ما يجري في الضفة الغربية الآن هو أقرب إلى المعركة التي تجري في البلاد العربية بين الجلاد والسجين السياسي في زنزانته. معركة بين جيش مدجج بأعتى أنواع السلاح وكل وسائل القوة الأخرى، وشعب لايملك من القوة أكثر من إصراره على طرد المحتل من أرضه. فالمعارك التي خاضها المقاومون الفلسطينيون في جنين ونابلس ورام الله وبيت لحم وطولكرم وبيت جالا والخليل، أنجزت أكثر بكثير من قدرة السلاح المتوفر في أيديهم. ولا نعتقد أن أوهاماً كانت في الرؤوس، إلا لدى المهووسين، حول قدرة البنادق والعبوات الناسفة والصدور العارية على كسر الترسانة العسكرية الاسرائيلية الأميركية. ما كان مطلوبا هوالصمود. وهذا ما كان؛ فالصمود الأسطوري المتواصل قد قطع الطريق على توقيع وثيقة التنازل والاستسلام (تعديل زينيت على تفاهمات تينيت). كان هدف الأميركيين والاسرائيليين واضحاً وعارياً، يريدون من السلطة الفلسطينية أن تقوم بذبح المقاومة الفلسطينية، هكذا فهموا اتفاقية أوسلو. فإذا كانت عملية السلام في أوسلو قد غيرت صورة الاحتلال، لكنها لم تغير من طبيعته الأساسية، وقد قال (شلومو بن عامي) قبل فترة قصيرة من التحاقه وزيراً للخارجية في حكومة يهودا باراك عن هذه الاتفاقية: إن اتفاقات أوسلو تقوم على قواعد النظام الاستعماري الجديد، ويعني هذا أنها أسست على نوع من الحياة يعتمد فيها أحد الفريقين فيها على الآخر إلى الأبد.
حينما استهلك أبوعمار كل التكتيك الذي في حوزته دون الوصول إلى أي نتيجة، لم يبق لديه من خيار إلا الصمود عند الاستراتيجي في كامب دافيد. فلم يبق في جعبة الرئيس الفلسطيني سوى القضايا التي لا يساوم عليها: دولة ذات سيادة على الأرض التي احتلت في(1967)، السيادة على القدس والمسجد الأقصى، عودة اللاجئين، وهذا يعني دورة أخرى من العنف بين الشعب الفلسطيني والاسرائيليين. في هذه الظروف السياسية نشأت الانتفاضة الثانية.
إن الهجوم الاسرائيلي الشامل على أرض الحكم الذاتي كان مبيتاً، وخططه الاستراتيجية جاهزة، وكانت هنالك اجتماعات ومشاورات مطولة مع الإدارة الأميركية حولها، وكان هنالك تعهد من شارون (أثناء هذا الهجوم) بعدم المس بحياة عرفات، وأما تنفيذ العملية فكان ينتظر التوقيت الملائم. وجاءت جولة تشيني وما حملت معها من فشل، ثم مؤتمر القمة في بيروت ومبادرة السلام السعودية، والتحسن النسبي للعلاقات بين العراق ودول الخليج، لتحدد نقطة الصفر للغزو الاسرائيلي البربري.
* * *
ما يتفرد به الشعب الفلسطيني في نضاله ضد المحتل الاسرائيلي عن باقي الشعوب التي كانت لها تجارب تاريخية ضد المحتلين، هو أنه محاصر من الداخل ومن الخارج. فالفيتناميون كان يأتيهم الإمداد العسكري وغير العسكري من إخوتهم في فييتنام الشمالية، ومن الصين وكامبوديا ولاووس والاتحاد السوفييتي وبلدان أخرى؛ والشعب الجزائري كانت له أثناء حرب الاستقلال ملاذات آمنة وحدود مفتوحة مع المغرب وتونس وليبيا ومصر، وفي جنوب أفريقيا تأتي المساعدات من كل دول الجوار للسود الثائرين على حكم التمييز العنصري القائم. من هذا المنظار يمكننا أن نقدر مدى الصعوبات الهائلة التي يعاني منها اشقاؤنا الفلسطينيون في نضالهم ضد المحتل الصهيوني، ونحن نعتقد أن هذا العامل،عامل الحصار، قد لعب دوراً مركزياً في رسم الاستراتيجية العسكرية للانتفاضة الأولى( سلاح الحجارة). فالإمداد والتموين بالسلاح مرتبط بطرق الإمداد. إن شراء السلاح من التجار الاسرائيليين يبقى محدوداً كماً ونوعاً. ولهذا العامل بالذات أي انسداد طرق الإمداد من الخارج، كان الدور الأساس في ممارسة العمليات الاستشهادية لتعديل ميزان القوى بين طرفي الصراع؛ ورغم ماتشكل هذه العمليات من ضغط معنوي على العدو تؤدي في آن لخسائر سياسية، سواءً على مستوى الرأي العام العالمي، أو على الرأي العام داخل اسرائيل. إن النظر إلى هذه العمليات التي تستهدف المدنيين يجب أن يكون من باب مصلحة النضال الفلسطيني وآفاق انتصاره. ويبدو أن حتى الشيخ أحمد ياسين المرشد الروحي لحماس قد رأى (على موقع اسلام اون لاين) أن من المصلحة إعادة النظر في هذه العمليات، فراح يدعو إلى ترشيد استخدام العمليات الاستشهادية كسلاح لردع العدو وتنفيذها في الزمان والمكان المناسبين، بشكل «لا يضر بالقضية الفلسطينية، ولا يثير الرأي العام الدولي، مؤكداً استمرار المقاومة بمختلف أشكالها ضد الاسرائيليين المحتلين».
استطاع شارون أن يشن حرب إبادة على الفلسطينيين مدعوماً عسكرياً واقتصادياً ودبلوماسياً من القوة العالمية العظمى الوحيدة ولكنه لم ينتصر على إصرارهم في مواصلة الكفاح من أجل استقلالهم وتقرير مصيرهم، وفي الغد القريب جداً ستكون هناك انتفاضة ثالثة ورابعة وخامسة. فالشعب الفلسطيني لا يملك إلا أن ينتفض وهذا خياره الوحيد.
* * *
لم يكن صمود الشعب الفلسطيني في معركته الصعبة والقاسية والمريرة إزاء غزوة شارون البربرية بدون مكاسب، ومن أهم مكاسب هذا الصمود الأسطوري:
· أظهر النظام الرسمي العربي على واقعه تماماً، وفي حالته المشهديه من العجز والشلل الكاملين.
· لعب دوراً تحريضياً في تحريك الشعوب العربية واستيقاظها ونزع شيئاً من ثقافة الخوف التي تسيطر عليها منذ أكثر من أربعة عقود.
· أعاد الجدل للعلاقة بين الجزء والكل، أي للعلاقة العضوية بين نضال الشعب الفلسطيني ونضال الأمة العربية بأكملها، ورهن الانتصار الناجز للشعب الفلسطيني بقدرة الشعوب العربية على بناء أنظمتها الديموقراطية السياسية التي تمثله.
· أدخل القضية الفلسطينية بقوة وبزخم لأول مرة منذ 54 عاماً في ضمير الرأي العام العالمي ولجان حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني الدولية. وجعل النظام الصهيوني يعاني من عزلة شعبية ورسمية واضحة في أوربا.
· سوف يكون حافزاً من أجل صوغ استراتيجية نضالية فلسطينية واحدة عسكرياً وسياسياً، لأنه بقدر ما يتوفر هذا التوحد الاستراتيجي بقدر ما يكون النضال الفلسطيني قريباً من تحقيق أهدافه¾