تقي الوزان
الحوار المتمدن-العدد: 2250 - 2008 / 4 / 13 - 11:10
المحور:
سيرة ذاتية
اندهش , ولم يصدق , وانا اترجل من سيارة التاكسي وادفع اجرتها لتستدير وتعود الى مدينة السيليمانية . كنت على بعد عشرة امتار منه وهو يحدق بي , ولا اعتقد انه استطاع ان يرمش عينه حتى لاتتأخر عن لحظة التيقن مني . احتضنني وقبلني , وسألني قبل ان يدعوني للجلوس على المصطبة الوحيدة في نقطة التفتيش المرتفعة على سفح جبل شمال شرق السليمانية , لتفتيش الذاهبين والعائدين من مدينة جوارته . لم يستطع سليم ان يخفي قلقه رغم ترحيبه الحار عندما سألني : شلون الوضع ؟ اخبرته : جيد . بعد كل هذه الوضعية وجيد ؟! سألني بتأكيد . اجبته : اتصورت سؤالك حول وضعي الشخصي , وليس الوضع العام . وسألني باستغراب : ولكن كيف عرفت اني في هذه النقطة , والبارحة فقط جئت اليها ؟! اجبته : ذهبت البارحة بعد الساعة الرابعة بعد الظهر , والتي تنسحب عندها مفارز الانضباط من المدينة الى ثكناتها ( رغم ان هذه المفارز كانت حركتها محدودة داخل السليمانية , ولا تتعدى مناطق الوسط التي يتواجد فيها مقر الحكومة , المحافظة , الحامية العسكرية , المستشفى العسكري , مقر حزب البعث , الامن , الاستخبارات , مقر الجحوش من المرتزقة الاكراد الذين يعملون لخدمة النظام ) وسألت الحرس في باب مقر الانضباط عنك , فأخبرني انك ارسلت الى هذه النقطة . وسألته : ولكني جئت من بغداد ولا استطيع العودة في هذا الوقت لعدم وجود سيارات , وانا عسكري , فهل استطيع المبيت عندكم واذهب غداً لابن خالتي في نقطة جوارته ؟ لو كان في يوم آخر – اجابني – ممكن , اما اليوم فغير ممكن , لوجود اربعة محكوم عليهم بالاعدام , ويمنع أي شخص من خارج الوحدة المبيت في الثكنة . والحل ؟ وانا عسكري لااستطيع المبيت في الفنادق ؟! اجابني : اذهب الى فندق " كاني " , واشار الى جهته , تستطيع ان تقضي ليلتك فيه , وهو مخصص للعسكريين . ما تلى ذلك لم اخبر سليم بتفاصيله , لاني وجدته مرتبكاً , وعلي ان لاازيد حالته الى الذعر .
" كاني " تعني بالكردية عين الماء , الفندق يقف على بابه شخص في وضع شبه رسمي . عند اجتياز عتبة الباب تخترقك نظرات اربعة او خمسة رجال جالسين على طاولات متفرقة , رفعت يدي بالتحية : السلام عليكم . لم يجبني حتى صاحب الفندق الذي يقف خلف مكتبه : ابن عمي اني عسكري ومحتاج ابات الليلة عدكم. طلب مني الهوية , تفحصها جيداً , وتفحصني , وطلب الاجازة , دققها . اعادهما الي , وطلب مني بلهجة آمرة وبأشارة من يده الى احد الموجودين ليدلني على فرع صغير يقابل باب الفندق من جهة الشارع الاخرى : بالفرع مديرية الاستخبارات , روح جيب موافقة منهم . عصرني قلبي , وبأقل من الثانية ادركت ان لامجال للاستفسار منه: لماذا؟ ولاخذ جزء من الوقت , وتبديد الخوف الذي داهمني من ضرورة الذهاب الى مديرية الاستخبارات , سألته : ممكن ابقي الجنطة هنا ؟ لا , اجابني بصوت جاف , واضاف : هي زغيرة , من ثكَلها ؟ لا مو ثكَيلة , كَلت شكو ماخذهه ومرجعهه . تقدمني الدليل وبيده كوب شاي ناوله للواقف عند الباب واشار الى فرع المديرية المقابل لهم تماماً .
ليست لدي مشكلة مع الاوراق الرسمية التي احملها , فهي بأسم ثاني , وموضبة بشكل جيد , ولا بما موجود في الحقيبة . ان الذي ملئني ذعراً معرفتي بوجود احد ضباط المديرية , كان يرغب بالانتقام من أي واحد من عائلتنا . اهله جيراننا منذ فترة طويلة , وعلاقتنا بهم على احسن ماتكون خاصة بين نساء عائلتينا , الا ان عائلتي عصت على البعث , ولم يتمكنوا من أي واحد منها رغم دموية وسائلهم , وهذا سبب حقده . وقفت على حافة الرصيف , الذي يراني يعتقد انتظر فراغ الشارع من السيارات , كنت افكر ماذا علي ان افعل ؟ لم استطع الالتفات الى الفندق , كنت اشعر بهم يراقبونني . شارع المديرية امامهم بالكامل , لن اتمكن من الافلات ان حاولت الاستدارة نحو المدينة , وماذا افعل في المدينة ؟! المتاجر تبدء بغلق ابوابها من الساعة الثانية . في احد المرات التي حالفني فيها الحظ وفلت من ايديهم , كنت اسكن في الكاظمية , نزلت من سيارة الاجرة ودخلت الفرع الذي يقع فيه البيت , كانت الساعة العاشرة ليلا , تفاجئت بوجود مفرزة امن بعض افرادها في البيت , كنت على مسافة قريبة جدا واي تراجع سيلفت انتباههم , تقدمت , ليس امامي الا ان اتقدم : الله ايساعدهم . بذلت طاقة لن تتكرر مرة اخرى ليكوم صوتي طبيعيا . كان اثنان من الجيران يريدان الدخول الى بيتاهما المقابل للبيت الذي اسكنه , تسمرا من الدهشة , شلة المفاجئة السنتهم , واصلت السير , عبرتهم , لم التفت , استدرت الى اليمين في اول فرع , واصلت السير الى الشارع العام , كانت اطول مسافة قطعتها في حياتي وهي لاتتجاوز الخمسين مترا , صعدت التاكسي ولا احد في اثري . تهالكت في المقعد الخلفي وانا ازيح الجهد والخوف وكثافة القلق الغير مصدق بالنجاة . حالفني الحظ ان لااحد من افراد الامن الذين يقفون في الباب يعرفني بالشكل , والجيران الاثنان اصدقاء , احدهم بعثي لاجل معيشته , والآخر شيوعي ايضاً تم (كسبه ) للبعث رغم انفه , ووجد في خلاصي انتعاش لجذوره الطيبة .
داهمني احساس الخمسين مترا وانا ادخل فرع مديرية الاستخبارات . الفرع مغلق من الجهة الثانية , ولايوجد أي شئ في الفرع الكونكريتي ذو اللون الرصاصي الا شباك الاستعلامات على اليمين ويتبعه باب صغير مغلق . اخبرت جندي الاستعلامات باني قادم من بغداد واحتاج ورقة للمبيت في فندق " كاني " , ودفعت له الهوية , وبمجرد رؤيته للهوية رحب بي ولامني ليظهر وده على تأخري الى هذه الساعة في المدينة . سألته : شنو سليمانية مو بالعراق ؟! اجابني : ياخوية ياعراق ؟ ايصير الليل وانت اتشوف الضرب بعينك . كانت هويتي صادرة من مستشفى الرشيد العسكري , وقد خدمتني كثيرا , لان العسكريين بكل رتبهم يريدون ان يمددوا اجازاتهم الاعتيادية في فترة الحرب بأجازات مرضية , اشجعهم واظهر استعدادي لمساعدتهم , واعطيهم تلفوني وعنواني في بغداد , وهذا ما حدث مع جندي الاستعلامات الذي اعطاني ورقة المبيت حتى بدون ان يرى الاجازة , وقدم الى غرفتي في الفندق مع النائب ضابط رئيس عرفاء وحدة المديرية , وكنت له ( لكَطة ) اراد التقرب بها الى النائب ضابط , ليأخذ الاخير اجازة مرضية ايضاً .
قبل ان اذهب الى سليم , ذهبت الى محطتي الحزبية في السليمانية , كان رجل قارب الستين ويملك محل لتجارة الحبوب , واخبرته : بانني يجب ان اعود اليوم الى مناطق البيشمركة للقاء الرفاق . طبعا لم اخبره باني فقدت آخر ملجأ اختفي فيه في بغداد , بعد ان انذر مالك البيت الرفيق المؤجر بترك البيت . طلب مني ان ارجع عند الظهر لكي يتدبر الامر , وهذا ما اردته كي اذهب الى سليم . عرفت بوجود سليم انظباط في السليمانية من احد الاصدقاء , ولم التق به طيلة الاربع سنوات الماضية , أي منذ ضربة الحزب عام 1979 , واعرف الثمن الجسدي والنفسي الذي دفعه كي يمنعوه من الاستمرار في العمل مع الحزب الشيوعي , وقدومي اليه ليس طمعا باعادة صلته بالحزب , فهذا ليس من صالحه ولا من صالح الحزب , لان هو وامثاله يبقون موضع شك ما دام البعث في السلطة . كنت اريد ان اعرف هل يمكن الاستفادة من وجوده انظباط ( حصل على تنسيبه الى الانظباط بعد ان تبناه احد الرتب العسكرية العالية من اقاربه ) في مساعدتي بشكل شخصي , لان السليمانية منطقة عبوري الرئيسية الى المناطق المحررة في كردستان . بعد عشرة دقائق ادركت اني لااستطيع ان اطلب منه أي شئ , ولكني آثرت ان استمر معه لامنع حدوث فجوة ستؤلمه لو ذهبت مباشرة . بعد ما يقارب النصف ساعة مددت له يدي مودعاً , انفرجت اساريره , كان هما ثقيلا انزاح عنه فجأة , احتضنني , وطلب مني برجاء ان انتقل الى المناطق المحررة حفاظا على حياتي , واخرج من حقيبته خمسة وعشرون دينارا واقسم انه لايملك غيرها , لم اقبلها , لكنه اصر ودفعها في جيبي .
ركبت بين السائق وصاحبي ( الركيزة الحزبية ) , كان الاتفاق ان لااتحدث معه او مع أي شخص آخر في السيارة الى ان نصل , وفي حالة حدوث شئ طارئ , او انزلوني في نقطة تفتيش , فلا اعرفه ولايعرفني ... كنت محبطاً , والنتيجة التي سيطرت عل تفكيري هو ان لاشئ خدم النظام اكثر من الحرب , لقد احكم قبضته على رقاب الناس , ودفع الناس لتفكر بغرائزها فقط , واوجد مسافة من النسيان بين ما نشأت عليه , وبين الضرورات الجديدة لحياتها , والسؤال المر : كيف تستنبت ازهاراً وتسقيها من ماء الطاعون ؟! كان المفروض ان اعود قبل عشرة ايام على الاقل , كان علي ان آتي بالبريد الحزبي الذي كلفت بجلبه في آخر يومين تسبق صعودي . ذهبت الى المتجر الذي يقع على الشارع العام الذي يتجه من بغداد الى مدينة الكوت , لم اجد صعوبة في التعرف عليه , فقد كان الاول على يمين الجامع , والرجل الذي يقف في وسطه له نفس المواصفات التي اعطوني اياها , متوسط الطول , سمين , ابيض , تجاوز الاربعين , عقاله متين مصوّف , ويشماغ ابيض واسود . كنت فرحاً لاستلام البريد , لانه سيفرض علي الذهاب الى كردستان في اليوم الثاني , واودع القلق , والتنبه الدائم لكل شئ , كنت بحاجة لمن يشاركني في استيعاب التدهور الحاصل , ولم الشمل مع الايمان المتصدع بالقدرة على اعادة التنظيم , كان الانحدار الرهيب الذي قاده النظام اسرع بكثير من قدرات استيعاب الشعب المنكوب .
توقفت السيارة في نقطة تفتيش عربت , وهي الاهم في كل الطريق الى دربندخان , لانها تشرف على تفرعات رئيسية , ونقطة التفتيش هذه فيها: انضباط , امن , استخبارات , افراد من الوحدات الرئيسية في المنطقة . سألني وكان مدنيا , وقد شخصني من ملابسي باني لست كرديا : هويتك اخي . اعطيته الهوية والاجازة . الاجازة اليوم تنتهي ؟! اجبته : لاعزيزي بالظهر يومين مساعدة . تطلع في ظهرها , وسألني : انت وين رايح ؟ لدربندخان . شعندك بدربندخان ؟ اجبته بتوتر : ابن عمي مرحبة عليك ( اشرت له على قميصي الاسود ) البارحة انتهت الفاتحة مال اخوية الصغير , ورايح على اخوية الثاني اتأكد منه, امي راح تتخبل, اقتنعت لوما اقتنعت ؟ يعني ابتلينه خوما ابتلينه , امنين الله سلط علينه هذا , احنه وين والخميني وين ؟! كانت الغالبية تدرك ان المقصود صدام وليس الخميني , وكلما تقدمت تجاه المناطق الخطرة وجبهات القتال , تزداد المجاهرة بنغمة الصوت . اعاد الهوية والاجازة واشر لنا بالذهاب .
تقدمت من المتجر وسلمت عليه , رأيت اثنان افندية يجلسان في الداخل . وبدل كلمة السر , طلبت منه شراء علبة سكائر بغداد . كان اول يوم العيد الصغير , والاثنان يلبسان ملابس جديدة , ويتشاغلان في حديث بينهما , اخذت العلبة وذهبت . اغلب الظن انهما ضيوف وقدما لمعايدته , وقلقي هو الذي منعني لالغاء التعارف . في اليوم الثاني وجدت اثنان ايضاً , وغير الذين وجدتهم بالامس , اخذت العلبة وذهبت , ولم اعد له مرة اخرى . اثقلتني هذه الحادثة , كنت اتألم , لاني لم آتي بالبريد , وقلقي هو الذي منعني من الاتيان به , فقد تصورت اسوء الاحتمالات : ماذا لو كان الجالسان امن ؟! لاشئ غير الموت . وقبل الموت , تتمنى ان تموت الف مرّة بدل التعذيب الذي فاق كل تصور . الا ان الاكثر ايلاماً وجود احد المسؤولين عن عمل الداخل سوف لن يتهمني بالجبن بشكل مباشر , لكن كل تصرفاته ستقول ذلك , حاولت ان اقنع نفسي واختلق عذراً آخر اكثر معقولية لعدم عودتي الى المتجر مرّة اخرى , فوجدت نفسي لااستطيع ان انزل الى هذه الخسة . انتبهت لضربة صاحبي على كتفي الايسر القريب من السائق , بعد ان انعطفت السيارة الى اليسار في طريق ترابي : الحمد الله على السلامة كاكه , المفرزة تنتظرنا في هذه القرية , واسمها احمد برنو . شكرته كثيراً , وتبين ان الثلاثة الذين يجلسون في الخلف من اهل القرية , وواحد منهم رفيق .
كانت المسافة بين الشارع واحمد برنو قصيرة وبحدود الكيلومترين , والقرية تستظل بجبل ليس عاليا , كان مع المفرزة التي تنتظرنا شقيقي " ابو فلاح " , وآخر مسؤولي الحزبي " ابو جلال " اللذين ابغي الوصول اليهما . تباوسنا , وتحاضنا , وانا اسلم على باقي افراد المفرزة , تملكني السؤال : لماذا اخي , ومسؤولي تركا المقر وجاءا مع المفرزة ؟! لابد من وجود شئ دفعهم لذلك , كنت خائفاً , واخشى ان يكلفوني بالعودة لامر قد لااستطيع التملص منه . يبدو ان التساؤل كان واضحاً على هيئتي . سحبني شقيقي وابو جلال الذي فاجئني : تعرف انت طفرت من الطاوة ؟ ! شلون ؟! الافندية الموجودين في المتجر كانو امن وينتظروك .
هذا ما افاد به ابن صاحب المتجر الذي سهل الامن عودته الى كردستان بعد ان قبض عليه عند اهله , واستطاع ان يقنع الامن بتعاونه معهم . وتأخري هوالذي دفع الرفاق للنزول مع المفرزة , وكانوا على وشك اليقين بالقبض علي عندما جاءهم الخبر صباح اليوم بقدومي اليهم . و ابو جلال الشهيد " خضير عباس جاسم" من منطقة ثلث الجزرة جنوب الحي باتجاه الناصرية , استشهد في ديالى وهو يقود تنظيمات الداخل للمنطقة الوسطى للحزب .
#تقي_الوزان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟