تبقون تصرون على فرض هوية الأكثرية على الجميع دون أن تتمكنوا من فرضها ، كما أثبتت تجربة العقود الثمانية الماضية من تاريخ العراق ، ولن تجنوا من ذلك سوى تفتت هذا الكيان. عند ذلك يمكنكم أن تتغنوا صباحا و مساء بعروبة العراق . وعلى الكرد ، والآخرين إن رغبوا في ذلك ، أن يطرحوا مشاريعهم البديلة بكل وضوح لكي تدرك الشوفينية مخاطر شعاراتها و مواقفها المعادية للمطالب القومية الكردية المشروعة .
ترى لماذا أثار المشروع الكردي بشأن الفدرالية و الحدود الجغرافية لأقليم كوردستان هذه الضجة في أوساط الشوفينيين العرب من العراقيين و من العروبيين على الساحة الأعلامية العربية ؟. إذلم تتضمن هذه المطالب على حد علمي شيئا جديدا . فقد أعلن البرلمان الكوردستاني المنتخب بصورة شرعية و منذ أكتوبر عام 1992 الفدرالية كنظام سياسي للعلاقة مع السلطة المركزية . وتقرير مصير كوردستان العراق و شكل النظام السياسي الذي يرغب سكان هذا الأقليم العيش في ظله عائد لهم فقط ولا يمكن أن يطرح على جميع سكان العراق بإسم الديموقراطية و الرجوع الى رأي الشعب كما يحاول البعض تسويق الأمر . من حق العراقيين جميعا إبداء رأيهم في نوع النظام الذين يرغبون ملكيا كان أم جمهوريا ، فدراليا كان أم مركزيا ، ولكن لن يكون من حق أحد أن يقرر نيابة عن شعب كوردستان صيغة النظام الذي يرغب فيه سوى أبناء هذا الأقليم . فقيمة الديموقراطية ليست فقط في فرض رأي الأكثرية على الأقلية بل وفي حماية حقوق الأقلية من سطوة الأكثرية . فلو طلب سكان النجف أو كربلاء أن يقيموا ، مثلا ، نظاما مشابها للفاتيكان يجب أن يسمح لسكان المدينتين التعبير عن رأيهم بكل حرية . لم الخوف من ذلك مادام يجري ذلك في إطار العراق و يوفر الحرية و الرفاهية لسكانه؟ . لم هذا التقديس للمركزية التي لم تثمر إلا عن الدكتاتورية و القمع القومي و الطائفي ؟ لم الخوف من إسناد سلطات أكبر للمحافظات و الأقاليم ؟ في أي نظام ديموقراطي يقرر رئيس الدولة بناء دار للعجزة أو مدرسة أو جامع في إحدى مدنها ؟ .
قد يقع البعض في خطأ الأعتقاد بأن ترك أمر إقرار الفدرالية الكوردستانية لجميع العراقيين قد يوفر لهم الأكثرية المطلوبة لرفض المشروع . وهذا أمر وارد في ظل سيادة أفكار و قيم البعث حول الدولة المركزية و الوحدة الوطنية! و مؤمرات القوى المعادية للأمة!! . بيد أنني أعتقد أن المتبنين لمثل هذه التوجهات لم يقوموا بصورة عقلانية البدائل الناجمة عنها . هل سيستطيع هذا البعض أن يفرض علينا، مثلا ، حكما ذاتيا كارتونيا على غرار ما حاول صدام فرضه دون نجاح رغم أنفالاته المشؤومة و كيمياوياته و أجهزة قمعه المرعبة ؟ . هل يتحمل الكيان العراقي شيئا من هذا القبيل في المستقبل ؟ و هل سيتحمل هؤلاء نتائج إنسحاب الكرد من العملية السياسية الجارية و الرجوع الى إدارة مناطقهم بعيدا عن التماس مع بغداد؟ . هذه إمكانية واقعية و قد جرت تجربتها في تسعينات القرن الماضي لأكثر من عقد من الزمان و في ظل ظروف أقسى و أشد خطورة من الوقت الحاضر و كانت النتيجة إيجابية لصالح السكان في كوردستان. كل من يقارن الآن بين المناطق الكردية التي تحررت منذ 1991 من إحتلال الدكتاتورية البعثية و بين مناطق العراق الأخرى سيرى الفرق واضحا رغم قلة الأمكانيات و شحة الموارد . و ستكبر نتيجة لمثل هذا التطور السياسي فيما إذا حدث أجيال أخرى في كوردستان لا تعرف شيئا عن بغداد و المناطق الأخرى من العراق و سيصبح من العسير جدا أن يعاد بناء الجسور بين المنطقتين و ستتنامى حتما حركة المطالبين بإقامة الدولة الكوردستانية لتكتسح من الساحة السياسية الأحزاب الكردية التي أصبحت تعاني صعوبة في فرض فكرة التعايش حتى على أعضائها مع جموع و قطعان لازالت تفدي صداما بالروح و الدم ولو بالشعارات فقط !!
أعتقد مخلصا أن الشرخ الأكبر بين ضحايا النظام السابق من الكرد و العراقيين العرب الشيعة مع المثلث البعثي لا يكمن في الفرق المذهبي أو القومي بل في إستمرار تغني عدد من أبناء هذا المثلث بنظام أباد الكرد و الشيعة و زرع العراق بالمقابر الجماعية و تسبب في خراب العراق و تدمير إمكانياته و تبديد ثرواته . من حق ضحايا الأبادة الجماعية و التطهير العرقي و الطائفي أن يتساءلوا عن إمكانية التعايش مع من شارك في إبادتهم و لم يبدي أي ندم على قيامه بذلك بل لا يزال يتغنى بالجزارين الذين إرتكبوا تلك المذابح . ألا يعني هذا ببساطة بأن هؤلاء سيتحينون الفرص للوثوب الى السلطة مرة أخرى للقيام بمجازر أشد هولا مما قاموا به ؟ .
بالأمس فقط خرج في كركوك بعض هؤلاء من فلول صدام و الميت التركي و عجايا مقتدى الصدر يحملون صور صدام و يفدونه بالروح و الدم و يرددون شعارات مقززة تنبعث منها روائح جحور صدام . و تجمع فريق السوء هذا على معاداة الكرد و فرق الله جمعهم في ما سواه . ففلول صدام يرفعون شعار طرد الأحتلال الأمريكي من العراق و عودة عار العروبة الى الحكم . و ينتمي جل هؤلاء الى المثلث البعثي و بخاصة من الحويجة التي تحدث فيها بعض الهجمات على قوات التحالف . فيما كان هدف عملاء الميت التركي هو إثارة الفوضى و التوتر بهدف توفير الأرضية لأحتلال تركي أشد هولا من الأحتلال الأمريكي و لكنه أصبح في حكم المستحيل رغم أحلام عصافير الجبهة التركمانية. بينما توزع بعض العرب الذين جئ بهم الى كركوك من مناطق الجنوب على (جيش المهدي !!) (لفتح بلاد الكرد!!) بعد فشل حملات الأنفال في تحقيق ذلك ، وبعد أن الى أشهر خلت أعضاء في جيش القدس و أجهزة القمع البعثية و بين رفع صور رئيس المجلس الأعلى للثورة الأسلامية . ترى ما الذي جمع فلول البعث و عملاء الميت التركي و أنصار مقتدى الصدر و المجلس الأعلى للثورة الأسلامية في كركوك ؟ . إذا كان هناك بين المتظاهرين في كركوك من بين أنصار المجلس الأعلى للثورة الأسلامية ، على القيادات الكردية أن توضح موقفها من التحالف مع هذه الجماعة للجماهير الكردية . هم هؤلاء العرب ليس في دعم مقتدى الصدر أو المجلس الأعلى للثورة الأسلامية بل التشبث بما حصلوا عليه من مكاسب غير شرعية نتيجة تحولهم الى أدوات رخيصة لعميليات التطهير العرقي . وهكذا نستطيع أن نقول بأن من تظاهر بالأمس في كركوك كان البعثيون و ليس غيرهم.
هناك عدد كبير من العراقيين و العرب يتكئون في مواقفهم الشوفينية من المطالب القومية الكردية على إمكانية وقوف تركيا و إيران و سوريا ضد مثل هذا التطور للأمر . وهذه قراءة أخرى خاطئة لجيش المحللين و الخبراء العرب لطبيعة الأوضاع السياسية و توازن القوى في المنطقة و العالم . لا أقول بأن الكرد يستطيعون دحر قوات هذه البلدان مجتمعة و يجبرونها على التخلي عن مواقفها المعادية للطموحات الكردية . ولكنني أستطيع الجزم بأن هذه الدول لن تتمكن و بسبب أوضاعها السياسية و الأقتصادية و علاقاتها الدولية أن تجيش الجيوش ضد كرد العراق و لن تسمح الأوضاع الكونية بإبادة الكرد كما كان يحدث في السبعينات و الثمانينات . كما أن الوجود الأمريكي في العراق لن يمنح هذه الدول فرصة التدخل و الهيمنة في أي جزء من العراق ليس دفاعا عن الكرد بل عن المصالح الأمريكية . لذلك أعتقد مخلصا بأن تحرر هؤلاء العراقيين و من مختلف القوميات من هذه الأوهام و القراءات الخاطئة و الأستعانة بالقوى الأجنبية الأقليمية ، سيفتح الآفاق أمامهم للتعامل مع المطالب الكردية بمرونة و واقعية خدمة للصالح العراقي العام .
يردد البعض بأن النظام الفدرالي يقوم عادة نتيجة لأتحاد دولتين قائمتين و ليس من تفكيك دولة و جعلها فدرالية . هذا غير صحيح .لقد أصبحت بلجيكا الموحدة دولة فدرالية في أواخر القرن الماضي دون أن يسمع الكثيرون بالأمر . وهناك العديد من الأمثلة الأخرى التي تظهر أن الجزء الأكبر من البشرية تعيش في ظل أنظمة إتحادية . الديموقراطية و مبادئ حقوق الأنسان و عدم التمييز بين المواطنين و الرفاهية كفيلة بالمحافظة على وحدة الدولة و ليس المركزية القاتلة و النظام الشمولي و الجيوش الجرارة.
ومسألة حدود أقليم كوردستان ليست قضية جديدة أيضا. ففي إتفاقية آذار عام 1970 جرى الأتفاق على إجراء تعداد سكاني في المناطق الذي حاول البعث التشكيك في كوردستانيتها وذلك خلال عام واحد من عقد الأتفاقية ، إلا أنه لجأ الى المماطلة بعد أن بدأ مشروعه العنصري في تعريب تلك المناطق . وهناك من إنتقد القيادة الكردية على موافقتها أصلا على مبدأ الأحصاء لأن كوردستانية هذه المناطق لم تكن بالنسبة للكرد و أغلبية العراقيين العاملين في حقول السياسة و الأدارة و الثقافة موضع خلاف . كما أن القيادات الكردية و من منطلق حرصها على إنهاء القتال و التوجه نحو بناء عراق جديد كانت متأكدة من أن نتائج أي إحصاء سكاني نزيه ستكون لصالح السكان الكرد. كان الفهم البعثي للتاريخ و الجغرافيا و إرتباط الناس بالأرض فهما قاصرا و غبيا إذ إعتقد بأنه بمجرد طرد السكان الكرد من أراضيهم و جلب العرب لأسكانهم في هذه الأراضي من خلال المغريات المالية و الوظيفية سيغير من الواقع و يحولها الى مناطق عربية . هناك من العراقيين من يزعمون إدانة سياسات صدام حسين و لكنهم يدعون بوقاحة الى التعايش مع نتائج سياساته و بخاصة في مجال التطهير العرقي . ويحاول هؤلاء السادة تغليف مواقفهم العنصرية هذه بشعارات حماية حقوق الأنسان و بناء المجتمع المدني و التركيز على مبدأ المواطنة و ما الى ذلك من الشعارات البراقة و التي يبدو أنها لا تشمل المواطنين الكرد . لقد كانت تلك المناطق تأريخيا كوردستانية و ستبقى و لا يمكن تغييرها حتى إذا فرغت من السكان الكرد . وينطبق هذا المبدأ على أية مدينة أو منطقة عراقية أخرى أيضا .فلو بلغ عدد الكرد في بغداد أو النجف أو الرمادي النصف أو حتى ثلاثة أرباع السكان في تلك المدن لن تصبح مدن كردية ولا يمكن للكرد أن يزعموا بأن هذه المدن أصبحت كردية أو كوردستانية . لن يستطيع السكان الأصليون من الكرد و العرب و التركمان و الكلدان في كركوك و خانقين و سنجار و مخمور و الشيخان و غيرها من التعايش مع من جئ به ليحتل بيوتهم و مزارعهم و يطردهم منها ليقضوا سنوات طويلة من البؤس و الشقاء في المخيمات أو المجمعات القسرية . وصل الأمر ببعض الأقلام الحاقدة الى الدعوة الى منع المرحلين و المهجرين الكرد من ضحايا سياسات التطهير العرقي من العودة الى مدنهم و قراهم . وتجسد هذه الدعوة عداء للأنسانية و قيمها الخيرة . وهناك من حاول دون نجاح أن يكرس نتائج عمليات التطهير العرقي و حملات الأنفال ضد السكان الكرد وبخاصة في محافظة كركوك لينشر هنا و هناك أرقاما فلكية عن أبناء الأقلية التركمانية في هذه المدينة أو تلك القصبة .
وتفضح الطروحات الشوفينية حقيقة مواقف و دوافع أصحابها من القضية الكردية و من سياسات التعريب و التطهير العرقي. فرغم أن هذه السياسات شملت مدن و مناطق عديدة في كوردستان العراق و يطالب الكرد بإزالة آثارها بصورة بصورة قانونية و إنسانية لا تلحق الأضرار حتى بأولئك الذين تحولوا الى أدوات لتلك السياسات ، إلا أن صراخ و عويل هؤلاء الشوفينيين يتركز على مدينة كركوك فقط . ولأنهم لا يفكرون في هذه المأساة الأنسانية إلا بالنفط لذلك يحاولون تشويه الموقف الكردي و تصويره وكأنه نابع من إطماع في الثروة النفطية . إذا كانت أهمية كركوك بالنسبة لهؤلاء تتركز في مجموعة من آبار النفط فإنها بالنسبة للكرد تشكل رمزا للقمع و الأضطهاد و إمتهان الكرامة الأنسانية على أيدي الحكومات العراقية المتعاقبة و بخاصة حكومة البعث. قد لا يعرف هؤلاء الذين أعمتهم الأطماع في النفط بأن العراق الذي كان يعتمد سابقا على نفط كوردستان فقط يمتلك الآن موارد نفطية هائلة في البصرة و الموصل و جزر مجنون وغيرها من مناطق العراق . وينتج العراق حاليا من آبار الجنوب فقط حوالي 2 مليون برميل من النفط يوميا. لست متخصصا في النفط و لكن قراءاتي البسيطة في هذا المجال و أحاديثي المطولة مع المتخصصين و بعض العاملين في مواقع مهمة في شركة نفط في كركوك تشير الى اللوحة التالية المخيبة لأطماع و آمال الشوفينيين . فمن مجموع 18 مليار برميل كانت تشكل خزين آبار كركوك جرى أستخراج أكثر من 12 مليار حتى بداية التسعينات . و نعرف بأن صدام حسين كان يهرب كميات هائلة من نفط كركوك خلال التسعينات . لذلك تشير التقديرات الى أن إستخراج النفط في كركوك سيكون غير إقتصاديا بالمرة بعد عقد أو عقدين من السنين . لا أعتقد بأن آبار نفط كركوك ستوفر للشوفينيين الجدد موارد كافية لقمع الكرد و حركاتهم التحررية فيما إذا فكروا بإنتهاج تلك السياسة .
ولا يتردد هؤلاء الشوفينيون في صراخهم و عويلهم حول كركوك و في تصريحاتهم الى الفضائحيات العربية تزييف حقائق التاريخ و ترديد ( النصوص التاريخية ) المقتبسة من حملة صدام حسين الأيمانية في إعادة كتابة التاريخ ! . كما أنهم ورغم توفر الأحصائيات السكانية التي تؤكد على أن الكرد شكلوا على مدى التاريخ المعروف لدينا أكثرية السكان في كركوك لا يترددون في الزعم بأن الكرد شكلوا أقلية صغيرة في كركوك ، كما أعلن أحدهم من على شاشة شبكة الأخبار العربية التي إنضمت أخيرا و عبر بعض برامجها الى ( الصولة الجهادية !!) لأيتام صدام ضد الكرد و حقوقهم المشروعة . فقد (كشفت !) مقدمة المسائية ، التي تبدي إهتماما غير طبيعيا بكل ما يتعلق بمدينة كركوك ، عن أن التفجير الأرهابي الذي حدث في أربيل هو رد على المظاهرة الكردية التي جرت في كركوك . ترى من أخبرها بالأمر و كيف فبركت هذا الخبر ؟!! .
مادامت الحقائق المتعلقة بكركوك تزور في وضح النهار من الضروري أن نشير الى بعض المعطيات التاريخية و الأحصائية لمن يود معرفة الحقائق .
كل من له إطلاع بسيط على تاريخ العراق ( قبل إعادة كتابته ) على أيدي وعاظ السلاطين و كتبة البلاط ، يعرف بأن كركوك كانت مركزا لأيالة شهرزور الكردية وكانت تشكل جزءا من الكيان الكردي على مر التاريخ المعروف لدينا . و كانت جزءا من الأمارات الكردية حتى منتصف القرن التاسع عشر . وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر كان سكانه من الكرد بأستثناء 40 عائلة مسيحية على حد تعبير المهندس الروسي جيرنيك الذي زار المدينة في بداية السبعينات من ذلك القرن . كما أن مصادر عثمانية رسمية و موثوق بها مثل ( قاموس الأعلام ) ، وهو مصدر كانت وزارة المعارف العثمانية تعتمده في مؤسساتها و محاولة البعض الأنتقاص من أهميته و موضوعيته نابعة من دوافع لا صلة لها بالعلم و الحقائق العلمية ، تشير في نهاية ذلك القرن الى أن أكثر من ثلاثة أرباع السكان هم من الكرد . ولم تتغير هذه النسبة حتى نهاية الحرب العالمية الأولى . وفي الثلاثينات التي شهدت كركوك نهضة صناعية بسبب بدء عمليات إستخراج النفط كان الكرد لا يزالون يشكلون أكثر من نصف سكان المدينة و أكثر من ثلاثة أرباع السكان في اللواء . بينما الباقي كانوا من التركمان الذين شكلوا حتى الستينات من القرن الماضي حوالي 21 % من سكان المحافظة ، بينما تقلصت نسبتهم وفق إحصاء عام 1977 الى 16 % من مجموع سكان المحافظة . ولم يكن هذا الأنخفاض نتيجة لطرد التركمان كما يمكن للبعض أن يزعم بل بسبب زيادة عدد العرب الذين جئ بهم الى كركوك ضمن سياسة التعريب . أما العرب فقد تركزوا حتى الستينات في منطقة الحويجة بعد إجبرت الحكومة العراقية العشائر البدوية العربية على الأستيطان فيها في الثلاثينات من القرن الماضي . وكانت في الأصل أراضي زراعية عائدة للملاكين الكرد . في المقابل كان الكرد يشكلون أكثر من 48 % من مجموع سكان المحافظة وفق نتائج إحصاء عام 1957 ، بينما كانت نسبة العرب 28 % . وحتى هذا الأحصاء الذي يعتبر من بين أكثر الأحصائيات المعول عليها في تاريخ الدولة العراقية جرى التلاعب بمعطياته . فقد تلاعب العدادون التركمان بهذه المعطيات و سجلوا عددا كبيرا من الكرد من أبناء المناطق الشعبية كتركمان . و أهملوا عن قصد الأشارة الى لغة الأم لأكثر من خمسة آلاف كردي من أبناء المدينة بهدف تخفيض نسبة السكان الكرد . وشهدت محاكم كركوك العديد من القضايا للطعن في ما قام به العدادون التركمان إزاء السكان الكرد من عمليات تزييف أثناء تعداد السكان عام 1957 . وبدأت هذه النسب تتغير بعد قيام البعث بإنتهاج سياسة التعريب منذ عام 1963 لكي تصل الى مرحلة التطهير العرقي منذ عام 1975 . فبعد فك إرتباط الأقضية التابعة للمحافظة و إلحاقها بمحافظات صلاح الدين ( كما حدث لقضاء طوزخورماتو ) و ديالى
( قضاء كفري ) و السليمانية ( قضائي جمجمال و كلار ) و أربيل ( ناحية آلتون كوبري ) ، مع الأبقاء على قضاء الحويجة لوحدها ضمن محافظة كركوك لكون سكانها من العرب رغم قربها من تكريت . وشهدت نتيجة لذلك نسبة السكان العرب نموا غير مسبوقا مع تدني نسب الكرد ( الى 38 % و التركمان الى 16% ) وفق معطيات إحصاء عام 1977 . وقد أعلن على الكيمياوي في إجتماع سجلت وقائعه على شريط لعصابات الحزب و الجيش و الأمن في ربيع عام 1989 قائلا : بأنه و رغم كل محاولات التعريب ( بالمناسبة يسميها الكيمياوي بالتعريب فيما يعيب علينا بعض الأخوة العرب إستخدام مصطلح التعريب ) و جلب العرب و صرف أكثر من ستين مليون دينار لم نتمكن من رفع نسبة العرب و التركمان الى 51 %. هذه حقائق بسيطة و واضحة و مدونة في الوثائق الرسمية العراقية و يمكن لكل من يريد معرفة الحقيقة أن يطلع عليها. لن تستطيع الطروحات القائمة على التزوير و تزييف الحقائق من أن تغير شيئا من الحقائق على الأرض .
ولمعرفة الشوفينيين العرب بهذه الحقائق جيدا و إدراكهم لحقيقة أن آثار سياسيات التطهير العرقي زائلة لا محالة لأن دولة القانون و العدالة و الديموقراطية لا تستوي مع سيطرة البعض دون وجه حق على أراضي و مزارع و ممتلكات الغير . وبالمناسبة لم يطالب أحد من الكرد و لا يمكن أن يطالبوا في المستقبل بطرد السكان العرب الأصليين من هذه المناطق كما يحاول بعض المغرضين و الموتورين إيهام القراء بذلك ، لذلك يحاولون دغدغة مشاعر الأقلية التركمانية بالتركيز عليها و الزعم بأنها تشكل أكثرية السكان في هذه المدينة أو تلك القصبة . بدءً وقبل كل شئ سكن التركمان هذه المناطق منذ عقود طويلة ومن حقهم التمتع بجميع حقوقهم فيها . وإذا أثبتت عمليات الأحصاء بأنهم يشكلون الأكثرية في أية قصبة بمحافظة كركوك ، وهذا أمر أشك فيه الى درجة اليقين ، فمن الطبيعي أن يتمتعوا بحقوقهم وفق نسبتهم . القوى التركمانية التي آمنت بالتعايش السلمي مع الكرد و المكونات الأثنية المختلفة في كركوك و غيرها تشارك بهمة و نشاط في العملية السياسية و بناء كركوك من جديد و تخليصها من آثار سياسات البعث الفاشي . أما القوى التركمانية التي راهنت على دعم تركيا أو عجايا مقتدى الصدر فقد عادت بخفي حنين و راهنت بسبب عقدها النفسية و أوهامها التاريخية على الحصان الخاسر و ألحقت بذلك الأضرار بمكانة و حقوق الأقلية التركمانية .
ترى أين يكمن الخلل في هذا الفهم الخاطئ لكل ما يتعلق بالكرد و كوردستان و المطالب الكردية ؟ هل هو نابع من فكر شوفيني أعمى يتبناه البعض و يعميه عن رؤية الحقائق كما هي ؟ أم هو جزء من ثقافة القسوة و العنف و التطرف و رفض الآخر التي سادت حياتنا الثقافية لعقود طويلة ؟
أم هو ناتج عن عقد نفسية و أوهام تاريخية جرى خلقها و من ثم الترويج لها و تصديقها ؟
ألا يشكل الجهل بالآخر و تطلعاته المشروعة سببا لهذه المواقف ؟ من المسؤول عن هذا الجهل ، المؤسسات التربوية أم المثقفين العراقيين ، السلطة الدكتاتورية التي جثمت على صدور العراقيين لعقود عديدة أم الحركات السياسية التي لم تستطع أن تنور الناس بالحقائق ؟.