كان صدام حسين نموذجا سيئا للزعامات العربية في الشرق الأوسط، وكان يُحظى بدعم كبير من الأنظمة العربية الشمولية. ولقد كان هدف صدام حسين وحزب البعث في العراق ضرب الشعب العراقي بعربه وكرده واقلياته، وإضعاف الإسلام والوطن العربي وذلك بتصفية علماء الدين وخاصة من الشيعة، وضرب الحركتين التحرريتين الفلسطينية والكردية، وإضعاف الأمن القومي العربي. وقد كشف التقرير السري للقيادة القطرية لحزب البعث في العراق حقيقة نوايا البعث بعدائه للشعب العراقي، حيث جاء فيه مايلي:
"وقد خصصت القيادة منذ وقت مبكر يمتد إلى عام 1972 بأن أهم مخبئين لقوى مضادات الثورة في العراق وإلى وقت طويل نسبيا هما 1- الغطاء الديني. 2- القضية الكردية.
وقد وضعتها القيادة في جانب القوى المضادة هكذا وحسب التسلسل: القضية الدينية وثم القضية الكردية".
(أنظر التقرير السري للقيادة القطرية لحزب البعث في العراق في حزيران 1979.)
حظي نظام صدام حسين بدعم إقتصادي وإستخباراتي من دول الخليج والأردن ومصر والسودان واليمن ودول المغرب العربي ومنظمة التحرير الفلسطينية في ممارساته العدوانية. الإشكالية في العقلية العربية هي أنها تجعل كل هزيمة للعقل العربي مردها الأمبريالية، وكأن الفكر العربي فكر سماوي لا يخطأ. وأريد التأكيد على أن العقل العربي في أزمة منذ أن تآمر صدام حسين على رئيس الجمهورية أحمد حسن البكر وعزله عن السلطة، وتبوأ هو منصب رئيس الجمهورية في عام 1979.
لم تمض بضعة أشهر على إستلام صدام رئاسة الجمهورية حتى شن حربا ضروسا ضد النظام الجديد في إيران، حيث ألغى إتفاقية 6 آذار لعام 1975 والتي بموجبها تآمر مع شاه إيران على القضية الكردية لتصفيتها مقابل تنازل العراق عن أجزاء من الشريط الحدودي وشط العرب لصالح إيران، وذلك بجعل خط تالوب هو الخط الحدودي الفاصل بين الدولتين. دامت الحرب العراقية الإيرانية ثماني سنوات (1980-1988)، قتل من الجانبين ملايين الأبرياء، وكان النظام العراقي يحظى بدعم سافر من الأنظمة العربية، وكانت المصانع الغربية والإسرائيلية والعربية على السواء تمول هذه الحرب لإضعاف الإسلام والعرب.
في عامي 1987-1988 بدأت حملات الأنفال الظالمة ضد الكرد، وقتل منهم 182 ألفا إضافة إلى حرق أربعة آلاف قرية كردية. وفي آذار عام 1988 إستخدم السلاح الكيماوي ضد المدينة الكردية حلبجة. وعم الإستنكار الدولي الشامل الصحافة العالمية بسبب إستخدام النظام العراقي السلاح الكيماوي ضد الكرد، وفي هذه الأثناء كان العقل العربي يؤيد إرهاب النظام العراقي، حيث أشارت جريدة "العرب" إلى تصريح منظمة التحرير الفلسطينية في 20 سبتمبر عام 1988في تونس من أن:
الحملة المعلنة من قبل الكونكرس والإدارة الأمريكية تهدف إلى إرهاب العراق وإبتزازه وهو يخوض مفاوضات مضنية أمام التعنت الإيراني وصرف النظر عن الإنتفاضة الفلسطينية
وإشغال الرأي العام العالمي عن الإرهاب الصهيوني الرسمي المنظم ضد الشعب الفلسطيني"
(أنظر جريدة العرب في 12/9/1988).
كما أن مجلس جامعة الدول العربية تضامن مع العراق فيما اسماها الحملة التي يتعرض لها العراق لإستخدامه اسلحة كيماوية ضد العراقيين الأكراد. (أنظر صحيفة السفير اليومية، العدد 5075 في 14 أيلول 1988 ).
ثم أعلن المجلس الوزاري للجامعة العربية إستنكاره للحملة الإعلامية الهادفة إلى تشويه الإنتصارات العراقية وأكد تضامنه التام مع العراق. (السفير، نفس المصدر).
والأسوأ من كل ذلك تأثير الأنظمة العربية على وزراء خارجية الدول الإسلامية المجتمعين في عمان بُعَيد مجزرة حلبجة ، ورفض إدانة النظام العراقي (السفير، نفس المصدر).
إشتدت الأزمة العقلية العربية منذ ذلك التاريخ، وإعتبرت الإعتداء والقتل من قبل النظام العراقي بحق مواطنيه إنتصارا، وأعتبرت معارضة الإعتداء مؤامرة صهيونية وأمبريالية. كان ذلك بوابة للنظام العراقي في محاولة القضاء على الأمن القومي العربي، والتلاعب بمقدرات العراقيين والعرب.
الموقف العاطفي العربي، أنصرْ أخاك ظالما أو مظلوما، شجع الدكتاتور العراقي صدام حسين بغزو الجارة دولة الكويت، وإحتلالها وضمها إلى العراق. وحتى في هذا العدوان السافر وجد صدام حسين أصدقاء عرب يؤيدونه من الأنظمة الأردنية واليمنية والسودانية ومنظمة التحرير الفلسطينية وقطاعات واسعة من المغفلين والمنتفعين والمتاجرين بالدماء االبريئة. دولة الكويت كانت اكثر الدول تأييدا لحرب العراق على إيران، فأصبحت أول دولة متضررة تعرضت لغزو العراق لأراضيها عام 1990. ولقد صرح ياسر عرفات حينذاك: "مرحى بالحرب مرحى بالحرب ، أتمنى أن تدوم الحرب مائة عام". ولكن حرب ضد مَن؟
كانت نتيجة غزو العراق للكويت، دخول القوات الأمريكية منطقة الشرق الأوسط من أوسع أبوابها. وفتحت دول الخليج أراضيها لإقامة القواعد العسكرية الأمريكية، وتمويلها بأموال عربية لحمايتها من عدوان صدام حسين الذي كان يملك رابع أقوى جيش تقليدي في العالم.
رجعت العلاقات العراقية العربية إلى حالتها الإعتيادية بسرعة ، وعجز العقل العربي حتى بعد تحرير الكويت بمساعدة أمريكية ودولية، وتحطيم الإرادة العربية، من فهم نفسية صدام حسين، وعدوانية الآيديولوجية البعثية، وإستراتيجيتها في إجهاض سياسة الأمن القومي العربي. لكن الأهم من كل ذلك تعمقت العلاقات بين صدام حسين وفصائل المقاومة الفلسطينية. وتمكن صدام حسين أن يخدع بعض هذه الفصائل رغم أنه كان في حقيقته يريد أن يستخدم الفلسطينيين لتحقيق مآربه لأنه كان من ألد أعداء الشعب الفلسطيني. ولعل من المفيد أن نبرهن صحة قولنا بالإشارة إلى ماكشف عنه وزير الدفاع العراقي الأسبق في نظام صدام حسين ، الفريق حردان التكريتي الذي قتل فيما بعد في الكويت. فقد جاء في مذكرات حردان التكريتي المنشورة عام 1990 بصدد مؤامرات صدام حسين مايلي:
" 1- لابد من السعي قبل كل شئ لإنتزاع القيادة من القاهرة، باعتبار ان الدور القيادي للقاهرة قد إنتهى، وذلك بالطرق التالية:
أولا: إتخاذ مواقف ثورية متطرفة في القضايا العربية، والإستفادة من ذلك إعلاميا لكسب اكبر عدد ممكن من الشباب في العالم العربي ، إلى جانب الحزب الحاكم.
ثانيا: شراء الصحف الناصرية التي تصدر في خارج مصر، صحيفة صحيفة، لتحويل الناصريين الى بعثيين أو على الأقل مسيرين من قبل البعث.
ثالثا: شراء أعداء النظام الناصري ، من المصريين وغير المصريين لحشدهم ضد مصر، ومن ثم لجعل القاهرة امام عدو داخلي يلهيه عن التعرض للبعث".
(أنظر حردان التكريتي، كنا عصابة من اللصوص والقتلة خلفَ ميليشيات صدام للإعدام! القاهرة، الزهراء للإعلام العربي، 1990، ص 52).
ولم يكفي كل ذلك للعرب والفلسطينيين ليغيروا مواقفهم من نظام صدام حسين، حتى وقع خلاف حاد بين منظمة التحرير الفلسطينية وصدام حسين حين كشفت أوراق صدام. فقد جاء في تعميم خاص رقم 34 الصادر من حركة التحرير الوطني الفلسطيني-فتح- قسم التعبئة والتنظيم بصدد عداء النظام العراقي للقضية الفلسطينية منذ توليه السلطة. جاء في التعميم مايلي:
- النظام العراقي "يختلف عقائديا مع أية قوة في الدنيا، وليس فقط في دنيا العرب.
- لقد كان الحكم الإنعزالي العراقي أول حكم في البلاد العربية تجرأ على إقفال مكاتب فتح وذلك بعد أن وصل إلى الحكم.
- فالإنعزالية العراقية قديمة قدم التسلط الخارجي على شعب العراق وخيراته.
- كيف كان يمكن أن يستمر حكم نوري السعيد وسياسته في إبعاد العراق عن مجرى التاريخ العربي المعاصر، إن لم تتناسخ روحه في جسد صدام حسين التكريتي وبقية عشيرة التكارتة.
- إن بغداد صدام التكريتي ليست شيئا أخر غير بغداد نوري السعيد، وإذا كان الفلسطينيون لم يستطيعوا إعتبار نوري السعيد بطلا قوميا فإنهم عاجزون عن رؤية ملامح البطل القومي في وجه صدام التكريتي. خصائص كثيرة مشتركة بالإضافة إلى الأصدقاء المشتركين، تجمع صدام التكريتي المحترف، ومناحيم بيغن زعيم الأرغون والمدير المحترف لعمليات الإغتيال للأبرياء ولايجوز لأحد أن يشدد أكثر مما يجب على الفروق".
(أنظر تعميم خاص رقم 34 الصادر من حركة التحرير الوطني الفلسطيني-فتح- قسم التعبئة والتنظيم بعنوان "إنعزاليوا بغداد الحوار نعم اللاحوار نعم أيضا).
لكن تمكن صدام حسين من شراء فتح دون ان يغير من سياسته إزاء القضية الفلسطينية، وتصور بعض الفلسطينيين بأن إطلاق الجيش العراقي بعض الصواريخ على المنطقة الصحراوية في إسرائيل إيذانا بتحرير فلسطين، لكن الحقيقة المرة هي انها كانت مناورة سياسية وكذبة من أكاذيب صدام لخداع الفلسطينيين، ربما بالإتفاق مع إسرائيل. فلنقرأ معا ماكتبه حردان التكريتي عن حيل صدام السياسية. كتب حردان التكريتي في مذكراته:
"القيام بتنظيم حزبي داخل كل الدول العربية، لإدخال اكبر عدد ممكن في الحزب ، وتحريكهم وقت الحاجة.
القيام بتدخل عسكري في الأردن لقلب نظام الملك حسين أو العمل لقيام إنقلاب موال للحزب.
ثم التآمر بعد ذلك على البعث السوري، ثم على لبنان لإحياء مشروع الهلال الخصيب، مما يعطي الحزب – بعد نجاح المشروع - قدرة تحرك واسعة في كل الدول العربية.
فقد كانت خطتنا مبنية على أساس ضرورة التعاون مع الملك حسين، لضمان بقاء الجيش العراقي في الأراضي الأردنية، ليس تحسبا لهجوم إسرائيلي على العراق ، فقد إتفقنا مع
إسرائيل بعد شهر من إنقلاب 30 تموز، وبالضبط 29 /آب/1968 ، على عدم شن أي هجوم على جيشنا أو على العراق في مقابل عدم إشتراك الجيش في أية عملية ضد
إسرائيل، أو حتى صد أي هجوم على الأردن، وفي مقابل السماح لليهود العراقيين بالهجرة إلى إسرائيل عن طريق قبرص".
(أنظر مذكرات وزير الدفاع العراقي الأسبق حردان التكريتي، المصدر السابق، ص 54 وص 56).
مع الأسف الشديد لم تستوعب العقلية العربية كل تلك الحقائق، واستمر صدام حسين في سياساته العدوانية لضرب المصالح العربية، وإضطهاد الشعب العراقي. ولم يعي العقل العربي مأساة الشعب العراقي، وهروب أربعة ملايين عراقي من عرب وكرد وأقليات من العراق. فمن الحرب العراقية الإيرانية إلى تسفير الكرد الفيلية إلى إيران بعد تجريدهم من ممتلكاتهم، إلى قتل عشرة آلاف فيلي، وإختفاء ثمانية آلاف بارزاني، وعمليات الأنفال عامي 1987-1988 بحرق أربعة آلاف قرية كردية وقتل 182 ألف كردي، ومرورا بإحتلال الكويت وإنتهاءا بكشف بالمقابر الجماعية والتعذيب في السجون، وتصفية علماء المسلمين الشيعة وتجفيف الأهوار في الجنوب وإغتصاب النساء.
لم يتحرك العقل العربي أبدا، ولم يفكر تفكيرا جديا في معالجة الأزمة، لأنه نفسه كان في أزمة، فتحرك العراقيون نحو أمريكا تماما كما فعل الكويتيون، فالعراق كالكويت كان قابعا تحت نير إرهاب صدام حسين، فطلبوا المساندة الأمريكية لتنقذهم من ظلم صدام. أصبح العراقيون مستاؤون من شخير النوم العربي العميق والمزعج، ومن وقوع العرب في الحضيض بعد عملية عاصفة الصحراء. ووجدت المعارضة العراقية طريقا مبلطا بالتعاون مع أمريكا لتحررهم من عدوانية صدام حسين مقابل أن يبقى العراق محتلا ولو لفترة معينة أو لسنين محددة، لتأخذ أمريكا نفطهم مقابل أن يتنفسوا الصعداء، وأن يحموا عوائلهم وشرفهم من إغتصاب عدي وقصي لبناتهم.
غزت القوات الأمريكية العراق في ظل أزمة العقل العربي، وقصفت الطائرات الأمريكية المواقع العراقية، وسقط صنم ساحة الفردوس في 9 نيسان من عام 2003، وهلل العراقيون لسقوط نظام الطاغية. وتباكى العرب في بعض القنوات الفضائية التي كانت تمول من قبل صدام حسين، كما تباكى كثيرون غيرهم في بعض الدول العربية الأخرى التي تضررت من تحرير العراق وإحتلاله، وهم لازالوا في نومهم العميق وفي كسلهم العقلي لايعبؤون بمصير الشعب العراقي، ملتهون بأزمتهم الفكرية المؤلمة. لكنهم يخافون من تحرير العراق غدا لأن شعلة الحرية ستمتد إلى أنظمتهم المهترئة أيضا.
ماذا فعل العقل العربي بعد سقوط صدام، وبعد أن ظهرت المقابر الجماعية وأشلاء آلاف الضحايا من الأطفال والنساء والشيوخ تناجي السماء؟ النتيجة كانت غياب العقل العربي من جديد، بل إستمرارية لأزمة العقل العربي. الأمين العام لجامعة الدول العربية يصرح بأن أمه أقامت تلك المقابر الجماعية، كناية بعدم صحتها وكأن ملايين العيون والأفئدة التي تراها في الأحلام وليس على أرض العراق. والبرلمانيون العرب رفضوا إدانة نظام صدام حسين في إرتكاب تلك المقابر الجماعية، والأنظمة العربية والجامعة العربية لازالت ساكتة عن تلك الجرائم، ولم تصدر إدانة ولا إستنكار، فإلى أين يقودنا العقل العربي؟ ولماذا هذا الدجل عن الدعوة بمحاربة الصهيونية والأمبريالية، بينما يبارك فينا الذين يحكموننا ليقتلوا أطفالنا، والذين يحكموننا يخافون أن يحمونا. اللهم أيقظ وطني!
العمليات التي تنفذ في العراق لقتل العراقيين يعتبرونها مقاومة، وتفجير أنانبيب النفط العراقية يعتبرونها مقاومة، وخطف النساء وإغتصابهن من قبل العرب والإسلاميين الغرباء في عراقنا يعتبونها مقاومة، ويضعون السلب والنهب والإغتصاب وقتل الأطفال في نفس سلة مقتل جندي أمريكي ، فيصبح في معادلة العقلية العربية مقاومة. كل شئ مقاومة. الزنا الفكري مقاومة، والقتل الجماعي مقاومة، والمقابر الجماعية مقاومة. صدق رسول الله حين قال: إذا لم تستح فاصنع ماشئت. إنها مقاومة، وبهذه المقاومة أصبحت انظمتنا إستسلامية إنهزامية، وبهذه المقاومة أصبحت عقولنا متفسخة ومريضة. ونظل نقول سننتصر، والوطن كله محتل، والعقل كله محتل. ونظل نغني بأن عزائمنا لا تقهر، وهي تصمد كالجبال في أماكنها، وسنهزم الأعداء، وما هزمنا العدو يوما منذ أن وصل صدام حسين وحزب البعث على دفة الحكم في العراق، وما انتصرنا منذ أن دخل فكر ميشيل عفلق وصلاح البيطار والبعث عموما عقولنا ليحكمنا. إنها الهزيمة تلو الهزيمة.
الجزء الثاني:
العراق وأزمة العقل العربي 2/2
- صدام حسين في الأسر وأكذوبة أسطورة الرئيس القائد-