يحقّقُ الظرفُ القائمُ في العراقِ فرصاَ َ مؤاتيةَ َ لمختلفِ القوى لكي تعبِّرَ عن تصوراتِها و رُؤاها بشئِ ِ من الحريةِ حتى تلك القوى التي تنتمي إلى الأمسِ القريبِ من زمن الدكتاتورية فهي تتفاعل مع الوقائع اليومية الراهنة عبر مسارين: الأول يتمثل في استغلال الحريات السياسية للدفاع عن سياساتها وتبرير أفعالها الخاطئة؛ وفي أحيان ضئيلة التعذ ّر عمّا بدر من [أخطاء] منها بالأمس, من دون التخلي الواضح عن جوهر مبادئ مُمَالأة الدكتاتورية وعسفِها. و المسار الآخر يتمثل في استغلالِ ِ بشعِ ِ لانفلاتِ الأمور في الوضع الراهن لتنفيذِ سياساتِ إرهابِ الجمهور ومصادرة الإمكانات والفرص المتاحة الجديدة لكي يعبِّر عن نفسه بحرية..
وليست قوى الدكتاتورية فاقدة السلطة هي التي تستخدم العنف [ومن ثمَّ إرهاب الناس] وحدها بل قوى تربَّت في ظل الحكم السابق ونشأت عن أمراض الدكتاتورية فضلا عن اختراقات قوى الإرهاب الدولي والإقليمي للبلاد في ظروفه الخاصة ... وبقراءة هذه القوى نجدها لا تستطيع العيش وسط شعب ينشد السلام والأمن والحرية ووقف آليات زمن العنف والاستلاب ولكنها من أجل أنْ توفر أرضية مناسبة لحياتها المرَضية تتعكَّز على التقرّب من هذه الطائفة أو تلك الفئة وهكذا ..
إنَّ ما ينشأ عن مثل هذه السياسة عمليا هو مزيد من الفرز الطائفي ومزيد من الإمعان في استغفال الجمهور الذي أعيته مظالم الأمس وأوصابه حتى فقـَدَ الثقة بأقرب القوى المعبِّرة عنه.. وعليه فإنَّ قوى العنف والتخريب تعوِّل على تفعيل هذه السياسة مستغلة فكرة الحريات في التعبير عن الذات وعن خصوصية الهوية والطقوس.
وفي ظلِّ هذه الشعاراتية الزائفة يتمّ منع أبناء الطائفة نفسها من مراجعة تلك الطقوس ومفردات التعبير عن الذات وعن الهوية الخاصة. فتـُمرَّر بذلك سمات وخصائص ليس لها أية علاقة بالطائفة المعنية؛ ولكنَّها سمات تديم أفعال الفصل الطائفي والقطيعة بين مكوّنات الدين الواحد, ومن ثمَّ بين أبناء الشعب الواحد المتجانس اجتماعيا وفكريا وسياسيا.. وتلك لعبة يجب فضحها ووقف تأثيرها على أبناء شعبنا جميعا...
وبغية كشف الأمور نتساءل عمَّنْ يقف وراء هذه السياسة؟ لقد سجَّلـْنا القوى التي فـَقـَدَتْ أرضية وجودها بانهيار النظام الدكتاتوري.. وكذلك القوى الدخيلة القادمة من وراء الحدود وبالتحديد منها التي تستغل التوجهات الطائفية السنيّة (المقصود بالتحديد المتطرفون المتشددون من الوهابيين) والشيعية (المقصود هنا بالتحديد الممثلة للأصبع الإيراني) ومدَّعي الحرص على مصالح قومية كما للتركمان (بالتحديد الفئة التي تمثل مصالح تركيا وليس التركمان).
وبالإشارة إلى قوى دولية مختلفة أخرى لها أصابعها التي تحاول تنشيط سياسة تقطيع أوصال الوطن وتفتيت وحدته التاريخية نشير بتأكيد أكبر إلى شعبية مفهوم الوحدة الوطنية واتساع جماهيريته وسعة القوى الممثلة له بين جميع المسميات والمكوّنات التي ذُكِرت للتو.. والتأكيد على ضيق مساحة القوى السلبية والمضلـَّلـَة صاحبة تلك الشعارات سيِّئة الصِّيت...
ونتساءل: كيف يمارسون سياساتهم؟ فذلك يتمُّ ببعض الأشكال الآتية: فهم يركِّزون على الضيم والحيف الذي عانت منه الطائفة الشيعية من النظام الدكتاتوري بمعزل عمّا عاناه أبناء السنّة من النظام نفسِهِ وتسجيل النظام الدكتاتوري بوصفه نظاما سنيّا فقط! ويصوّرونه نظام ظلمَ الشيعة باسم السنّة مُغـْفـِلِينَ أو متغافلين أنَّ الطائفتين تعرضتا كلتيهما لأبشع استغلال من النظام الدكتاتوري نفسه!!
إنَّهم يتحدثون عن مظالم الجنوب وكأنَّ أسبابها كامنة في الغرب أو الوسط والشمال.. و هم يتحدثون عن مظالم الكرد وكأنَّ عرب العراق جميعا هم السبب في استلاب الحقوق! وهكذا تتوالى عمليات تصوير المظالم بمخادعة تضليلية تُبْعِدُ الناس عن تشخيص السبب الحقيقي المحدَّد. وليس الغرض من وراء تلك المغالطة الخديعة إلا الإيقاع بين مكوِّنات الشعب الحية عبر إثارة فكرة الطائفية وضيق الأفق القومي وانفصال كلّ فئة عن الأخرى وعزلتها عنها...
لقد تعايش العربُ والكرد والكلدوآشوريون والتركمان والأرمن, ومثلهم تعايش المسلمون والمسيحيون والصابئة والأيزيديون, وكذلك الشيعة والسنّة ومختلف مكوّنات شعبنا بسلام ووئام وتفاعل إيجابي بل تداخلت الحياة الاجتماعية بلقاءات مشتركة وحتى التزاوج فنجد في العائلة من دين واحد أكثر من انتماء مذهبي ونجد التزاوج بين طرفين ينتميان لدينين مختلفين أو قوميتين مختلفتين وهكذا لم يجد العراقيون فكرة التناحر والاصطدام ممثلة لحقيقة وجودهم بقدر ما وجدوا التعايش الإنساني السلمي المشترك ممثلا لوجودهم و جوهرا لتطلّعاتهم...
إذن فللعراقي الحق في الإعلان عن تصوره بالضد ممّا تـُطلِقه محطات فضائية تجدها فرصتها لبثِّ سمومها خدمة للجهات التي تقف وراءها.. والأهم عند العراقي لكي يطمئِنَ إلى واقعه الذي ألـِفه وترسّمَه طويلا هو في منع اختراق أيّ صوت من أيّ باب يقبل التفرقة والتمييز والسماح للظلم بأن يحتل مساحة عنده.. لأنَّ القبول بمبدأ الظلم والاجحاف يعني السير في طريق وعر مؤداه الانشغال بمعارك مُتعِبة لكلِّ الأطراف. فليس ثمن الظلم غير خسارة الحياة الإنسانية الطبيعية والتخلي عن راحة البال لحساب اصطراع داخلي لا يخدم إلا قوى أجنبية وممثليها في الداخل وليس من هؤلاء لا مجموعة دينية ولا قومية ولا مذهبية ولا فئة تحمل فكرا إنسانيا أو سياسة سلمية صحية..
ولابد من الاتفاق على أنَّ وجودنا اليوم جميعا لا يقوم على مواقع وظيفية في الدولة ولا على مَنْ يتقلّد المناصب السياسية المهمة ولكنّه يقوم على وضع السياسات العامة والتحكّم بها من موقع خدمة مصالح جميع مكوِّنات الشعب العراقي على حدِّ ِ سواء.. وإذا وجدنا أنَّ عراقيا يتقدم على آخر لأيِّ سبب كان فإنَّ هذا تمييز وظلم للآخرين؛ ما يتطلب وقفه ورفض استمرار وجوده في حياتنا.. ومن وسائل وقف التمييز هو منع الاختراقات التي تضلـّلنا عن مسارنا الصحيح..
ومن هذه الاختراقات أنْ يأتي من أهلنا عناصر تتحدث عن أيام ظلم فئة وأنَّ اليوم هو يوم إزاحته ومثلما ظـُلِمت تلك الفئة عليها أنْ تنتقم لنفسها وأنْ تثأر لضحاياها.. فهل الانتقام هو الثأر؟ وهل الثأر بطريقة العصبية ضيقة الأفق التي تعامل بها أسلاف متخلفين رفضهم الدين الحنيف ودين المحبة والسلام وشرائع كتبها أجدادنا قبل آلاف السنين كما في شرائع السومريين والبابليين والآشوريين القدامى؟ هل الثأر هو الحلّ لبناء مستقبلنا السلمي الرصين؟ هل القتل والجريمة والعنف هي طريقنا القادم؟ بماذا سنختلف عن القتلة المجرمين في السياسة؟
إنَّ الذين يوسوسون في آذان الناس حَـثــّاَ َ لهم على الاقتتال هم أناس جَهلة أو مغرضون ينفـّذون مآرب قوى مريضة في مجتمعنا.. فهل نسمع لجاهل؟ والأنكى : هل نسمع لعملاء يوقعون ويخربون بيننا علاقات عيشنا في وطن واحد, بيتنا الواحد وسفينتنا الواحدة؟ وهل لعاقل أنْ يضرب بفأسه جدران سفينة يحيا فيها لأنَّه يريد الانتقام من رفيق سفره في تلك السفينة؟ ومزيدا من الوضوح ألن تغرق تلك السفينة ونذهب ضحايا ما نفعل؟ ألا يجدر بنا أنْ نمنع كل فعل يؤدي إلى غرق السفينة والتضحية بالمجموع من أجل عيون الزعم بالانتقام لأنفسنا؟ وأيّ انتقام أو ثأرهو؟ إنَّ انتقام من أنفسنا لمصلحة مخرّب ليس لنا معه مصلحة وليس لنا به أوفيه لا ناقة ولا جمل..
مصلحة الشيعي هي مصلحة السنّي ومصلحتهما تلتقي مع مصالح المسيحي الكاثوليكي أو الأرثودوكسي وهؤلاء مع مصالح الأيزيدية والصابئة وكلهم من عرب وكلدان وكرد وسريان وتركمان في مركب واحد اسمه العراق. فهل لعاقل مصلحة في غرق مركبه لأنَّه يعتقد بفعله أنَّه ينتقم من الراكب الآخر؟ ومنذ متى كان أيّ من هؤلاء يقتتل مع صاحبه لمجرد كونه من فئة غير فئته أو طائفته أو دينه أو قوميته؟ منذ متى كان الاقتتال البشري يقوم على وجودنا المتنوّع؟ ألم نقرأ قولا مقدّسا يوصينا باللقاء واحترام الآخر بدلا من الاحتراب "وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا" أم أنَّ للمخربين ولأصحاب الفتنة جواب آخر غير التعارف والتآخي والتعايش بسلام؟
من المؤكَّد أنَّ هناك من يلعب على الحبلين بل على حبال الفرقة بين جميع الفرقاء العراقيين فمرة ينشغل مذياعه بالترويج لمصطلح المثلث السني في سابقة لم نسمع بها في عراقنا.. ومرة ينشغل بالترويج لمرجعية تلميذ لم يقرّه شيوخه على شهادة علم أو دين أو افتاء بعدُ! ويلمّعون باسمه حتى يخلقوا الأرضية لاستغلاله في مآربهم ومن ثمَّ لمضللين من اتباعه الذين وقعوا أسرى الدعاية والإعلان! ومرات ينشغلون في مقتل إمام أوشيخ أو مرجع ..إلى آخر القائمة ليورطوا فيها ويستعدوا طرفا ضد آخر! ويحللون بأبواقهم ما يشاؤون ويلوون أعناق الحقائق لتنطلي على الناس بخاصة وهم يستخدمون تمهيدا ببعض المعلومات التي يسربونها سلفا ثم يبنون عليها على أنها حقائق وبديهيات!
إنَّ حرية التعبير عن الذات ليست بحاجة لثأر من الآخر.. وحرية التعبير عن الخصوصية ليست بحاجة للانتقام من الآخر.. وحرية التعبير عن الطقوس وممارستها بالطريقة التي يرتأي أصحابها لاتحتاج إلى الاعتداء على الآخر.. وحق إثبات الوجود وامتلاك شروط الحياة الإنسانية لا تحتاج إلى إلغاء الآخر وسلبه حقوقه.. وحق الحياة الكريمة والتمتع بالأمن والأمان وراحة البال ليست بحاجة إلى حرمان الآخر من حقوقه أو من بعضها..
وحق الأغلبية في الوجود ليس المقصود منه تربعها على عرش الوصاية على السلطة والتصدّق على الأقليات الدينية أو المذهبية أو القومية بالعطايا التي ترتأيها.. وحق الحياة لكل فرد يظل على حدِّ ِ سواء مع الآخر من غير تمييز سواء انتمى الفرد لأغلبية أو لأقلية.. وللحفاظ على هذه الحقوق وجب وتحتم رفض أي شكل من أشكال الاستماع لمن يتستر بحب طائفة أو مذهب أو أهل بيت أو أهل حي أو مدينة أو منطقة أو مجموعة.. ووجب الامتناع عن أيّ فعل يكون في خدمة تقطيع أوصال البلاد ووحدة العباد..
إنَّ من يريدنا ممزقين اليوم بإعلاء فئة سيكون في الغد قد أتى على الأقليات ويأتي على [الأغلبيات] بتفريقها بطريقة مفتعلة أخرى ولن يصعب على من ينجح في التفرقة اليوم بين مجموع مكونات الشعب بكليته أنْ يفرّق في الغد بين فئة [الأغلبية] بوسائل تتلاءم مع اليوم الذي يحياه ولكن العاقبة على كل الأطراف التي تقبل بالتمييز والتفتيت والتقطيع والتمزيق وليس منا من سينجو منها .. فكم من العذابات نريد قبل أنْ نأخذ الدرس ونرفض التفرقة والتمزق..
فالمتباكي على الإسلام والمسلمين ضد بقية العراق والعراقيين لن يمضي وقت إلا ويلتفت إليهم للتفرقة بين المذاهب والطوائف.. والمتباكي على الشيعة اليوم ضد السنّة لن يمرّ وقت حتى يلتفت لتمزيقهم بين مرجعيات عربية وأعجمية وعربية محافظة وأخرى معتدلة وحتى يصل إلى مآربه بكل الوسائل.. ألا نحتاج لوقفة متأنية حكيمة تجاه المتباكين؟ ولننظر لوقفتنا وموقفنا في أصول أولئك ومراجعهم ومستهدفاتهم والمصالح التي تحركهم وقف وراءهم وعندها سنرى الرأي الصحيح القويم.
إنَّنا شعب خبر الحضارة وعرف القانون والعدالة والحقوق والإنصاف والعيش بسلام.. ونحن أفراد بشر لسنا آلهة وليس منا من هو معصوم من الخطأ أو الخطيئة وليس منا من هو خالِ ِ من الغلط وكل فرد بحاجة للآخر لا يحيا بمعزل عنه وعن جهده فكيف بنا نقدِّم فردا على آخر أو نجحف بحق فرد لصالح آخر؟ لنكن واقعيين ونرى ما لغيرنا مثلما نرى ما لأنفسنا وإلا فليس لنا من خير غيرنا ما لم يكن لغيرنا خير منا وفينا..
ولموضوعنا بقية ننتظرها من قارئنا برأيه السديد ونصحه الرشيد ..