عند الساعة الثانية عشرة والربع من يوم الخميس 4 نيسان 2002 انعقدت "باسم الشعب العربي في سورية" جلسة النطق بالحكم على رياض سيف، عضو مجلس الشعب المستقل عن مدينة دمشق، الموقوف منذ سبعة أشهر بتهم شتى. قال القاضي جاسم المحمد أنه تقرر بالأكثرية، وفقا لطلب النيابة من ناحية وخلافاً له من ناحية، تجريم رياض سيف بجناية الاعتداء لتغيير الدستور بطرق غير مشروعة والحكم عليه بالحبس خمس سنوات؛ وحبسه ستة أشهر بتهمة تشكيل جمعية سرية وتوليه منصباً فيها؛ على أن تدغم العقوبتان وتنفذ العقوبة الأشد، مع تجريده من الحقوق المدنية وإلزامه بدفع الأتعاب وتضمين الرسوم فيها؛ وتبرئته من تهمة إثارة النعرات الطائفية. وعلى الفور طلب السجين المحكوم أن يمنح دقيقة من الكلام مقابل كل سنة من سنوات الحكم. قال الصناعي السابق والناطق باسم منتدى الحوار الوطني الذي كان يعقد جلساته في منزله: "هذا الحكم وثيقة شرف لي ولأمثالي، ويثبت أن هذا النظام لا يحتمل النقد وليس جاداً في مكافحة الفساد...". هنا قاطعه صوت مجلجل غاضب: "خسيت، تستاهل هالحكم وأكثر أنت ومعلمك الخاين رياض الترك...". كان المتكلم هو المحامي البعثي محمد خير العمري الذي ترشح، حسب إحدى الروايات، لعضوية مجلس الشعب ثلاث مرات ولم ينجح. وفي غمار الهرج والمرج الذي ساد قاعة المحكمة كرر الرجل الذي وصفه رياض سيف بالمرتزق شتائمه مرة أخرى لسيف ولـ"معلمه الخائن"، فيما كان أكثر الحاضرين يصفق لسيف تضامنا وتأييداً، وكذلك تشويشا على العمري الذي أخذ يهتف بصوته الجهوري: أمة عربية واحدة، جاعلاً من هذا الشعار سلاح ترويع وترهيب شامل للموجودين جرياً على مستقر العادة خلال عقود الشمولية المتمادية؛ ولما لم يجد هذا الشعار نفعاً جرب الغيور على سمعة النظام سلاحاً لم يدخل التداول في هذا العهد بعد:قائدنا إلى الأبد الأمين بشار الأسد.
* * *
تتجاوز دلالات محاكمة رياض سيف والحكم عليه خمس سنوات حقيقة أنها اعتداء صارخ على الحريات العامة وعلى حقوق الإنسان الأساسية، وهي لا ترتد أيضاً إلى حقيقة أن "هذه السلطة لا تريد محاربة الفساد" كما هتف سيف نفسه بعد إعلان الحكم عليه، كما أنها ليست مجرد بينة فصيحة على عمق الفساد الذي ينخر جهاز القضاء، ولا قبل ذلك على فساد القائمين على "مجلس الشعب" وافتقارهم إلى الحد الأدنى من الصدقية والإحساس بمعنى الحق والعدالة؛ إنها تجمع ذلك كله وتكشف عمق ارتباط السلطة بالمال وعمق احتقار نخبة السلطة لمبادئ العدالة وعدم إيمانها بقيم المواطنة والإنسانية أو أي قيم في الواقع. نحن بالفعل حيال قضية تاريخية بأتم معنى للكلمة. فهذه هي المرة الأولى منذ أربعين عاما يحال فيها مواطن وعضو فيما يفترض أنها السلطة التشريعية إلى القضاء العادي كما اشار محامو الدفاع في مذكرتهم. ثم إن المحكمة كانت علنية وتابعها بعض الدبلوماسيين الأجانب والصحفيين وأسر المعتقلين الآخرين وعدد غير قليل من المهتمين بقضايا الحريات العامة وحقوق الإنسان. ولا شك أن لسمعة السيد سيف الطيبة واحترام الناس له كصناعي حاربه حراس الفساد لأنه يقدم مثالاً مختلفاً ويقوم بدور ناطق شجاع باسم المصالح والحريات العامة في عقر دار السلطة، ثم لكونه الشخص الوحيد الذي قرر تشكيل حزب سياسي حال صدور قانون الأحزاب الذي كان متوقعاً في بداية العام الماضي. لاشك ان لكل ذلك دور كبير في استحقاق قضيته قيمة تاريخية. وأهم من كل ذلك أن قضية السيد سيف قضية حقوق مدنية وحريات ديمقراطية، بما فيها حرية العمل السياسي والحق في تشكيل الأحزاب السياسية؛ ولهذا كله فهي تدشن الجبهة القضائية من معركة الحريات في البلد. وهكذا تجتمع مزايا الرجل مع نوعية قضيته مع خصائص المرحلة الراهنة من تاريخ سورية ونوعية نخبة السلطة لتعطي معنى تاريخياً ومشرّفاً لقضيته وللحكم عليه. على كل حال من واجب القوى الديمقراطية من أحزاب ومثقفين وهيئات حقوق الإنسان وعامة المحامين أن تجعل من هذه القضية موقعة من مواقع الكفاح من أجل الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية في بلدنا.
كان سيف قبل اعتقاله من أبرز القيادات المعنوية، بل والسياسية، في سورية خلال الفترة المنقضية من عمر ما سمي بالعهد الجديد. وفيه أكثر من غيره تتجسد الطبقة الوسطى المنتجة والمدنية والناشطة سياسياً، الطبقة التي خضعت لتدمير مزدوج سياسي واقتصادي خلال العقود الأخيرة، وعانت من عداء شرس من قبل نخبة السلطة الشمولية جزاء استقلالها وتعلقها بقيم الإنتاج والعلم والعمل. لذلك كان من غير المفاجئ أن يقترن الهجوم على النقابات المهنية التي أظهرت عام1980 بعض الاستقلال بتحول عميق في طبيعة ممارسة السلطة في سورية لمصلحة العسف والاعتباط، وبانحطاط مستوى نخبة السلطة من حيث الكفاءة والأمانة والعلاقة مع المجتمع المدني. هذا المثال الصريح لضرب طليعة الطبقة الوسطى السورية بوسائل غير اقتصادية (بعد أن تم ضربها اقتصاديا في الستينات) هو بالفعل صراع طبقي تواجهت فيه قيم العمل والعلم والإنتاج والتراكم مع قيم الهبش والسلبطة والاستهلاك السقيم. وتقدم المضايقات المستمرة التي خضع لها السيد سيف أيام حكومة الزعبي ووزيري ماليته واقتصاده وصولاً إلى اعتقاله في آب الماضي مثالا آخر عنه.
* * *
اعتقل السيد سيف كما هو معلوم على خلفيتين متميزتين ومترابطتين في آن معا. فقبل اعتقاله بوقت قصير نشر دراسة عن عقود الهاتف الخليوي، التي فاز بها أحد المتنفذين المعروفين، تبين أن ميزانية الدولة خسرت ما يزيد على200 مليار ليرة سورية خلال أعوام امتياز الشركة الفائزة الخمسة عشر( الشركة مسجلة في جزر العذراء، وهي من الفراديس الضريبية التي تلجأ إليها أموال تجار المخدرات ومهربي الأسلحة وكبار اللصوص...). أما الخلفية الثانية فتطل على قضايا الحريات العامة: حرية التعبير وحرية التجمع والنقاش الحر. فقبل اعتقاله بيوم واحد كان منتدى الحوار الوطني قد عقد جلسة متميزة بعدد حضورها اللافت، وبالمستوى الفكري والسياسي لمحاضرة د. برهان غليون فيها، وباتساع طيف الآراء التي وردت في المناقشة التالية للمحاضرة، وخصوصا بكونها أول استئناف غير مرخص لجلسات المنتدى بعد الانقضاض السياسي والأمني والإعلامي على "ربيع دمشق" في شباط 2001 .
تلقي القضية الأولى، قضية الخليوي، ضوءاً كاشفاً على ترابط السلطة والثروة في بلدنا بحيث أنها تستحق بالفعل التركيز المتكرر عليها. فمثال رياض سيف يوضح أن دائرة النشاط الاقتصادي، وليس الدائرة السياسية وحدها، حكر على أصحاب النفوذ وحملة مفاتيح القوة الذين يملكون البلاد ومن عليها. وبالمقابل فإن المرشح الذي فاز على نفسه، لأنه الوحيد، في مناقصة عقود الخليوي يجسد المثال المعكوس: تكون ملياردير من العدم تقريباً لأنه يملك مظلة سياسية حامية. يوضح هذا المثال الأخير المبدأ العام للفساد السياسي: السلطة مفتاح الثروة، وتحول الطبقة الحاكمة إلى طبقة حاكمة مالكة. رياض سيف محق تماماً إذن حين قال في جلسة الدفاع إنه معتقل عقود الخليوي وليس معتقل الاعتداء على الدستور. وسيكتشف من حسابه ومن حساب الشعب السوري أن السلطة لا تزال تغني وتفقر، تحيي وتميت، لكنها تفسد فقط. لذا فإن مصير الإصلاح الاقتصادي لن يكون أحسن حظاً من الإصلاح السياسي، فالحكم على رياض سيف يقدم مؤشراً أصدق عن سوء المناخ القانوني والتشريعي للاستثمار من الكلام الدعائي الذي يؤكد ليل نهار تحسن هذا المناخ، وهو رسالة تطمين للبيروقراطيين والمتنفذين اللصوص تبشرهم بـأن مناخ النهب والفرعنة والسلبطة بخير. أما بخصوص الخلفية الثانية، وهي تخص قضية الحريات العامة، فقد كان أهم تعبير عنها بعد تدشين "خريف دمشق" باعتقالات أيلول من العام الماضي هو قانون المطبوعات الذي يكشف عن عقلية ظلامية ورجعية مسكونة بالعداء لحرية التعبير، تنظر إلى الثقافة والفكر والرأي كأعداء طبيعيين لها.
* * *
لم تكن هناك أدنى علاقة بين مجريات محاكمة رياض سيف والحكم الذي ترتب عليها. فأقوال الشهود والدفاع الذي قدمته هيئة المحامين كانت كافية لتبرئة المتهم وإعلان الدعوى غير ذات موضوع. لكن المحكمة أخذت في النهاية بما أورده تقرير غير موقع، قدم إليها في أيلول الفائت، يوجه إلى المعتقل رياض سيف التهم التي أشرنا إليها فوق. تقرير غير موقع يعني تقرير مخابرات، وهو كلام يجب ألا يؤخذ به من الناحية القانونية كما يقول المحامون. وحكم لا يبالي بمجريات المحاكمة هو حكم مرتب سلفا وسابق للمحاكمة وليس مترتبا عليها. ولا حاجة لتأكيد أن الجهة التي ألهمت القاضي حكمه هي نفسها الجهة التي فاق وزن تقريرها في ميزان العدالة وزن الشهادات والأدلة المقنعة التي قدمها الدفاع.
إذا كان المتهم قد برئ من تهمة إثارة النعرات الطائفية فمن المشروع أن نتساءل: أليس من حق رياض سيف رفع دعوى على من كتب التقرير الذي يتهمه فيه بإثارة النعرات الطائفية وأخذت به المحكمة، خصوصا أن ما أورده التقرير من "معلومات" حول هذا الشأن يبلغ مستوى التحريض المنحط: "البلد يحكمه 200 ضابط علوي...إلخ" ( أجاب الشهود الثلاثة، نذير جزماتي ود.رضوان زيادة ود.يوسف سلمان، بالنفي المطلق على سؤال القاضي لهم عما إذا سمعوا سيف أو أي شخص من حضور المنتدى يقول هذا الكلام). فلماذا يكون هذا الكلام كاذبا، وهو كاذب عن عمد فعلا، فيما يكون باقي كلام التقرير "حقائق" تودي بالرجل خمس سنوات في السجن؟ من ناحية أخرى كيف أمكن لقاض ذي ضمير أن يقبل تهمة تشكيل جمعية سرية في الوقت الذي يعرف فيه جميع الناس أن منتدى الحوار الوطني كان علنيا وبحضور أعضاء من حزب البعث وعناصر من أجهزة الأمن؟ وأن حركة السلم الاجتماعي التي أصدرت "مبادئها الأولية للحوار" بتاريخ 31/1/2001 كانت مشروع حزب سيتم تأسيسه حين يصدر قانون الأحزاب (كان يفترض أنه وشيك وقتها)؟ وكيف تكون الدعوة إلى "تعديل بعض مواد الدستور" كما أكد الشهود والدفاع، أو حتى المطالبة بتغييره "اعتداء يستهدف تغييره بطرق غير مشروعة" حسب نص الحكم؟
القضية بكل بساطة قضية سياسية وليست قضية حقوقية، قضية قمع وليست قضية عدالة. وقد لخص السيد هاني مجلي، المدير التنفيذي لقسم الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا في منظمة "مراقبة حقوق الإنسان" الحكم على سيف بالكلمات التالية: "لقد أعلنت سورية الحرب، في واقع الأمر، على النقاد السياسيين المسالمين، فمن الواضح أن الهدف من وراء هذه الأحكام هو معاقبة وتخويف جميع دعاة التغيير السياسي الديمقراطي في سورية".
* * *
سيدخل المستشار عباس ديب التاريخ لموقفه العادل والشجاع في قضيتي رياض سيف ومأمون الحمصي. لم يفعل الرجل شيئا غير تحكيم عقله وضميره، فرأى أن "الدستور قانون وضعي قابل للتعديل والتطوير تبعا لما يستجد به الزمان والمكان"، وأن " ما قام به سيف وهو عضو في مجلس الشعب كان من صلب واجبه الملقى عليه". وعلى ذلك رأى ديب أن "فعل المتهم من أفعال الإباحة وبالتالي لا إثم عليه ويتعين إعلان عدم مسؤوليته عما نسب إليه" ( السفير، 11/4/2002). هذا الموقف لا يشرف المستشار ديب وحده، وإنما القضاء السوري أيضا الذي ليس في رصيده، للأسف، الكثير من المواقف المشرفة¾