كاظم حبيب
(Kadhim Habib)
الحوار المتمدن-العدد: 698 - 2003 / 12 / 30 - 04:48
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
لم تكن الحرب هي الوسيلة الصائبة للخلاص من الدكتاتورية والمستبد المطلق في العراق والسير بعملية دمقرطة الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وإقامة المجتمع المدني الديمقراطي, إذ أنها جلبت معها من المشكلات والتداعيات ما يصعب تجاوزها بسرعة. ولكن الحرب الإستباقية كانت مطلوبة بالنسبة للولايات المتحدة, رغم معارضة المجتمع الدولي لها, باعتبارها جزء من الاستراتيجية والعلاقات الدولية الجديدة للقوى المحافظة الجديدة في الحزب الجمهوري والإدارة الأمريكية الحالية. كما أن النظام العراقي كان قد استنفذ أغراضه بالنسبة للمصالح الأمريكية وأصبح مصدر قلق مستمر لها في المنطقة. والتقت إرادة الحرب الأمريكية بإرادة أبرز قوى المعارضة السياسية العراقية حينذاك للخلاص من النظام الدكتاتوري, مع واقع وجود خلافات بينهما حول عراق ما بعد صدام حسين.
حررت حرب الخليج الثالثة الشعب العراقي من أشرس دكتاتورية فردية بوليسية نحو الداخل وعدوانية نحو الخارج عرفتها المنطقة خلال العقود الأخيرة. وحققت الولايات المتحدة نصراً عسكرياً سريعاً كما كان متوقعاً, ولكنها لم تكسب السلام, ولم تحقق الأمن والاستقرار للشعب حتى الآن, بسبب تداعيات الحرب ذاتها وجملة من الأخطاء المبدئية التي ما تزال ترتكبها الإدارة الأمريكية في العراق. وتفجرت دفعة واحدة كل المشكلات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية التي تراكمت عبر السنين بسبب سياسات النظام وقمعه وحروبه والحصار الاقتصادي الدولي. ولم تكن إدارة الاحتلال في البدء جادة وقادرة على احتواء الوضع الجديد ومعالجته. فالفوضى وعمليات التخريب والقتل والمقاومة والعجز عن إنجاز سريع لمشاريع البنية التحتية التي هدمتها الحرب وعطلها الحصار الاقتصادي هي حصيلة منطقية للسياسات التي مارستها إدارة الاحتلال بعد سقوط النظام وللتراكمات السابقة. فالحرب لم تسقط النظام فحسب, بل أسقطت الدولة العراقية بكاملها حين حلت الجيش والشرطة والأمن والوزارات والمؤسسات الحكومية وسرحت مئات الآلاف من الجنود والضباط والموظفين وألغت القوانين كلها تقريباً, في وقت لم تكن قد هيأت البديل ورفضت تسليم السلطة إلى القوى العراقية السياسية التي قاومت النظام السابق ورفضت عقد مؤتمر وطني لها لانتخاب هيئة تقود البلاد, مما أوجد رفضاً لإجراءاتها وخلق فراغاً سياسياً عجزت سلطات الاحتلال عن إملائه. ورافق ذلك إصرار الولايات المتحدة على إصدار قرار عن مجلس الأمن الدولي يعترف لها ولبريطانيا العظمى باحتلال العراق وإدارته مباشرة, مما ساهم في تفاقم الوضع الداخلي والصراع السياسي الدولي حول العراق واتجاهات تطوره ورفض التعاون لمعالجة الوضع الجديد.
كان المجتمع متلهفاً للخلاص من نظام صدام حسين, ولكنه كان يرفض الاحتلال. ولهذا كان قرار الاحتلال بمثابة صدمة شديدة ومشكلة جديدة ينبغي التخلص منها. ومع أن الفرحة بسقوط النظام كانت كبيرة ولكنها سرعان ما تحولت إلى تحفظ وقلق إزاء المستقبل, خاصة وأن عمليات النهب والسلب وإشعال الحرائق والقتل قد أعطى الانطباع بأن قوات الاحتلال عاجزة عن مواجهة مثل هذه الممارسات. وبدأ الصدام غير المباشر بين الأهداف التي تسعى إليها الإدارة الأمريكية في إطار إستراتيجيتها السياسية والاقتصادية, بما فيها النفطية, والعسكرية والثقافية العولمية إزاء العراق والمنطقة بأسرها, وبين أهداف الغالبية العظمى من القوى السياسية العراقية التي ترفض تلك السياسة بشكل عام.
كل الدلائل تشير إلى أن الإدارة الأمريكية لم تكن على معرفة دقيقة بأوضاع المجتمع العراقي ومشكلاته ولم تكن المعلومات المعطاة لها أمينة لهذا الواقع, إضافة إلى الفجوة القائمة بين قدراتها العسكرية وبين قدراتها واستعداداتها لإدارة أوضاع ما بعد الحرب, إضافة إلى عدم ثقتها بالكثير من القوى السياسية التي كانت تصارع نظام صدام حسين.
منحت الأخطاء السياسية للإدارة الأمريكية وعدم تعاونها مباشرة مع القوى السياسية الجديدة في العراق وتخلف أعادة تشغيل الخدمات فراغاً سياسياً ومجالاً رحباً للقوى المناهضة للولايات المتحدة الأمريكية وللوضع الجديد على التحرك صوب إثارة المشكلات وتعقيد الأوضاع أمام سلطة وقوات الاحتلال ومجلس الحكم الانتقالي ومنع تحقيق الأمن والاستقرار في البلاد. ويمكن أن نشير وبعد مرور سبعة شهور على سقوط النظام بأن القوى التي تشارك في العمليات العسكرية المعادية للوجود الأمريكي في العراق والمناهضة للقوى السياسية التي ناصبت النظام السابق العداء هي:
1. فلول قوى صدام حسين التي تعمل في مناطق مختلفة ولها اتصالات منظمة مستفيدة من تجارب العمل السياسي السري وتمارس تكتيك "أضرب وأهرب". وهي مجموعات صغيرة مكونة في الغالب الأعم من 3-5 أشخاص. والمستهدف من هذه العمليات ثلاث جهات هي قوات الاحتلال, قادة ومؤيدي مجلس الحكم الانتقالي والحكومة المؤقتة والأحزاب التي تقف وراءها, ومجموعة من أعوان النظام السابق التي قررت التعاون مع الوضع الجديد. تمتلك قوى صدام حسين الثروة والأسلحة والكوادر المتمرسة باستخدام الأسلحة وذات معرفة جيدة بجغرافية العراق. وهي قوى مخلصة لصدام حسين ومؤمنة به, بدأت هذه القوى تكسب عناصر أخرى ممن كان يعمل في السابق كمخبر في الأمن أو الاستخبارات أو من العاطلين عن العمل أو حتى من الحاقدين على قوات الاحتلال أو المحتاجين للمال الذي يمنحه صدام حسين بسخاء. وهو يقوم شخصياً بقيادة هذه المجموعات بشكل مباشر ولكن عبر خيوط عديدة تلتقي كلها عنده. وتوجيه الضربة له باعتقاله أو قتله يمكن أن تضعف كثيراً هذه العمليات ولكن لا تقضي عليها بالضرورة. كما أنه يعيش بينها ومحمي بها وغير بعيد عن المواقع الأكثر شراسة في تنظيم وممارسة العمليات اليومية. وتجد هذه الجماعة العون والتأييد الداخلي والعربي من بعض الجماعات القومية اليمينية الشوفينية التي تقف مع قيادة المؤتمر القومي العربي, ومقرها في لبنان, وتنظيمات حزب البعث –جناح عفلق- على صعيد الدول العربية حيث ما يزال صدام حسين أمين سر القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي. والمساعدات تصل له من بعض البلدان العربية عبر الحدود بمعزل عن معرفة حكومات تلك الدول أو بمعرفة قوى فيها تؤيد ذلك. وتعتبر قوى صدام حسين أكبر القوى وأكثرها ممارسة للعمليات في الوقت الحاضر, وهي قادرة على الاستمرار لفترة أخرى.
2. تتوزع قوى الإسلام السياسي السنية الوهابية المتطرفة على ثلاث مجموعات أساسية:
- جماعة أنصار الإسلام التي تشكلت في كردستان ولقيادتها علاقة مباشرة بمجموعة القاعدة. وكانت المجموعة تعمل في أفغانستان وعادت إلى العراق في أعقاب جريمة الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001. وهي مجموعة شرسة جداً تسنى لها التوسع في عملياتها الإرهابية, وتجد التأييد من جماعات مماثلة موجودة في إيران ومنتشرة بين الجماعات الدينية السنية على الحدود الإيرانية – الأفغانية. وهي تقوم بتهريب الأسلحة والمعدات والرجال إلى كردستان العراق عبر إيران, وتعمل في تجارة المخدرات وفي التهريب على حدود هذه البلدان. وتجد هذه القوى دعم وحماية بعض القوى السياسية في إيران نكاية بالولايات المتحدة, ولكنها لا تجد التأييد من الحكومة الإيرانية الحالية .
- جماعة جهاد الإسلام التي تشكلت في البداية من مجموعة من المتطوعين العرب الذين قدموا من الدول العربية ومن أتباع حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين لمقاومة الحرب, وكانوا يقيمون في المخيمات الفلسطينية في الدول العربية. وكان أفراد هذه المجموعة لا يعملون بمفردهم بل مع قوى صدام حسين, وبعضهم من البعثيين المتدينين. وهذه المجموعة لها علاقات غير مباشرة بالقاعدة من خلال القيادات التي أرسلتها إلى العراق. إذ أن تنظيم القاعدة يقوم على أساس تنظيم دولي وقيادة مركزية, إضافة إلى تنظيمات وقيادات محلية مستقلة نسبياً وبأسماء مختلفة, ولكنها تتلقى التوجيهات العامة من مركزها الذي يقوده أسامة بن لادن. وتتميز هذه الجماعة بالشراسة والرغبة في الموت وقتل "الكفار" وغير المؤيدين لها لتضمن لها مواقع في الجنة.
- مجموعة من, وليس كل, أئمة المساجد السنية التي تحفز المسلمين على مقارعة الاحتلال والعودة بالبلاد إلى الوضع الذي كان عليه العراق في فترة صدام حسين إذ كانت المدللة منه بشكل خاص. وهي المجموعة التي بدأت تهدد باستخدام القوة والعنف في مواجهة قوات الاحتلال, وتحاول إثارة الناس والتشجيع على اقتناء السلاح وإنزال الضربات بقوات الاحتلال التي تؤدي إلى قتل الكثير من العراقيين أيضاً. ولم تعد تخفي عدائها للوضع القائم, بل أصبحت تدعو إلى ذلك صراحة من على منابر المساجد. ويأتيها الدعم من بعض الدول العربية وخاصة من الشيوخ الذين يملكون الأموال الكثيرة في السعودية وبعض إمارات الخليج ومن صناديق الدعم الإسلامية ومن قوى تريد تلقين الإدارة الأمريكية درساً قاسياً لتبتعد عن التفكر بحرب مماثلة جديدة.
3. مجموعة السيد مقتدى الصدر الشيعية التي تتبنى خطاً سياسياً يمينياً متطرفاً وتمارس أسلوبين في آن واحد, ولكنهما يهدفان إلى تحقيق غاية واحدة هي السعي للسيطرة على الحكم في البلاد, وهما: أ) ممارسة سياسة سلمية في الظاهر تدعو إلى المقاومة السلمية ومقاطعة قوات الاحتلال ومجلس الحكم الانتقالي والحكومة المؤقتة وعدم الاعتراف بها ومحاولة تعبئة الشيعة حولها, وب) أسلوب عنفي يعتمد على مجموعات مسلحة سرية تشكل "النواة الصلبة" لما يسمى بجيش المهدي (المنتظر). يشاع في العراق إلى أن هذه الجماعة تقوم بعمليات اختطاف أو اغتيال سرية ضد بعض رجال الدين الذين تريد التخلص منهم كما حصل باغتيال السيد عبد المجيد الخوئي, بأمل أن تمهد للسيد مقتدى الصدر الطريق للهيمنة على الحوزة العلمية في النجف وعلى المراقد المقدسة لأئمة الشيعة في العراق ومنع الآخرين منها. ووراء ذلك غايات سياسية ومالية ونفوذ اجتماعي وسيطرة على الشارع. وتتسم هذه المجموعة كلها بالطائفية الجامحة والمغامرة والاستعداد للتضحية بالنفس والقتل في سبيل الوصول إلى الحكم. ويحاول السيد مقتدى الصدر أن يقلد الخميني الراحل في حركته السياسية, مضيفاً إليها العنف غير المعلن عنه, رغم تهديده به. وخطر هذه المجموعة لا يقل عن خطر المجموعات الأخرى, بسبب تطرفها المذهبي وتمييزها الطائفي واستعدادها الكبير لممارسة القوة للوصول إلى ما تريد, ويمكن من خلال أعمالها إشاعة الصراع والنزاع الديني والطائفي في البلاد وبين مختلف الجماعات, خاصة وأنها تضع نفسها ضد كل القوى التي قاومت نظام صدام حسين في الفترات السابقة. ويجد السيد الصدر الدعم والتأييد من القوى المحافظة والمتشددة في إيران ومن جهاز المخابرات والحرس الثوري الإيرانيين, إضافة إلى تأييد حزب الله في لبنان له. وتقوم تلك الجهات الرسمية وغير الرسمية في إيران بتدريب جماعات من العراقيين الشيعة المتدينة على أعمال التخريب والقتل والاختطاف وإثارة الفوضى في البلاد. وما سعي السيد مقتدى الصدر إلى تشكيل جيش المهدي وتشكيل حكومة تحت إدارته سوى محاولة لتحدي سلطة الاحتلال وإضعاف القوى الإسلامية المعتدلة التي تؤدي إلى تأجيج الصراعات في الساحة العراقية. وهو تعبير عن نهج طفولي مغامر واستبدادي خطر, يؤكد بأنها تريد شن عمليات استباقية أو وقائية بدفع من تلك الأوساط في إيران لمنع الإدارة الأمريكية من شن حرب ضد إيران. هذه المجموعة ليست ذات قاعدة اجتماعية واسعة, ولكنها كثيرة الضجيج وصدامية, وهي غير مقبولة من غالبية أتباع المذهب الشيعي وقواه السياسية الأخرى. إلا أن احتمال توسعها قائم إذا استمرت الفوضى وواصلت الإدارة الأمريكية ارتكاب المزيد من الأخطاء في العراق. وتمتلك هذه الجماعة موارد مالية كبيرة تأنيها من القوى المساندة لها في إيران.
4. العدد الكبير من سجناء الحق العام من قطاع طرق وسراق وقتلة ومزورين ومهربي مخدرات .. الخ, الذين أطلق النظام السابق سراحهم قبل الحرب بفترة وجيزة, يمارسون اليوم نشاطاً إجرامياً واسعاً يتمثل بعمليات خطف للبنات والأولاد لأغراض الابتزاز أو الدعارة و سرقة البيوت وقطع الطرق وإثارة الفوضى والرعب في البلاد. وأغلبهم يشكلون جزء من جماعات الجريمة المنظمة التي بدأت نشاطها قبل سقوط النظام وتفاقم في الآونة الأخيرة.
5. هناك بعض الأفراد الذين يشاركون في عمليات القتل الجارية انتقاماً من قتل أقاربهم بصورة عشوائية من قبل القوات الأمريكية والبريطانية أو كرهاً لهما.
إن الدلائل المتاحة تشير إلى أن قوى الإسلام السياسي المتطرفة, وخاصة مجموعات القاعدة والمماثلة لها, تريد تحويل العراق إلى ساحة مكشوفة ومركزية لخوض الصراع ضد الولايات المتحدة أولاً, لتتوسع بعدها صوب بقية الدول العربية,. خاصة وأن سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط وتأييدها المطلق لإسرائيل والموقف من المسألة الفلسطينية عموماً وبقية الأراضي العربية المحتلة في سوريا ولبنان تثير المزيد من الكراهية والعداء لها. إن مواجهة إرهاب قوى الإسلام السياسي المتطرفة يحتاج إلى جهد دولي مشترك وعلى أسس بعيدة عن العداء للإسلام, كما يلاحظ حالياً على الحملة الأمريكية التي لا تأخذ بالاعتبار حساسية المسالة الدينية.
والظاهرة التي يفترض الانتباه إليها أن قيادات جميع قوى الإسلام السياسي المتطرفة تنحدر من أوساط اجتماعية غنية ومنعمة, في حين تتشكل قاعدتها الاجتماعية من أوساط كادحة وفقيرة معدمة وعاطلة عن العمل وذات وعي سياسي واجتماعي متخلف, وهي تعاني من الظلم وتفاقم غياب العدالة في توزيع واستخدام الثروة الاجتماعية.
إن متابعة نشاط القوى المذكورة لن يكون في مقدوره تغيير الوضع لصالحها على المديين المتوسط والبعيد, ولكنها ستثير ولفترة غير قصيرة المتاعب أمام سلطة وقوات الاحتلال من جهة ومجلس الحكم الانتقالي والحكومة المؤقتة والشعب العراقي من جهة ثانية. وسيتراجع نشاطها تدريجاً بمقدار تسريع عملية إعادة بناء الاقتصاد وتشغيل الأيدي العاملة العاطلة وتسليم السلطة للمجلس والحكومة المؤقتة فعلياً.
وعلى الطرف الثاني تتجمع الغالبية العظمى من الأحزاب والكتل السياسية التي قاومت صدام حسين وسعت إلى إسقاطه وعجزت عن ذلك واستعان بعضها بالولايات المتحدة. وهي مكونة من أحزاب دينية وأخرى علمانية وديمقراطية وقوى مستقلة, بعضها ما يزال يتسم بالفردية والرغبة في الهيمنة على الحكم, وبعضها الآخر يتسم بالديمقراطية والانفتاح والرغبة في التعددية السياسية وإقامة المجتمع المدني الحديث. لهذه القوى قاعدة اجتماعية وسياسية واسعة في صفوف الشعب الكردي والعرب الشيعة والأقليات القومية وكذلك في صفوف السنة خارج المنطقة الواقعة شمال العاصمة بغداد, ولكن ثقة الناس بالأحزاب ضعيفة عموماً, كما أن نسبة المرتبطين بالأحزاب السياسية العراقية واطئة جداً إلى مجموع السكان. ولهذه الأحزاب برامج وأهداف مختلفة لمستقبل العراق, ولكنها وافقت تحت ضغط الواقع على توحيد مواقفها ببرنامج مشترك يمكن أن يشكل الأساس المناسب والحد الأدنى لتعاون القوى السياسية العراقية في فترة الانتقال. إن نقل السلطة إلى هذه القوى خلال فترة الانتقال سيسهم في تعزيز قدراتها وعلاقاتها وتأثيرها على الجماهير, إذا تسنى لها تسلم الملفات السياسية والأمنية والاقتصادية. ورغم الشرعية النسبية لمجلس الحكم, بسبب عدم انتخابه وتعيينه من قبل إدارة الاحتلال, فأنه يمثل نسبة عالية من السكان, في كردستان العراق وفي الوسط والجنوب, إضافة إلى وجود قوى سياسية خارج المجلس تؤيده أيضاً. ولكن مجلس الحكم الانتقالي والحكومة يواجهان اليوم عدداً من المشكلات, منها:
1. ضعف دوريهما في الحياة السياسية والأمنية والاقتصادية وعدم امتلاكهما صلاحيات إصدار القرارات المناسبة بشأنها بسبب سياسة الإدارة الأمريكية ودور السيد بريمر.
2. محاولة انفراد ممثل الإدارة الأمريكية باتخاذ القرارات الاقتصادية والأمنية والعسكرية, بعيداً عن إرادة مجلس الحكم والحكومة والشعب, التي بدأت تشدد الصراعات وتضعف دور وتأثير المجلس في الحياة العامة. كما بدأ التعالي الأمريكي في التعامل اليومي يثير السكان, بما في ذلك مع مجلس الحكم والحكومة المؤقتة.
3. ضعف دور العمل السياسي من جانب سلطة الاحتلال واعتمادها على القوة العسكرية والعنف لمعالجة الأمور.
4. التدخل المتواصل من جانب قوى البلدان المجاورة في شؤون العراق ودعمها المباشر وغير المباشر للقوى المناهضة للوضع الجديد ومساعدتها للتسرب إلى العراق.
5. البطء الشديد في إعادة إعمار العراق وخاصة البنية التحتية وتعاظم حجم البطالة في البلاد وتدهور المستوى المعيشي للسكان, وخاصة الفئات الفقيرة والكادحة وصغار الموظفين والكسبة والحرفيين. وعلينا أن ندرك بأن استمرار البطالة بهذا الحجم الواسع يمكن أن يدفع بنسبة مهمة منهم إلى أحضان القوى الإرهابية وعصابات الجريمة المنظمة وستكون لها نتائج سلبية على حركة المجتمع وعلى الأمن الداخلي والاستقرار السياسي.
6. تراجع دور ونشاط الأمم المتحدة في العراق بعد جرائم التفجير التي ارتكبت ضد العاملين في هيئاته وأودت بحياة وجرحت عشرات الناس الأبرياء.
إن استمرار هذه الأوضاع سيشدد الصراع ويزيد من قاعدة المشمولين به من الفئات الاجتماعية العراقية صاحبة المصلحة بزوال حكم صدام حسين, وسيتعذر معالجة المشكلات بالسرعة المطلوبة. ورغم صدور قرار مجلس الأمن رقم 1511 لسنة 2003 بتعزيز دور المجلس, فأن الولايات المتحدة لم تتراجع جدياً بعد عن رغبتها في فرض الهيمنة الكاملة على إصدار القرارات الأساسية في العراق.
جاء سقوط النظام في مصلحة البرجوازية والبرجوازية الصغيرة وجمهرة واسعة من الفئات المنتجة والكادحين في المدينة والريف والغالبية العظمى من المثقفين وكذلك المقيمين في المهجر, إذ أبعدت عن الهيمنة مجموعات من المقاولين والعقاريين والتجار المحسوبين على النظام وحاشية صدام حسين وكبار موظفي الدولة والقوات المسلحة ومجموعة من السماسرة العاملة في تهريب الأسلحة والسوق السوداء. كما كانت في مصلحة الشعب الكردي والأقليات القومية التي وضعت على هامش الحياة السياسية أمداً طويلاً, ثم حوربت وعانت الكثير وقدمت عشرات الآلاف من القتلى والمغيبين والجرحى والمعوقين. كما استفادت من سقوط النظام الأوساط الواسعة من الشيعة التي تعرضت إلى تمييز الحكم واضطهاده وقهره وتهجيره القسري. في حين شعر أتباع المذهب السني, الذين لم تكن معاناتهم قليلة في فترة حكم صدام حسين, إلى أنهم قد أبعدوا عن المشاركة الفعلية في البلاد لحساب الشيعة. وقد أعطت الإدارة الأمريكية هذا الانطباع من خلال تصرفاتها غير المعقولة في توزيع المراكز والمسؤوليات على أساس ديني وطائفي غير سليم وغير حضاري, ويدق أسفين خلاف طائفي مرفوض يصعب تجاوز مستقبلاً.
تعبر القوى السياسية الممثلة في مجلس الحكم, بهذا القدر أو ذاك, عن مصالح نسبة كبيرة من مختلف الفئات الاجتماعية, وهي متفقة بشكل عام على ضرورة إجراء إصلاح اقتصادي وإداري وكفاح ضد الفساد الوظيفي الذي استشرى في ظل النظام السابق. ويشمل الإصلاح الأخذ باقتصاد السوق الحر والإدارة الحديثة للاقتصاد وأجهزة الدولة, على أن يأخذ بنظر الاعتبار عدة حقائق جوهرية, منها:
1. أن سياسات النظام والحروب والحصار الاقتصادي والحرب الأخيرة قد خربت وعطلت عملية الإنتاج وإعادة الإنتاج وخفضت حجم الإنتاج الصناعي والزراعي المحلي إلى 25 % لفترة ما قبل حرب الخليج الأولى وانخفض معدل النمو من 11% عام 1979 إلى -6% في عام 2002, ووصلت البطالة الآن إلى حدود 60-65 % من القوى القادرة على العمل, وانخفض متوسط حصة الفرد الواحد من الدخل القومي من 4400 دولار أمريكي في عام 1979 إلى 400 دولار تقريباً في عام 2002/2003, وتراجعت مكانة المرأة ودورها في الاقتصاد والحياة العامة إلى مستوى ما قبل ثورة تموز عام 1958.
2. أن الحاجة كبيرة إلى دور أكبر ورئيسي للقطاع الخاص المحلي, وإلى مشاركة القطاع الخاص العربي والأجنبي في الحياة الاقتصادية على أن يخضع لحاجات البلاد ووفق ضوابط مناسبة ومشجعة لجلب رؤوس الأموال الأجنبية.
3. أن يلعب قطاع الدولة دوراً مهماً في الحياة الاقتصادية, سواء كان ذلك بالنسبة لاقتصاد النفط الخام أم بالنسبة للخدمات الاجتماعية العامة وبعض السلع الأساسية ذات الاستهلاك الواسع.
4. إذ ما تزال الغالبية العظمى من المجتمع تعاني من البؤس والفاقة وتدني المستوى المعيشي, وبالتالي لا بد من تقديم دعم مناسب لمجموعة من السلع والخدمات, ولا بد من تدخل نسبي للدولة لضمان مصالح الغالبية العظمى من السكان, سواء بالنسبة للأجور أم الضمانات الصحية والاجتماعية أم ساعات العمل. أي إقرار برنامج اجتماعي لمواجهة أوضاع التمايز الطبقي المتسع دوماً والذي تتسبب به حركة وقوانين السوق العفوية ورغبة الرأسماليين في زيادة أرباحهم على حساب المنتجين في ظل الرأسمالية. ومن هنا يطرح اليوم للنقاش موضوع الأخذ ب "سياسة اقتصاد السوق الحر الاجتماعي".
وإزاء هذه القضايا يشتد الصراع بين المجتمع وسلطة الاحتلال, إذ أنها تتصرف بمفردها وتسعى إلى فرض الخصخصة كاملة في الاقتصاد العراقي. ويتعارض هذا الاتجاه مع واقع وحاجات العراق. فنهج اللبرالية الجديدة الذي يمارسه السيد بريمر باسم الإدارة الأمريكية وانفراده بالشأن الاقتصادي يعيق تطور الاقتصاد العراقي ويغرق الأسواق المحلية بالسلع الأجنبية ويحرم البرجوازية الوطنية الصناعية والبرجوازية الصغيرة والحرفية من النمو وتحقيق التراكم الرأسمالي الوطني المطلوب ويقلص إمكانية تنشيط تنمية وتوسيع عملية إنتاج وإعادة إنتاج في الاقتصاد العراقي ويعيق إيجاد فرص عمل جديدة للعاطلين ويبقي المجتمع معتمداً على إيرادات النفط الخام وعلى استيراد سلعه من الخارج, كما يقلص إمكانيات تغيير البنية الاجتماعية المتخلفة حالياً ورفع مستوى الوعي الاجتماعي في البلاد.
على مدى ثلاثة عقود ونصف مارس النظام في العراق سياسة خاطئة وخطرة باتجاهات عدة:
- الاستبداد نحو الداخل وخلق دولة بوليسية جامحة ومصادرة الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان وفرض دور الحزب ومن ثم الفرد والفكر القومي الشوفيني الواحد على الدولة والمجتمع, والسعي لتصفية قوى المعارضة والرأي الآخر سياسياً وجسدياً.
- سياسة شوفينية تمييزية معادية للقوميات الأخرى, وبشكل خاص موجهة ضد الشعب الكردي والأقليات القومية, إضافة إلى سياسة تمييزية إزاء أتباع الأديان والمذاهب والاتجاهات الفكرية والسياسية المختلفة.
- توجيه الموارد المالية النفطية لصالح التسلح والتفوق العسكري في المنطقة, ومنها السعي لامتلاك أسلحة الدمار الشامل والتفريط بتلك الموارد.
- التوسع على حساب الدول المجاورة ومحاولة فض الخلافات بالعنف وشن الحروب والغزو العسكري.
أحدثت هذه السياسات من جانب الدكتاتورية الحاكمة تغييرات واسعة وعنيفة في المجتمع العراقي وفي سلوك الفرد بشكل خاص. فالفرد العراقي يتسم اليوم وأكثر من أي وقت مضى بجملة خصائص غير اعتيادية ناشئة عن انتشار علل اجتماعية وعصبية ومعاناة تربوية ونفسية عميقة بضمنها حالة من التوتر الدائم والقلق والخوف من المستقبل. يضاف إلى ذلك تعمق واتساع حالات انفصام الشخصية والكآبة والرغبة في انتهاز الفرص وروح الثأر والانتقام. لم يقض سقوط الطاغية عبر الحرب على هذه الأمراض والعلل الاجتماعية, بل فجرّها وأظهرها بإبعادها الحقيقية, إذ كانت الخشية العميقة من الدكتاتورية ومن عواقب معينة في سلوك الفرد هي السبب في بقائها تحت سطح الأحداث. واليوم تشهد البلاد حالة تمرد واحتجاج متواصلين ورغبة جامحة إلى إبراز العضلات إزاء قوات الاحتلال, وهي حالة طبيعية باعتبارها ردة فعل لظاهرة الخوف والمسكنة التي هيمنت على المجتمع والفرد في العراق طيلة العقود المنصرمة. كما أن سياسات النظام دفعت بالعراقيين إلى الارتداد نحو التقاليد والعادات والتماسك العشائري, وإلى الغوص في الغيبيات تحت واجهة الدين واعتماد الناس على المشعوذين والسحرة والاستخارة لإنقاذهم من أوضاعهم المتردية وتنامي الإحساس بالتباين الديني والطائفي والتشبث بهما دفاعاً عن النفس وخشية من المستقبل. إنه الحصاد المُّر لفترة ما بعد الدكتاتورية وسيادة الفوضى ما بعدها. لذلك فأن الدكتاتورية والحروب والسياسات الدموية والقهر الاجتماعي والسياسي والعوز الدائم والحصار الدولي الظالم لم تخرب الأجيال الراهنة وتفسد أوضاعهم الصحية والنفسية والتربوية فحسب وإنما سحقت مسبقاً معها بعض الأجيال الجديدة التي ولدت أو التي ستولد وتتربى على أيدي الأجيال الراهنة.
إن المهمات التي تواجه القوى السياسية حاليا وتلك التي ستتسلم السلطة بعد فترة الانتقال كبيرة ومعقدةً، ولديّ القناعة بان الحالة الراهنة فوق طاقة الأحزاب السياسية ببنيتها الحالية وعلاقاتها ببعضها وأساليب عملها وضعف الديمقراطية فيها وفي علاقاتها مع المجتمع وفي نشاطها الفعلي. ومع ذلك لا نملك إلا أن نعتمد على ما لدينا في البلاد. ولكن الواقع يستوجب من هذه الأحزاب إعادة النظر ببرامجها ومهماتها وسياساتها وإجراء التغييرات الضرورية عليها والأخذ بقواعد الديمقراطية بما يساعد الإنسان على معرفة نفسه ومعالجة مشكلاته والتعاون مع بقية أفراد المجتمع لبناء المجتمع المدني الديمقراطي المنشود. كما يتطلب العمل على إعادة المغتربين وذوي الكفاءات ليلعبوا دورهم في عملية التغيير.
إن الإشكاليات السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية الكبيرة التي تواجه المجتمع ستجعل من التحويل الديمقراطي للعراق عملية معقدة وطويلة الأمد وهي بحاجة إلى جهود استثنائية. ويمكن للأمم المتحدة أن تلعب دوراً كبيراً في هذا الصدد بدلاً عن الولايات المتحدة, إذ لا توجد ثقة بالأخيرة من جانب الشعب وغالبية القوى السياسية. ومن الممكن أن تجد الأحزاب المتعاونة حالياً إطاراً عاماً وأهدافاً مشتركة ترتضي مبادئ الحرية والديمقراطية والحياة الدستورية والتعددية السياسية والتداول الديمقراطي للسلطة وممارسة حقوق الإنسان والفيدرالية كأساس في حكم البلاد. وسيكون للجيش القادم نتيجة عوامل كثيرة إمكانيات ضئيلة للتدخل في الحياة السياسية أو القيام بانقلابات عسكرية. ولكن سوف لن تخلو الساحة السياسية العراقية من قوى سياسية لا تقبل بتلك المبادئ أو تريد نظاما سياسياً قومياً أو دينياً متطرفاً يدير دفة الحكم. وهي قليلة الحظ في الوصول إلى السلطة.
لا تمتلك قوى البعث والقوى القومية اليمينية قاعدة اجتماعية وسياسية مهمة بعد التجربة المريرة التي مر بها العراق, ولكنها ستبقى قائمة بصورة سرية أو علنية باعتبارها تياراً فكرياً وسياسياً عربياً متعدد الاتجاهات والأطياف نتيجة وجود امتداداتها على الساحة السياسية في الدول العربية, إلا إنها لن تمنح فرصة أخرى للوصول إلى السلطة, وهي تخسر مواقعها في الدول العربية أيضاً. وإذا كان التيار السياسي الديني المعتدل قادراً على مواصلة العمل والتأثير النسبي في الناس المتدينين وإيجاد لغة مشتركة مع العلمانيين, إلا أنه, وبسبب ظروف العراق وتنوعه الإثني والديني والمذهبي والفكري والسياسي, غير مؤهل لحكم العراق بمفرده, بل يمكن مشاركته في تحالفات فكرية وسياسية واسعة وعلى أسس المجتمع المدني الديمقراطي. ومع أن التيار الفكري الديمقراطي بمختلف اتجاهاته ضعيف حالياً بسبب ما تعرض له من ضربات قاسية في العقود المنصرمة, فأن ظروف العراق تسمح له مستقبلاً في أن يلعب دوراً أكبر في الحياة السياسية العراقية ووفق أسس اللعبة الديمقراطية.
تتفق غالبية القوى السياسية الفاعلة في العراق على أن للولايات المتحدة كانت وما تزال مجموعة أهداف أخرى بعيدة المدى غير تحرير العراق من نظام صدام حسين, وأنها بدأت منذ اللحظة الأولى بتنفيذ هذه الأهداف في الحقل الاقتصادي وإيجاد نخبة سياسية تدين لها بالولاء في إطار وخارج مجلس الحكم الانتقالي. وأن هذه الأهداف تتلخص في السيطرة على نفط العراق ونفط المنطقة بأسرها والاحتفاظ بميزان القوى العسكري لصالح إسرائيل والاقتراب من حدود إيران للتأثير في الأحداث السياسية فيها وكذلك تهديد سوريا بالتدخل في حالة تعارضها مع الاستراتيجية الأمريكية, وحل المسألة الفلسطينية لصالح إسرائيل, إضافة إلى الاقتراب من حدود روسيا ومحاولة إيجاد محور سياسي-عسكري يضم إسرائيل وتركيا وبعض جمهوريا آسيا الوسطى, إضافة إلى الولايات المتحدة من خلال أو دون حلف الأطلسي لحماية مصالحها الجديدة في نفط تلك المنطقة. ومن هنا انطلقت دعوة الدكتور أحمد الجلبي, رئيس المؤتمر الوطني, إلى منح الولايات المتحدة قواعد عسكرية في العراق منذ الآن وقبل خروجها منه. وترى الكثير من القوى السياسية إلى أن الولايات المتحدة ساندت منذ عشرات السنين وما تزال النظم الرجعية القائمة في المنطقة العربية وسياساتها, ودعمت نظام صدام حسين طويلاً وساهمت في تسليح قواته. ولهذا يمكن القول بانعدام الثقة المتبادلة بين الشعب العراقي وغالبية قواه السياسية, وبين الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى. ويصعب بناء الثقة المتبادلة في ظل الاحتلال والسياسات الحالية للولايات المتحدة, كما يصعب تصور تحقيق تغيير جدي في السياسة الأمريكية حالياً لإقامة الثقة المفقودة. وهي المسألة التي تستفيد منها القوى التي تشن العمليات العسكرية ضد القوات الأمريكية.
ومع ذلك ترى غالبية القوى السياسية العراقية العاملة في مجلس الحكم الانتقالي أو خارجه, العربية منها والكردية أو الأقليات القومية, بأن لا مفر من التعاون والعمل المشترك مع الولايات المتحدة الأمريكية ورفض انسحابها من العراق حالياً قبل إتمام فترة الانتقال وإنجاز المهمات التالية: تحقيق الأمن والاستقرار, إعداد الدستور الجديد, إعداد قانون الانتخابات العامة. إجراء الانتخابات للبرلمان وتشكيل حكومة شرعية وفق نتائجها يعترف بها دولياً, على أن يتم خلال ذلك إنجاز تشكيل مؤسسات الجيش والشرطة والأمن العراقية ونقل المهمات إليها في الحفاظ على الأمن الداخلي والحدود. إذ أن المطالبة المبكرة بخروج قوات الاحتلال دون إنجاز تلك المهمات أو الاستعجال بإنجازها يمكن أن تقود إلى انفلات الأمن ونشوب خلافات ونزاعات مسلحة متعددة الجوانب وإلى تدخل عسكري أجنبي من دول الجوار وإلى نتائج سيئة في الانتخابات وإلى فوضى تعم المنطقة.
لا شك في أن الحرب ضد النظام العراقي ووجود القوات الأمريكية في العراق وتردي الأوضاع الأمنية وازدياد العمليات العسكرية ضد الوجود الأمريكي وارتفاع عدد قتلي وجرحى الجنود الأمريكيين والعراقيين أصبحت تشكل عبئاً سياسياً ومالياً وعسكرياً وشعبياً ثقيلاً على الإدارة الأمريكية وعلى الرئيس الأمريكي جورج بوش وعلى انتخابات الرئاسة القادمة, خاصة وأن الباحثين الأمريكيين عن أسلحة الدمار الشامل في العراق عجزوا من العثور عليها, مما قلل من مصداقية السياسة الأمريكية. ومن هنا تبذل الولايات المتحدة جهودا دولية واسعة لمساعدتها على احتواء الوضع دون أن تكون مستعدة للتنازل عن قيادتها ومسؤوليتها المباشرة في العراق. وهو الذي يصطدم بإرادة ومصالح كل من فرنسا وألمانيا وروسيا والصين واليابان وغيرها من البلدان, وبالتالي فهي تحاول تقليص مساعدتها المالية والدعم السياسي لجهود إعادة البناء في العراق. وتتضمن في الجوهر موقفاً يعارض سياسة الهيمنة الأمريكية والضربات الإستباقية دون الاتفاق الكامل مع تلك الدول وأخذ مصالحها بنظر الاعتبار.
وفي مثل هذه الظروف فأن من المفيد للعراق والولايات المتحدة اتخاذ الخطوات التالية استجابة لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 1511 لسنة 2003 حول العراق, وأعني بذلك:
1. منح مجلس الحكم الانتقالي والحكومة الحالية الصلاحيات الفعلية لممارسة دوريهما القيادي والمركزي في الحياة السياسية والأمنية والاقتصادية والمالية والعلاقات الدولية والتخلي عن ممارسة حق الفيتو ضد قراراتهما.
2. القبول بفكرة توسيع مجلس الحكم الانتقالي ليشمل القوى السياسية الأخرى التي لم تمثل فيه لتوسيع قاعدته الشعبية وزيادة تأييد الجماهير له.
3. توجيه اهتمام مجلس الحكم الانتقالي لقضايا الأمن والاستقرار والعمل السياسي في صفوف الجماهير وتطوير إعلامها لما تحقق حتى الآن, وتشكيل القوات القادرة على مواجهة الإرهاب بعمل سياسي وأمني مترابطين.
4. التعجيل بإعادة إعمار منشآت الخدمات العامة وتوفير الرعاية الصحة والكهرباء والماء والنقل والتعليم للجماهير الواسع, وخاصة خارج العاصمة بغداد, بسبب معاناتها المأساوية المستمرة.
5. إعادة جمهرة كبيرة من القوات المسلحة العراقية غير الموالية للنظام السابق, وهي كثيرة, إلى الخدمة العسكرية في الجيش والشرطة لتمارس مهمتها في مواجهة الوضع الأمني المتدهور ومراقبة التسلل عبر الحدود.
6. ابتعاد قوات الاحتلال عن مراكز المدن والشوارع العامة لتقليل الاحتكاك المباشر بالسكان. ويفترض الاستعانة ببعض قوات الأمم المتحدة من ذوي القبعات الزرقاء, إذ يمكن أن يخفف هذا الإجراء من وطأة العداء للقوات الأمريكية ويساهم في تقليص السيطرة الأمريكية وانفرادها في الموقف من مجلس الحكم الانتقالي والحكومة المؤقتة والتصرف الفردي في الشؤون الأمنية والسياسية والاقتصادية العراقية. كما يمكن أن يخفف من غلواء العداء في الدول العربية للولايات المتحدة, ويعزز من دور ومكانة هذه المنظمة الدولية في العراق والعالم العربي.
7. الابتعاد عن محاولة فرض التقسيم الطائفي في توزيع المقاعد أو الاعتماد على القوى العشائرية, إذ أن ذلك سيكون على حساب إقامة وتعزيز المجتمع المدني المنشود للعراق, ويعمق العصبية العشائرية والروح الطائفية المضرتين بوحدة الشعب العراقي. وهو أحد العوامل التي دفعت بقوى مسلمة سنية غير قليلة إلى إعلان رفضها للتعاون مع مجلس الحكم أو انخراط أجزاء منها في العمليات العسكرية المناهضة لقوات الاحتلال أو ضد قوى المجلس الانتقالي والحكومة المؤقتة, رغم أن الكثير منها لم يكن من مؤيدي نظام صدام حسين.
8. كف إدارة الاحتلال عن منح العقود النفطية وإعادة الإعمار إلى شركات أمريكية بمبالغ خيالية لا تتناسب مع طبيعة تلك المشاريع وتكلفتها الفعلية وتتعارض مع ضرورة طرحها في مناقصات دولية, أو فرض عملية خصخصة شاملة ترفضها الغالبية العظمى من الشعب وقواه السياسية وتتعارض مع مصالح الاقتصاد الوطني.
9. احترام حقوق الإنسان إزاء السجناء والمعتقلين بغض النظر عن هويتهم السياسية, وفي التعامل مع المواطنات والمواطنين واحترام التقاليد والعادات الاجتماعية.
10. الامتناع عن جلب قوات عسكرية من دول الجوار, سواء أكانت تركية أم عربية, إلى العراق لما في ذلك من مخاطر جدية غير معروفة العواقب وإثارة حساسية الشعبين العربي والكردي والأقليات القومية.
11. بذل الجهد مع الدول الدائنة لإلغاء ديونها على العراق وإلغاء تعويضات الحرب, وبذل الجهد مع دول الاتحاد الأوروبي وغيرها لتقديم المزيد من الدعم المالي والفني والخبرة للعراق.
12. الاهتمام بظاهرة الفساد الوظيفي ومحاربتها والكشف الجريء عنها والتصدي للجهات الأجنبية التي تريد ممارستها في العراق لتحقيق مصالحها الاقتصادية على حساب مصالح الشعب والاقتصاد الوطني.
يبدو لي بأن الشعب العراقي سيتغلب على مشاكله الآنية, رغم صعوباتها وتعقيداتها, وسيعمل على إقامة جمهورية ديمقراطية دستورية تستند إلى الديمقراطية والتعددية السياسية واحترام متطور تدريجاً لحقوق الإنسان واحترام حقوق القوميات والأقليات القومية, بما في ذلك إقامة الفيدرالية في كردستان العراق وحقوق المرأة ومساواتها بالرجل ودورها المتطور في المجتمع, وسيرفض نماذج الدولة الدينية المتطرفة. وهذه الوجهة تستند إلى التجارب الغنية والمريرة التي مر بها الشعب العراقي خلال سنوات القرن العشرين والسنوات الأولى من القرن الجديد. وسوف لن يكون السير على هذا الطريق سهلاً أو دون إشكاليات, ولكن قدر الشعب في التغلب عليها متوفرة أيضاً ومقرونة بتضامن ودعم المجتمع الدولي والرأي العام العالمي له.
أواخر أكتوبر 2003 كاظم حبيب
• أعدت هذه المقالة بطلب من هيئة تحرير مجلة الشؤون
الاستراتيجية الدولية في معهد الشؤون الاستراتيجية في هلسنكي.
ك. حبيب
#كاظم_حبيب (هاشتاغ)
Kadhim_Habib#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟