قد يثير هذا العنوان بعض العراقيين من دعاة المصالحة الوطنية، وربما ينتقص من نشوة بعض ضحايا الفاشية وينغص عليهم فرحتهم، لكنني متأكد انه سيثير غضب عتاة البعثيين وغلاة القوميين،لأنه يعلن وبصراحة ووضـوح، بان الفاشية لا زالت موجودة في المجتمع العراقي، ليس على هيئة مؤسسات واجهزة دولة، وانما كايديولوجيا، ولم يتم إجتثاثها بعد، ولن يتم بسهولة.. فلا زالت هذه الفاشية تطل علينا بأقنعة مختلفة، ابرزها تيارات واحزاب وتشكيلات قومية ودينية وعشائرية، بعضها في داخل العراق، والبعض الآخر يعشعش في بعض العواصم العربية..!
وبدءا أود التوضيح بأن الفاشية في العراق لم تسقط ولم تذهب الى الأبد بمجرد قرار الأميركان بحل الجيش العراقي وأجهزة المخابرات ووزارة الإعلام، او بالقاء القبض على صدام حسين وبقية طاقم حكمه. صحيح ان هذه الأجهزة هي الوجه الأبرز والبشع للدولة الفاشية في العراق، وان القاء القبض على قيادة السلطة الفاشية هي الضربة القاضية التي حطمت هذه الدولة، لكنها بالتأكيد لا تعني زوال الفاشية من العراق، من حيث ان الفاشية حكمت العراق لمدة خمس وثلاثين عاما، وطوال هذا الوقت هيمنت ايديولوجيتها على المجتمع العراقي، أي انها ولأكثر من جيل كان تسمم الانسان العراقي ، ليل نهار، بفكرها الفئوي العنصري الشوفيني المريض.
ساعتمد هنا على طروحات المفكر ( نيكوس بولنتزاس) الذي كان من أهم المفكرين الذين تفحصوا آلية الدولة الفاشية وعملها البوليسي في العديد من اعماله وبحوثه، والتي أهمها كتابه (الفاشية والدكتاتورية) الذي قامت نهلة الشهال في العام 1979 بترجمة القسم الخامس منه فقط فصدر في بيروت في كتيب بعنوان
((الايديولوجية والسلطة، نموذج الدولة الفاشية ). وفي هذا الكتاب يؤكد (بولنتزاس) بأن( أجهزة الدولة الآيديولوجية في الدولة الفاشية تقدم في علاقاتها المتبادلة وفي علاقاتها بجهاز الدولة، شكلا ودرجة من الاستقلال الذاتي النسبي الذي لا تملكه فروع جهاز الدولة. إن جهاز الدولة القمعي، النواة المركزية لنظام الدولة وسلطتها، يمتلك وحدة داخلية اقوى واشد صرامة مما تمتلك الاجهزة الايديولوجية......ولن يجري (تحطيم) الاجهزة الايديولوجية بالوقت نفسه وبالطريقة ذاتها التي ستجري بها (تحطيم) جهاز الدولة، كما ان تحطيم كل من الاجهزة الايديولوجية لن يجري بأسلوب وزمن متماثل..)
والمقصود هنا بالاجهزة الايديولوجية هي الهياكل الاساسية الثلاثة: الحزب الواحد الأوحد ونقاباته العمالية وجمعياته الفلاحية وتنظيماته الطلابية والنسائية والرياضية والمدارس والجامعات، ثم تأتي العائلة، التي أصبحت احدى القطع المركزية في اجهزة الدولة الايديولوجية، ثم اجهزة الاعلام والدعاية من صحافة، تلفزيون، راديو، نشر كتب، حملات توعية، مؤتمرات ثقافية وشعرية وفنية كالمربد وبابل وغيرها. ولو تفحصنا هذه الاشكال من الاجهزة الايديولوجية لوجدنا ان الدولة البوليسية صارت تتدخل حتى في احلام مواطنيها وكوابيسهم، وفي قصائد الشعراء .
فـاشـية عـادية.. مشـوهة ومتخـلفة ايضـا
لقد جرى على مدى العقدين الأخيرين، وفي المنفى، تفحص نسبي للطبيعة الفاشية لدولة البعث في العراق، ولأيديولوجيتها، ومايسمى بثقافتها، على يد نخبة قليلة من المثقفين والأدباء العراقيين امثال فالح عبد الجبار، علي الهاشمي، زهير الجزائري، شاكر لعيبي، سلام عبود، وغيرهم، وقد لعب الحزب الشيوعي العراقي ،لا سيما بعد انفراط الجبهة الوطنية وخروج قياداته الى المنفى،الدور الأبرز في تسليط الضوء على فاشية النظام العراقي... رغم ان الشعب العراقي ككل كان يعرف البعثيين من خلال تاريخهم الدموي إثر انقلاب شباط 1963، وسياسيا كانت هناك تشخيصات فكرية لطبيعة البعث كفكر قومي شوفيني منغلق وكممارسة فاشية تجلت في طروحات تنظيم القيادة المركزية ومنظمة الشيوعيين الثوريين وبعض المثقفين التروتسكيين ، بل وحتى المنظمات الديمقراطية التي كانت الواجهات الديمقراطية التاريخية للحزب الشيوعي، كالاتحاد العام لطلبة العراق، ورابطة المرأة العراقية، واتحاد الشبيبة الديمقراطي العراقي، لا سيما اثناء النقاشات الحادة التي كانت تدور حول الجبهة الوطنية، وقرار تجميد هذه المنظمات..! ومن يعرف تلك الفترة سياسيا جيدا يستذكر كيف ان الاعتراضات على هذه الجبهة داخل الحزب وعند جماهير الشعب كانت اكبر واقوى من كل التحليلات التي روج لها المرحوم عامر عبدالله وباقر ابراهيم وكريم احمد ومكرم الطالباني في قيادة الحزب الشيوعي..
وللتاريخ نذكر ان استخدام مصطلح (الفاشية) في توصيف حزب البعث والدولة العراقية، لم يكن أمرا عابرا ولفظا سياسيا سهلا يطلق كشتيمة ومبالغة سياسية دعائية ضد عدو سياسي، بل كان مثار جدل واسع بين المثقفين اليساريين العراقيين،إذ كان السؤال المطروح هو: هل تنطبق المواصفات والتعريفات التي قدمها الفكر الماركسي، والرسمي منه بالتحديد، لا سيما تعريفات (ديمتروف) و( تولياتي) للفاشية، على الواقع العراقي؟؟ وقد جاء ترجمة كتاب (الايديولوجية والسلطة) الانف الذكر من قبل (نهلة الشهال) في تلك الفترة بالتحديد كجزء من جو النقاش الحامي، حيث شهدت هي ايضا جانبا من نقاشات المثقفين والمناضلين العراقيين في بيروت، واجتراحات الأدباء والفنانين العراقيين في توصيف طبيعة الدولة العراقية، لا سيما بعد
صعود صدام حسين الى رئاسة الدولة..!
إن مثل هذه النقاشات كانت غائبة عن المثقفين العراقيين في الداخل، بل حتى الجيل الذي خرج بعد حرب الخليج الثانية في بداية التسعينيات لم يشغل حاله بمثل هذا الأمر..وكلما كانت السنين تمر، وتطول رحلة المنفى، كلما كان التراخي يدب في مفاصل الجبهة الثقافية والفكرية التي خرجت نهاية السبعينيات الى المنفى، بل وكلما كان عدد المهاجرين من العراق يزداد، لاسيما والكثير منهم خرج ليس لاسباب سياسية وانما اقتصادية، أو حتى كجواسيس للنظام من أجل شق وحدة المعارضة في الخارج، كلما صار للبحث والتفحص الفكري الرصين صعوبات مضاعفة..
لقد كان التوقيع على الجبهة الوطنية ما بين الحزب الشيوعي والبعث، والاقرار لهم بقيادة المجتمع والسلطة السياسية هو الانتصار الأبرز للفاشية في العراق، فتحت ظل هذه الجبهة تمت تصفية الحركة التحررية الكوردية، واجتراح مذبحة ( قلعة دزة) التي لا تقل عن مذبحة حلبجة، حيث طوقت دبابات الجيش العراقي منطقة (قلعةدزة) من جميع الجهات مطلع فجر عراقي، وانهالت عليها بالصواريخ من كل الجهات ثم هجمت عليها فدمرتها، واختلطت أجساد الناس مع التراب، بل صار يهرس من خلال (جنزير) دبابات الجيش العراقي ( البطل)..، وتحت مظلة الجبهة الوطنية تمت تصفية الحركة الدينية الشيعية، وبالتحديد (حزب الدعوة) وانصار المرجعية، بل ان الشيوعيين كانوا يحرسون المناطق الى جنب البعثيين في تلك الفترة..، بل وتم تصفية الشيوعين العسكريين واعدامهم.. ولكي لا يفهم كلامي وكانه موجه ضد الشيوعيين، فانني اقول ان (جل) هذه الاحزاب التي ولدت مؤخرا، و(معظم) الحركات القومية والعروبية الحالية، ولجان علماء المسلمين، ولجان رؤساء العشائر، وبعض الاسماء التي تزعق اليوم باسم العراق، وتصول وتجول في اروقة الجامعة العربية والعواصم الشرق اوسطية والخليجية، كل هؤلاء كانوا جزءا من حزب البعث الفاشي، وأداة قمعه الدموية، وعيونه الساهرة،..واذا اقتضى الأمر سنسمي بالاسماء وبالوثائق..!
إن الخراب الذي مس بنية الشعب العراقي، وتغلغل في الشخصية العراقية تحت تاثير الدولة الفاشية على مدى ثلاثة عقود ونصف لن يزول بقرار حل حزب البعث وتفكيك أجهزة المخابرات واجهزة الاعلام، ولا يشفى بالنوايا الطيبة، ولا بالشعارات عن الخلاص والحرية، وانما يحتاج الى فترة طويلة من تفكيك البنى والمرتكزات التي قامت عليها السلطة الفاشية.
ان حل النقابات العمالية والمهنية، وحل الاتحاد الوطني لطلبة العراق، واتحاد النساء، لا يعني
ان ايديولوجية النظام قد دمرت وتحطمت، وانما تم تحطيم الهياكل التي كانت قائمة، اما الذين
كانوا يشغلونها ويمارسون السلطة من خلالها، فهم طلقاء، بل ان معظمهم تغلغل في الاحزاب الاخرى، مستترا، لاسيما وان بعض الاحزاب تبحث عن اعضاء وجماهير لها.. أي ان البعثيين خرجوا من الباب لكنهم بدأوا يدخلون من الشباك!
التعــليم الجــامعي.. والفكـر العنصـري المتخـلف.. وعقلية الدولة
لنتوقف عند الجامعات العراقية، فهي على مدى ثلاثة عقود كانت مصنعا لانتاج الفكر القومي المنغلق على نفسه، وكانت في فعالياتها الاكاديمية بوقا للفكر الفاشي، وليس غريبا ان يكون (معظم) أكاديمي هذه الجامعات من (نخبة) البعث الفكرية، الذين حصلوا على أعلى الشهادات في بحوثهم الاكاديمية حول (نظرية العمل البعثية)، و( الفكر الاداري في خطابات الرئيس القائد)، و (علم الجمال البعثي)، وكل الاضافات الفكرية الجبارة التي قدمها (القائد الضرورة) للفكر العالمي..بل ان الكثير من هؤلاء الاكاديميين انفقوا الوقت الثمين من أجل تزوير تاريخ العراق القديم..، حتى ان بعض المؤرخين اصابهم التلوث وهاجس الخوف فتنكروا لكل تاريخهم الاكاديمي والعلمي المشرف حينما خرجوا علينا باستنتاجات غاية في التفاهة والتزوير والسذاجة، حينما صار السومريون عربا، والأكديون عربا، والبابليون عربا، وصار حمورابي عربيا، ونبوخذنصر عربيا، وسرجون الأكدي عربيا، وآشوربانيبال عربيا، وصلاح الدين الايوبي عربيا، وابراهيم الخليل عربيا، وصدام حسين من سلالة الامام علي بن ابي طالب ..كيف لا وان الفكر الذي كان يهيمن على العراق هو فكر يسترشد بالمعتوه خير الله طلفاح الذي اصدر سلسلة كتبه الشهيرة التي كانت تدرس في الجامعات العراقية وفي اقسامها السياسية والتي تتقدمها مقولته الشهيرة ( ثلاثة كان على الله ان لا يخلقهم: الفرس واليهود والذباب) ..!
هذه الجامعات التي كانت حكرا على البعثيين، لم تكتف بتحزيب الطلبة، وانما منعت دراسة وبحث اي فكر آخر، بل ومنعت تداول ودراسة الكثير من الاسماء الأدبية والفكرية العراقية،لمجرد انها يسارية او غير بعثية، او غير عربية، أو ذات تجربة سياسية سابقة على البعث، فقد كان الفكر والسياسة والحرية والديمقراطية، بل التاريخ والجغرافيا، كل ذلك يبدأ مع البعثين ومع مجيئهم الى السلطة وينتهي بهم، فهم البدء والختام..، فقد كان من المحرمات الحديث عن تاريخ الوزارات العراقية والحياة البرلمانية في العراق في الفترة الملكية مثلا، وعن حرية الاضراب، وعن تغير الوزارات العراقية نتيجة الاضرابات، وعن بساطة العائلة المالكة، وعن برنامجها لتحديث العراق، او الحيث عن ثورة الرابع عشر من تموز وقادتها، او ذكر قائدها الزعيم عبد الكريم قاسم، وكان من المحرمات الحديث عن مؤلفات المفكر الشهيد محمد باقر الصدر ومناقشتها، ويمكننا ببساطة ان نستشف طبيعة العقلية التي كانت تهيمن على مراكز البحوث والدراسات في الجامعات العراقية حينما نستمع الى مستوى لغة وخطاب (الدكاترة) الذين يطلون علينا بمناسبة وبدون مناسبة من خلال الفضائيات العربية ليتحدثوا عن العراق والحالة العراقية،
والاغرب من ذلك يقدمونهم لنا كمحللين سياسيين..!!!
إن إصلاح التعليم الجامعي في العراق يعد من أهم المهمات التي تنتظر المجتمع العراقي كي يتخلص من هذا الفكر المقيت، وهذا لن يتم بمجرد اجراء انتخابات وتغيير الوجوه، وانما باعادة النظر بكل المناهج وباساليب التعليم والنظريات التي تدرس، وبالتفاصيل الادارية لتيسير الحياة الجامعية..، بل والنظر الى أطاريح وبحوث العديد من حملة الشهادات العليا من خريجي الجامعات العراقية. أما الحديث عن الخراب الذي مس بنية الثقافة الأدبية والأبداعية، وبنية العلاقات العائلية، ومس الشخصية العراقية ومنظومتها الاخلاقية فلها وقفة قادمة..