يبحث كل فرد أو تجمع سياسي عن آلية خاصة للدفاع عن مواقفه في الظروف المختلفة، كما يبحث عن جهات تتحمل مسؤولية هذه الظروف، وبقدر قوة أو ضعف هذه المواقف وإنسجامها مع المنظومة الفكرية لهؤلاء الأفراد والتجمعات، والعراق تقدم، اليوم، مثالا ساطعا على هذه الملاحظة، بقدر ما تتركز كل الجهود على عملية البحث عن هذه الآلية بدلا من إعمال الفكر والتجربة للتحقق من صحة هذه المواقف.
في البداية، وعذرا لأنني مضطر للحديث عن نفسي، ذلك إن الحوار الذي يديره (مثقفو) المعارضة العراقية سابقا ومجلس الحكم الانتقالي حاليا، يتركز على شخصية المحاورين ولا تحظى الأفكار التي يطرحوها إلا بسيل من الشتائم والنعوت.
إنني من هذه الغالبية العظمى من الصحفيين العرب، التي يتجاهلها (مثقفو) المعارضة العراقية سابقا ومجلس الحكم الانتقالي حاليا، التي لم تقبل قشة من النظام العراقي السابق، كما إنني من هؤلاء الذين تضامنوا على مختلف المستويات وبكافة الإمكانيات، وحتى اليوم، مع المعارضة العراقية وضحايا النظام الديكتاتوري السابق، قبل عشرات السنين، وقبل أن يصبح الأمر على الموضة، وعندما كان بعض أعضاء مجلس الحكم الانتقالي الحالي جزء من نظام صدام حسين، وبعضهم الآخر مشغول بجمع ملايين الدولارات في الخارج، وكنت أيضا من أشد المتحمسين والمدافعين عن القضية الكردية والحقوق القومية للأكراد.
لن أطيل في هذه المقدمة الشخصية، وأعتذر عنها مجددا، وعذري يكمن في طبيعة الحوار الجاري والذي يفرضه الأصدقاء العراقيون علينا (ستالينية بعض الشيء)، والتي تجبرنا على ذلك لاختصار الوقت لاحقا.
ما يؤكده (المثقفون) المدافعون عن السلطة الحالية في العراق في كافة مقالاتهم من أن كافة العرب كانوا وما زالوا يؤيدون نظام حسين، وأنهم وقعوا تحت وهم أفكار وأحلام قومية، كان هدفها الوحيد هو تغطية جرائم هذا النظام، ليس صحيحا، لا على مستوى القول بأن كافة العرب يؤيدون النظام العراقي السابق، ولا على مستوى الأفكار القومية وهدفها الوحيد في تغطية جرائم الديكتاتوريات، وسواء كانت الانتقادات الموجهة للوضع الراهن ومؤيديه حسنة أو سيئة النية، فإنه لا يكفي للرد عليها إتهام أصحابها بأنهم عملاء النظام السابق أو أنهم من الواهمين والحالمين، كما لا يمكن تبرير الوضع الحالي في العراق بمقولة "ليس في الإمكان أبدع مما كان"، فهذا الأسلوب يمكن أن يصلح لحسم شجار في سوق الخضر (مع إحترامنا لتجار الخضروات)، ولكنه لا يصلح للحوار حول مستقبل بلد عريق يتمتع بحضارة قديمة كالعراق.
ويقدم المدافعون عن الوضع الراهن حجة رئيسية، تقول بأن إزاحة نظام من السلطة كانت مستحيلة بدون تدخل القوات الأمريكية والبريطانية، وتعود الآخرون على تقبل هذه الحجة دون الرد عليها، إلا أن وضع العراق السابق والذي تكشف عنه هذه الحجة يطرح أسئلة هامة. لماذا كان من المستحيل إزاحة هذا النظام بينما تحقق ذلك في بلدان أخرى كانت تعاني من ديكتاتوريات لا تقل وحشية أو دموية عن ديكتاتورية صدام ؟ ولماذا تمكن الديكتاتور من إقامة الأطر والهياكل التي دعمت نظامه، واستمر جزء منها في ذلك بعد الاحتلال، بالرغم من 35 عاما من القمع والسلب والنهب، بينما عجزت القوى الوطنية عن بناء هياكل مقاومة ومواجهة فعالة ؟
الموضوع الرئيسي حاليا، وبإتفاق الجميع، هو حاضر العراق ومستقبله، وهنا يجب الإتفاق على مجموعة من الحقائق الموضوعية:
ـ العراق بلد محتل من قبل القوات الأمريكية والبريطانية، وبصورة غير شرعية، بالرغم من قرار الأمم المتحدة الأخير الذي يتعامل في نصه مع أمر واقع لوضع بعض الضوابط لهذا الأمر الواقع، دون أن يضفي عليه الشرعية.
ـ مجلس الحكم الانتقالي هو مجلس تم تعيينه واختيار أعضائه من قبل سلطة الإحتلال، ولا يغير من ذلك أن عددا من هؤلاء الأعضاء يتمتع بتاريخ وطني مشرف، وإحترام شعبي واضح.
ـ السلطة الحقيقية والفعالة هي في يد سلطة الإحتلال والحاكم المدني الأمريكي، ولا يغير من الأمر نقل بعض المسؤوليات الثانوية إلى مجلس الحكم، أو تشكيل حكومة انتقالية جديدة وتغيير لقب الحاكم المدني الأمريكي إلى سفير على رأس سفارة كبيرة يجري بحث إنشاؤها وأساليب عملها في واشنطن حاليا، والدليل الساطع لا يكمن في وجود قوات الإحتلال فقط، وإنما يكمن، أيضا، في الحصانة القانونية التي يتمتعون بها في حال إرتكابهم لتجاوزات في حق المدنيين العراقيين.
ـ تقوم تركيبة مجلس الحكم على أساس طائفي واضح، وليس على أساس الخريطة السياسية للحركة الوطنية العراقية، وهي المرة الأولى التي يتم فيها تقنين وضع سياسي طائفي في هذا البلد، ومن المستبعد أن تبتعد الهياكل المستقبلية الدائمة عن هذا المنطق الطائفي في حال استمرار أسلوب إعادة البناء السياسي على ما هو عليه.
ـ سلطة الإحتلال تقيم حاليا، عبر هذا المجلس وعبر الحكومة المؤقتة، نظاما اقتصاديا وسياسيا وإعلاميا وفق رؤيتها الخاصة ودون مشاركة أي جهة عراقية منتخبة، ولا يتعلق ذلك بعقود إعادة البناء والنفط فقط، وإنما يمتد ليشمل خيارات استراتيجية ستحدد مسار البلاد لعقود طويلة، بعيدا عن أي استشارة ديمقراطية حقيقية لآراء العراقيين عبر الأشكال المعروفة (الانتخابات، البرلمان ... الخ).
(في هذا الإطار التقيت، بحكم عملي كصحفي، بعدد من أعضاء مجلس الحكم، وكان أطرف لقاء مع عضو المجلس الشيوعي، الذي قدم، على مدى ساعة كاملة، مرافعة بليغة دفاعا عن اقتصاد السوق، ردد خلالها مقولات تراجع عنها أكثر الساسة وخبراء الاقتصاد ليبرالية في أوروبا الغربية، وله الحق الكامل في تبني هذه الأفكار، ولكنه هو وزملائه في المجلس لم يتم انتخابهم، وبالتالي لا يتمتعوا بشرعية الديمقراطية لتطبيق أفكارهم هذه).
يطرح الحوار الراهن بتفاصيله بعض الأسئلة على القوى الوطنية العراقية، والتي ستساعد الإجابة عليها في فهم طبيعة النظام المقبل.
ـ لماذا يتبنى (مثقفو) المعارضة العراقية سابقا ومجلس الحكم الانتقالي حاليا، الإتهام الأمريكي للمسؤولين عن العمليات ضد القوات الأمريكية بأنهم من اعوان النظام السابق أو من الإرهابيين الإسلاميين الأعضاء في القاعدة وغيرها، ولا يخطر ببالهم أن هناك، أيضا، من العراقيين من يختلف معهم حول قضية استعادة السيادة سلميا ويرفض الاستمرار في ظل الإحتلال، وتاريخ البشرية يمنح مقاومة الإحتلال بالقوة الشرعية الكاملة. ألا يعرف أصدقاؤنا أن هذه هي سنة الحياة السياسية الديمقراطية، حيث يمكن ألا يتفق معنا البعض دون أن يكونوا إرهابيين أو أعوان صدام ؟
ـ علمتنا التجربة سواء في الغرب أو في الشرق، في المجتمعات المتقدمة أو المتخلفة، أن القوى السياسية عندما تضيق ذرعا بالصحافة (بصرف النظر عن توجهات الأجهزة الإعلامية المختلفة) وتبدأ في الهجوم عليها وتحميلها مسؤولية أوضاع قائمة، فإن السبب يكمن أساسا في ضعف مواقف هذه القوى السياسية وتحليلاتها، واسمحوا لي أن أقول، وبصرف النظر عن الآراء المختلفة في الفضائيات العربية، أننا نحن كصحفيين ضقنا ذرعا بمن يحاولون استخدامنا كمسمار جحا، لماذا تهاجمون الصحافة بدلا من أن تسمحوا لصحافتكم الحرة بالرد عليها ؟
ـ لماذا يتبنى (مثقفو) المعارضة العراقية سابقا ومجلس الحكم الانتقالي حاليا، مقولة الرئيس الأمريكي جورج بوش "من ليس معنا فهو ضدنا"، مع المثقفين العرب، حيث الإتهام فوري لمن لا يتفق مع رؤيتهم لمستقبل العراق وأسلوب إعادة البناء ودور الأمريكيين، فهم إما عملاء للنظام السابق أو يعيشون في الأوهام والخداع، لأنهم لم يتفقوا مع الحقيقة المطلقة التي أعلنها البيت الأبيض، ووافقت عليها هذه الفئة من العراقيين، مع العلم أن هناك فئات واسعة من الجماهير العراقية ومن القوى السياسية (غير المشبوهة) ترفض بدورها هذه الحقيقة المطلقة. ويتضمن الأمر إبتزازا أو تهديدا ضمنيا للعرب بإمكانية الاستغناء عنهم والإكتفاء بالكويت، وحقيقة الأمر أنه إذا كان العرب بحاجة إلى العراق وحضارته العريقة في صفوفهم، فإن العراق، بدوره بحاجة ماسة للعرب للوجود، وصدقونا عندما نقول إن الأمريكيين والكويتيين وحدهم لن يكفوا لكي يستعيد العراق مكانته التي يستحقها على الساحة العربية والدولية. لماذا رفض موقف عربي مخلص ومخالف، ولماذا التهديد الضمني بالتخلي عن الهوية العربية، والعراقيون سيكونون أو الخاسرين من مثل هذه المغامرات ؟
ـ صحفي