|
الشيخ عبد الكريم الماشطة.. ريادة التنوير وأنصار السلام
أحمد الناجي
الحوار المتمدن-العدد: 2250 - 2008 / 4 / 13 - 07:37
المحور:
سيرة ذاتية
مثلت حياة الشيخ عبد الكريم الماشطة (1881-1959) التي شارف فيها على الثمانين سنة، تجربة متراكمة غنية، ركز فيها على محور طريق الاستنارة باستنهاض قدرات العقل البشري لبناء حياة سعيدة للإنسان، وتبنى في الوقت نفسه المشروع الوطني الاستقلالي بانحياز تام، منطلقاً من ضرورة العلاقة التكاملية بين بناء الانسان والوطن. بدء تعليمه بالدراسة في كتاتيب مدينة الحلة، فتعلم القراءة والكتابة وختم القران الكريم، ومن ثم درس علوم الدين متنقلاً بين عدد من شيوخها، وفي مطلع القرن العشرين انتقل الى مدينة النجف الاشرف، لإكمال تعليمه في الحوزة الدينية واندمج هناك مع حركة المشروطة المدافعين عن الدستور، فأصبح مناصري المجتهد الكبير الملا كاظم الخراساني الذين كانوا بحسب تعبير الدكتور علي الوردي، أقلية يمثلون الجبهة التقدمية بالنسبة الى المرحلة الاجتماعية التي عاشوا فيها، وظل الشيخ الماشطة طوال حياته أميناً لأصوله التكوينية، المتمثلة بأفكار الخراساني ورؤى النائيني، والتي عدت بمثابة نقلة نوعية في الفكر السياسي الإسلامي. عبر الشيخ الماشطة بداية الاحتلال البريطاني عن مواقفه الوطنية الراسخة، وشارك في أحداث ثورة العشرين، مما أدى الى اعتقاله بتهمة إشعال روح الثورة، ولم يطلق سراحه، إلا بعد نجاح وساطة رئيس بلدية الحلة آنذاك، وقيل أنه كان عرضة لعقوبة الإعدام لولا تلك الشفاعة. أسهم بالكتابة الى جريدة (الفيحاء) باكورة الصحافة الحلية، التي أصدرها السيد عبد الرزاق الحسني في الحلة في 27 كانون الثاني 1927، التي أغلقت بسبب مقالة له، فسرتها الجهات تفسيراً بعيداً عن الحق، على حد زعم الحسني. ومبكراً ناصر قضية التعليم في المدارس الرسمية، بما في ذلك تعليم المرآة، بوصفها أحدى المقومات الضرورية لنهضة المجتمع، مثلما تبنى هو تعليم أبناء المدينة، فانضم الى حلقته الدراسية، نخبة من أبناء المدينة، سطعت أسماءهم البعض منهم بعد سنوات في نطاق الثقافة والأعلام كالشيخ يوسف كركوش ورؤوف جبوري (المحامي فيما بعد) وحميد الغاوي. أسهم الشيخ الماشطة منتصف الأربعينات بدور مميز في الحياة السياسية في مدينة الحلة، الى جانب نشاطه الاجتماعي في التعليم، والثقافي في الكتابة الى الصحافة، وقد مثلت تلك المدة القصيرة التي حفلت بهامش من الحريات، حراكاً شعبياً بلور الموقف الوطني لأبناء الشعب العراقي عموماً فيما بعد بأحداث وثبة كانون 1948، وله في تلك الأحداث، مواقف مشهودة، تمثلت في توجيه ومساندة أنشطة الوطنيين والتقدميين. وخاض الشيخ الماشطة الانتخابات النيابية عام 1954، متحالفاً مع تكوينات الجبهة الوطنية، وحين أقام بقصد الدعاية للانتخابات، اجتماعات ومهرجانات عديدة في الحلة وأماكن أخرى من ضواحيها، تعرض الى إجراءات قمعية وتعسفية كثيرة، الأمر الذي دعاه الى القيام بمظاهرة احتجاجية في تلك الأثناء، مما أدى الى تحويله الى القضاء، ولكن ردت الدعوة القضائية وبرأ الشيخ الماشطة. وبالرغم من عدم فوز الشيخ الماشطة بالانتخابات، إلا أن الأجهزة الأمنية شددت الإجراءات الرقابية عليه منذ ذلك اليوم بشكل لافت للنظر، وبقيت مهتمة بتتبع نشاطاته، وقد أوكلت مهمة ملازمته الى أحد رجال الأمن حيث كان يجلس على عتبة خان أمام بيت الشيخ الماشطة لا يبرحها راصداً حركةَ الشيخ والداخلين اليه، وللشيخ الماشطة مع هذا الرجلِ طرائف ونوادر كثيرة، تعكس تعامله الإنساني، وسعة قلبه الرحيم، ولعلها جعلت من رقيبه في النهاية مأسوراً اليه لا يتوانى عن تقديم الاحترام والطاعة، وحتى المساعدة بأداء بعض المتطلبات. كان الشيخ الماشطة فاعلاً في غمرة أحداث العقد الخمسيني من القرن العشرين، التي بلورت الأرضية الاجتماعية والسياسية الممهدة لقيام ثورة 14 تموز 1958، حيث أسهم بدعم كافة الأنشطة الوطنية من انتفاضة 1952 مروراً بالتظاهرات المساندة للشعب المصري، أثناء العدوان الثلاثي سنة 1956، حتى تشكيل جبهة الاتحاد الوطني مطلع شباط 1957، وساند تشكيل فرعها في مدينة الحلة، منتدباً الى عضوية لجنتها الرئيسية أخلص المقربين اليه الشخصية الوطنية المعروفة وعضو المؤتمر التأسيس لحركة أنصار السلم الحاج عبد اللطيف الحاج محمد مطلب ممثلاً عن المستقلين. وللشيخ الماشطة دور ريادي متميز في حركة أنصار السلم، إذ كان رجل الدين الأول في العراق الذي لبى نداء السلم الأول ووقع بنود اجتماع استوكهولم. وقد وظف جهوده وأنشطته الاجتماعية والسياسية والفكرية لتأسيس حركة أنصار السلم في العراق عموماً، وفي مدينة الحلة على وجه الخصوص، كتيار تقدمي مناصر لقضية السلام في العالم، وبنفس الوقت ظهير ومساند للقوى والأحزاب الوطنية لتفعيل دور الجماهير في تحقيق أمالها وتطلعاتها وهواجسها في التحرر الوطني، وبناء الحياة الديمقراطية والعدالة والمساواة. وشارك الشيخ الماشطة في أعمال المؤتمر التأسيسي لحركة أنصار السلم الذي انعقد ببغداد سنة 1954، حيث قام بافتتاح أعمال المؤتمر الذي استمر ليومين، كذلك القى كلمة في جلسة المؤتمر الختامية، حث فيها الحاضرين على القيامِ بمهماتهم من اجل تحقيق أهداف المؤتمر بالدعوة الى أفكار السلام، والكفاح من اجل الاستقلال الوطني. اعتقل في الكاظمية بعد انفضاض المؤتمر وأحيل الى محاكم الجزاء مع (24) من أعضاء المجلس الوطني لحركة السلم في العراق، ممن وقعوا على مقررات مؤتمر أنصار السلم الأول، باعتبارهم متهمين بالعمل ضد الحكومة، وقد برأت المحكمة ساحتهم بالاستناد على مادة قانونية لا تعتبر ذلك الاجتماع الموسع مخالفة قانونية. وقد فاز الشيخ الماشطة بعضوية المجلس الوطني لأنصار السلم في العراق بعد إجراء الانتخاب في المؤتمر الثاني الذي انعقد ببغداد صباح يوم 14 نيسان 1959، وقد تليت في افتتاح المؤتمر كلمته، وبالرغم من كونها كلمة قصيرة إلا أنها معبرة عن معاني سامية، وفكر إنساني، ومشاعر نبيلة، مستمدة من مبادئ رسالة الإسلام الجليلة، استنهض أنصار السلام المؤتمرين بالعمل لخير الإنسانية. حرص الشيخ الماشطة بعد قيام ثورة 14 تموز 1958، على تعبئة الرأي العام في دعم ومناصرة الثورة، مجسداً فعلاً نضالياً على أرض الواقع شعار( السلم وصيانة الجمهورية) الذي تبنته حركة السلم في العراق في مؤتمرها الثاني المنعقد في ظل أجواء الحرية والديمقراطية. نال الشيخ الماشطة تثمين وتقدير حركة السلم العالمية إذ انتخبته عضواً في مجلس السلم العالمي، ومنحته الوسام الذهبي في الذكرى العاشرة لتأسيسها تقديراً لجهوده المتميزة وخدماته الجليلة في سبيل السلم العالمي. نشر الشيخ عبد الكريم الماشطة عدداً كبيراً من الدراسات والأبحاث والمقالات في الصحف والمجلات الصادرة في الحلة، كجريدة الفيحاء 1927، وجريدة حمورابي 1935، ومجلة الحكمة 1936، ومجلة التوحيد، وجريدة صوت الفرات 1952، جريدة القافلة 1959، مثلما نشر أيضاً في الصحف البغدادية كصوت الأحرار واتحاد الشعب. وأصدر كتاب (الأحكام الجعفرية في الأحوال الشخصية) بطبعتين، الأولى في بغدد سنة 1923، والثانية في القاهرة سنة 1947. أما في مجال الصحافة، فقد أصدر الشيخ الماشطة من مجلته (العدل)، عدداً واحداً في آذار 1938، صادرته السلطة قبل توزيعه، وألغت امتياز المجلة، ومن ثم أصدر مع الشيخ حميد سعيد الغاوي وشاكر جريو جريدة صوت الفرات في الحلة مطلع عام 1952، وظلت تصدر الى أن الغي امتيازها في 17 كانون الأول 1954. وكذلك أصدر معهم جريدة القافلة سنة 1959 التي استمرت بالصدور بعد وفاته باسم ، ذكر أيضاً بأن كتبه الخطية أكثر من المطبوع منها، ولكنها فقدت بعد وفاته، توفي الشيخ الماشطة في أحدى مستشفيات بغداد بتاريخ 3 أيلول 1959، ونقل جثمانه الى مدينة الحلة ومنها شيع بموكب مهيب الى مثواه الأخير في مدينة النجف، وحضرَتْ ابرز الشخصيات الوطنية في العراق وجماهير غفيرة مجلس الفاتحة الذي أقيم في مدينة الحلة. لقد حفلت مسيرة الشيخ الماشطة التي سار فيها على جمر التحديات، بالمواقف الوطنية والمآثر والتضحيات، والنشاطات الفكرية والاجتماعية والسياسية، وخاض غمارها ناشداً توعية الجماهير واستنهاضها في مقارعة الاحتلال البريطاني والحكومات الرجعية للتخلص من مكابدات موروثات القرون الاستبدادية، الفقر والمرض والجهل والتخلف، وتحقيق طموحاتها في الاستقلال والحرية والتقدم والازدهار.
#أحمد_الناجي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
9 نيسان 2003.. فاصلة بين الزمن المُرِ والأَمَرِ تعلن نهاية ا
...
-
المصالحة خيار واعد على صدارة المهام الوطنية
-
مؤتلقة شجرة الحزب الوارفة
-
الفيحاء.. باكورة الصحافة الحلّية
-
أضواء على التجربة الدستورية بالعراق الحديث 3-3
-
أضواء على التجربة الدستورية بالعراق الحديث 23
-
أضواء على التجربة الدستورية بالعراق الحديث 13
-
تأملات من الضفاف في ذكرى صدور المدى
-
فوكوياما من نهاية التاريخ الى نهاية الإنسان
-
من أوراق ثورة العشرين.. مقاربات بين احتلالين 2-2
-
من أوراق ثورة العشرين.. في مدار مدينة الحلة 1-2
-
المثقفف أمام الاختيار بين أحضان السلطة أم الهامشية الايجابية
-
فاعلية المثقف العراقي في صياغة الدستور
-
نجم عبد خضير.. أحمد أدم في هيبة الموت الموشح برائحة الأرض وا
...
-
المبدع موفق محمد متألقاً في سويسرا
-
الجمعية الوطنية العراقية أمام مسؤولية تاريخية للارتقاء بالأد
...
-
القمم العربية من انشاص الى الجزائر
-
خذ معك كتاباً إذا دخلت مدينة الحلة
-
عرس الدم
-
البذرات الأولى لنهضة المرأة العراقية
المزيد.....
-
تفجير جسم مشبوه بالقرب من السفارة الأمريكية في لندن.. ماذا ي
...
-
الرئيس الصيني يزور المغرب: خطوة جديدة لتعميق العلاقات الثنائ
...
-
بين الالتزام والرفض والتردد.. كيف تفاعلت أوروبا مع مذكرة توق
...
-
مأساة في لاوس: وفاة 6 سياح بعد تناول مشروبات ملوثة بالميثانو
...
-
ألمانيا: ندرس قرار -الجنائية الدولية- ولا تغير في موقف تسليم
...
-
إعلام إسرائيلي: دوي انفجارات في حيفا ونهاريا وانطلاق صفارات
...
-
هل تنهي مذكرة توقيف الجنائية الدولية مسيرة نتنياهو السياسية
...
-
مواجهة متصاعدة ومفتوحة بين إسرائيل وحزب الله.. ما مصير مفاوض
...
-
ألمانيا ضد إيطاليا وفرنسا تواجه كرواتيا... مواجهات من العيار
...
-
العنف ضد المرأة: -ابتزها رقميا فحاولت الانتحار-
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|