|
قراءة في مؤلَّف الكاتب داود تلحمي: -اليسار والخيار الإشتراكي...قراءة في تجارب الماضي وفي احتمالات الحاضر-
عصام العاروري
الحوار المتمدن-العدد: 2247 - 2008 / 4 / 10 - 10:55
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
أصدرت المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديمقراطية "مواطن" مؤخَّراً كتاباً للباحث والصحافي داود تلحمي، بعنوان "اليسار والخيار الإشتراكي... قراءة في تجارب الماضي وفي احتمالات الحاضر". ويُسجَّل لمؤسسة "مواطن" مثابرتها على إصدار دراسات وأبحاث جادة وإغناء المكتبة الفلسطينية، بل والعربية، بكتب تشكل مراجع هامة للباحثين والدارسين وطلبة الجامعات، في عصرٍ تغزو فيه الأدمغة مواقع الإنترنت والأبحاث المعلّبة والتي تشبه مطاعم الوجبات السريعة في اكتساحها أمعاء المواطنين. وما يميّز هذا المؤلَّف أن الباحث نجح أن يدمج فيه غِنى المثقف، من حيث عمق الإطلاع وسعة الأفق، والتزام السياسي من حيث معرفة وجهته وطريقه، ورصانة المؤرِّخ من حيث منهج البحث ودقة التوثيق. وهي مواصفات يصعب عادةً التوفيق بينها. فالسياسيون يلوون عنق الحقيقة أحياناً، والمثقفون قد يكونون حالمين، فيما قد يكون المؤرخون جامدين في عرض الوقائع وتسلسلها، وخاصةً في تناول موضوع بهذا الشمول والإتّساع، يغطي كافة أصقاع الأرض، منذ نهايات القرن التاسع عشر وحتى أوائل القرن الحادي والعشرين. وكقارئٍ لهذا الكتاب، أودّ أن أشكر الباحث داود تلحمي الذي يقود قارِئَه في مجاهل ودروب مختلفة، بطريقة سلسة وممتعة، وفيها محطات استراحة كما لو كان في رحلة مشي يعرج خلالها ليستظل بشجرة بلوط أو يلوذ إلى جدول صغير للإستراحة، ثم يعاود السير في خط سيره الرئيسي، دون أن يفقد البوصلة. والكتاب شامل من حيث توقفه عند أهم المحطات في تاريخ تطور اليسار، إنطلاقاً من الجمعية الوطنية الفرنسية في بدايات الثورة الفرنسية، حين أُطلقت تسمية اليسار على الذين اعتادوا الجلوس إلى يسار رئيس الجمعية، وكانوا جذريين من حيث مطالبتهم بإزالة الملكية، مروراً بتشكيلات الأممية الأولى والثانية والكومنترن والرابعة، وتلاوين الشيوعيين والماويين، ومع محطات توقُّف عند الثورات التحررية ذات التوجه اليساري التي كانت سمة القرن العشرين في آسيا وإفريقيا، وانتهاءً بالتوجهات اليسارية المبنية على الخبرات المحلية، التي تشكِّل مزيجاً من التراث الوطني و"لاهوت التحرر"، مثل الحركة البوليفارية في فنزويلا، وحركة الساندينيين في نيكاراغوا، والتجارب العديدة الأخرى في أمريكا اللاتينية. إن هذا الشمول والتركيز يضفيان على الكتاب أهميةً إضافية، حيث ان قراءته تغني، ودون مبالغة، عن قراءة عشرات الكتب التي تناولت موضوعات مختلفة من فكر وتاريخ اليسار. وهو بذلك يوفر جهداً ضخماً، وخاصةً للأجيال الجديدة، التي لم تعايش عصر الإنتصارات الكبرى لحركات التحرر في القرن الماضي، كما لم تعاصر حروب التدخل والجرائم الأميركية لمنع تلك الإنتصارات. وعلى هذا الصعيد، وباختصار، فانه يمكن أن يطلق على الكتاب " أوديسة اليسار"، كونه يؤرِّخ لأهم تطورات تاريخ هذا اليسار. إن استعراض الكتاب بكل تشعباته أمر في غاية الصعوبة، ولكن يمكن، برأيي، التوقف عند المحطات التالية في بعض محتوياته: 1) ماذا نعني باليسار ينطلق الكاتب من نشوء مفهومي "اليسار" و"اليمين" تاريخياً، ولكنه يصل اليوم إلى صعوبة التوافق على تعريف عام شامل لمفهوم اليسار. فهو يتفاوت من مجتمع إلى آخر ومن فترة تاريخية إلى أخرى. ويورد الكاتب مثالاً صارخاً كيف انه، في الولايات المتحدة مثلاً، تطلق تسمية "الليبرالية" على يساريي الحزب الديمقراطي واليساريين عموماً هناك (ربما في مواجهة اليمين المحافظ)، بينما في معظم دول أوروبا، مثلاً، توضع "الليبرالية" و"اليسار" على طرفي نقيض، وخاصة "الليبرالية الجديدة"، وهو ما يقود إلى أن للمصطلح، فضلاً عن مدلوله التاريخي، مدلولاً زمانياً ومكانياً ومجتمعياً. 2) عدم تطرق الكتاب لليسار العربي أشار أكثر من متحدث في جلسة نقاش، عقدتها مؤسسة "مواطن" لعرض ونقاش الكتاب، إلى أنه لم يتطرق إلى تاريخ اليسار العربي. وهو ما اعترف به المؤلِّف وفسّره بأنه ناتج عن غياب المراجع الكافية، وهو مؤشِّر على جديته، حيث لا يريد أن يكتب "أي كلام". ولكن ذلك أيضاً مؤشر إلى ضرورة تشجيع البحث والحوار والكتابة حول تجارب اليسار العربي من معايشيها ومواكبيها. 3) الأنظمة الإشتراكية اليوم يورد الكاتب النجاحات الإقتصادية في بعض البلدان التي تحكمها أحزاب شيوعية اليوم، مثل الصين وفيتنام... الخ، ويرى أن الأنظمة الإشتراكية التي لم تنهَر بانهيار الإتحاد السوفيتي هي الأنظمة التي ارتبطت فيها الثورة الإشتراكية بحركة التحرر من نير الإستعمار. وبرأيي، انه يجب التعامل بتحفظ مع بعض النماذج القائمة اليوم، حيث هناك هجين إقتصادي/سياسي في بلدان تنحو منحى التطور الرأسمالي (وإن كان مقيَّداً) على الصعيد الإقتصادي، مع استمرار وجود حزب حاكم وحيد، أي وجود تعددية إقتصادية مع غياب التعددية السياسية، وهي تجربة جديرة بالمتابعة والرصد. ولكن، بالإستناد إلى استنتاجات الكاتب نفسه من التجربة السوفيتية، فإنه يستحيل الوصول الى مرحلة الإشتراكية الفعلية دون وجود ديمقراطية سياسية (شعبية) ومناخات من الحرية الحقيقية. 4) دور حركات مناهضة العولمة أعتقد ان تناول هذا الدور بحاجة إلى مزيد من التدقيق، حيث ان الحركات الجديدة في مناهضة العولمة ومنظمة التجارة العالمية ليست في كفة واحدة. فبعضها ربما يكون جذرياً، فيما قد يكون بعضها الآخر مدفوعاً ومموَّلاً كجزءٍ من العولمة لضمان عدم تفجر ونمو معارضة جذرية للعولمة. كلمة أخيرة وختاماً، أعتقد أن الكتاب يشكل موسوعة تُعنى بأهم تطورات اليسار ويشكّل إغناءً للمكتبة، ليس فقط الفلسطينية بل والعربية، ولا بد منه لأي بحث جديد في فرص تطوير دور اليسار، وخاصةً في فلسطين، حيث هناك إرهاصات وحوارات تعكس رغبات قاعدية جارفة لدى جمهور اليسار، ليس فقط المؤطَّر في ما اصطُلِح على تسميتها بالقوى الديمقراطية، ولكن من أصبحوا خارجها نتيجة الحالة الفئوية و...... التي أدت إلى تراجع اليسار إلى درجة تهدد بانتهائه. فالكتاب، باستعراضه لتجارب عالمية، وخاصة من أمريكا اللاتينية، يساعد في فتح آفاق غير تقليدية للعمل السياسي تقوم على استلهام التراث الثوري المحلي، وربطه ببرامج تغيير تتطلع نحو المستقبل على قاعدة إئتلافات مرنة وواسعة تتفق على ما هو جوهري وتستطيع التعامل مع اختلافاتها بطرق ديمقراطية، تصحِّح التاريخ الإنشقاقي للحركات اليسارية الفلسطينية، وخاصةً إذا ما تم إدراك استحالة تعبئة مساحة الفراغ الواسعة بين "فتح" و"حماس" في الساحة الفلسطينية بإطار سياسي واحد، حيث من المرجح نشوء ثلاثة إئتلافات على الأقل، تمثِّل البرجوازية الوطنية والقوى اليسارية والقوى ذات التوجه القومي. وفي المحصلة، فإنني أشجّع القوى اليسارية الفلسطينية على نقاش الكتاب في قواعدها، وجعله مقرراً لعضويتها الجديدة إذا أرادت أعضاء لديهم فكر وعمق سياسي. ـــ * هذه المراجعة هي صياغة لتعقيب قُدّم في ندوة نقاشٍ للكتاب جرت مؤخراً في مقرّ مؤسسة "مواطن" في رام الله. وكاتبها ناشط سياسي ومدير مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان.
#عصام_العاروري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-أرض العجائب الشتوية-.. قرية ساحرة مصنوعة من كعكة الزنجبيل س
...
-
فيديو يظهر ضباط شرطة يجثون فوق فتاة ويضربونها في الشارع بأمر
...
-
الخارجية اليمنية: نعتزم إعادة فتح سفارتنا في دمشق
-
تصفية سائق هارب اقتحم مركزا تجاريا في تكساس (فيديو)
-
مقتل 4 أشخاص بحادث تحطم مروحية تابعة لوزارة الصحة التركية جن
...
-
-فيلت أم زونتاغ-: الاتحاد الأوروبي يخطط لتبنّي حزمة العقوبات
...
-
مقتل عنصر أمن فلسطيني وإصابة اثنين آخرين بإطلاق للنار في جني
...
-
بعد وصفه ضرباتها بـ-الوحشية-... إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب
...
-
أكاديمي إسرائيلي: بلدنا متغطرس لا تضاهيه إلا أثينا القديمة
-
كيف احتمى نازحون بجبل مرة في دارفور؟
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|