منذ أكثر من عشرين عاماً، اطلعت في ــ في ملحق الثورة الثقافي ــ بدمشق علي ترجمة مقتضبة لحياة غيوم أبو للينير الشاعر الفرنسي الشهير وشعره، ولاسيما قصيدته ــ جسر ميرابو التي يقول فيها:
تحت جسر ميرابو، يجري نهر السين
ويجري حبنا
أينبغي أن أتذكر
كان الفرح دائما يجيء بعد الألم
يأتي الليل يحين الوقت
تمضي الأيام
أبق
لنبقَ يداً بيد، وجهاً لوجه
بينما
تحت جسر أذرعنا، تمر
(الموجة المرهقة من النظرات الأبدية..)
وكان لهذه القصيدة تحديداً صدي خاصاً في نفسي، ربما من جراء الشغف الذي كان ينتاب معظم أبناء جيلي آنذاك لكل ما هو جديد، يؤسس للحداثة الشعرية، ويفتح لنا في كل مرة نوافذ علي عوالم هي أقرب إلي الذات.
ولقد ظللت أحلم بأن يقع بين يدي كتابٌ مطبوع، يتضمن ترجمة لبعض نتاجات هذا الشاعر، ويسلط الأضواء علي حياته، بيد أنني لم أكن أجد غير نتف وشذرات من إبداعاته، منثورة هنا وهناك، تكاد ألا تشفي الغليل، وألا ترضي النفس.
وربما أن هذا الحلم، تحقق، ولكن متأخراً ــ كما يبدو لي الآن بعد أن قام كل من حنا الطيار ــ جورجيت الطيار بترجمة ــ ديوان: الرقيب الكئيب، وهو أحد الدواوين الثلاثة، المطبوعة بعد رحيله، والتي تحتوي علي القصائد المتناثرة التي لم تطبع من قبل.
ولد غيوم أبو للينير ــ كما جاء في مقدمة ــ الرقيب الكئيب ــ والمستقاة من موسوعة لاروس العالمية، في روما 1880 ــ كثمرة لعلاقة عاصفة قصيرة بين ابنة نبيل بولوني مهاجر هي (أنجيليك دي كوستروفنسكي) ونبيل إيطالي هي (فرتشكو داسبرمون).
ولقد حدث، أن تخلي والده عن أمه في العام 1885، أي بعد مرور خمسة أعوام علي ولادته، لتستقر أمه في مونت كارلو، وتعصف بهما الرياح، ويدفعا الضريبة غالية، ويتابع دراسته في (كان ومن ثم في نيس).
وأنجيلك الأم التي لفظها المجتمع، نتيجة خطيئتها التي لم تكن تليق بمكانتها الاجتماعية، بدأت تتمادي بعدئذ في اقتراف الخطايا، لتنصرف إلي المقامرة، الأمر الذي يؤثر في نفس وليدها علي نحو واضح ويغير مساره الحياتي تماماً.
إذ لم يستطع غيوم أن يتجاوز واقعه الفاسد، ويترفع عنه، إلا من خلال اللجوء إلي عالم الكتابة، إذ استطاع من خلال هذا العالم الشروع بتكوين نفسه، وتعزيز ثقته بالحياة، وإيجاد موطئ قدم لنفسه، كي يستبدل خوفه من المستقبل بالخوف من الماضي، والبرهة، ولكي يظهر كل هذا في كتاباته.
ولقد كان عليه أن يناضل كثيراً، لكي يحصل علي الجنسية الفرنسية في العام 1916، لا لأنه ثمرة فضيحة، بل لاختلاف جنسية أبوالريح/ تلقيت هذا الصباح قصيدتك النبيلة/ وأعدت قراءتها عشرين مرة/ أحملها كما هي .
وإذا كان ضيقُ ذات اليد، قد دفع بالشاعر إلي أن يمتهن الصحافة، إلا إن الصحافة لم تمتهنه، ذلك لأنه استطاع أن يكتب في مجالات كثيرة، إذ بدأ يؤسس للنقد الجديد، ويدافع عن رؤيته الأثيرة، ويكتب مسرحية أعداء تيريزيا بعد تسريحه من الخدمة العسكرية، إثر إصابته بشظية، وهو في كل هذه الميادين يبدو متمكناً ذو ثقافةٍ شاملة، وموهبة أكثر وضوحاً.
نشر غيوم معظم نتاجاته الأولي في الصحف والمجلات المعروفة في عصره ليصدر في ما بعد كتبه علي التوالي إذ جمع قصصه في العام 1909 تحت عنوان الساخر الفاسد ثم ظهر كتابه صاحب البدعة 1910 والشعراء المذبوحون 1916 .
وليصبح أحد أعلام عصره، علي الرغم من الفترة القصيرة التي عاشها، بل وان يتوسط عصره كالعنكبوت وسط نسيجه كما كان يري وأنه كان يكفي أن يكتب غيوم أبو للينير قصيدة ليولد الشعراء، وأن ينشر كتاباً مثل مجموعته ــ كحول ــ لكي يتخذ الشعر في عصره اتجاهاً جديداً، كما قال عنه فيليب سوبو .
إن حرمانه من أن يرفل بالنعمي، في ظلال أبيه النبيل منذ نعومة أظافره، وبقاءه قرب أمّه التي تفردتْ بتغذية روحه بادئاً بصياغة الأسئلة الطفولية الأولي، كان ذو تأثير بالغ في نفس الشاعر والكاتب الذي كان شعوره الرهيف تجاه الأنثي علي نحو مدهش من الغموض الذي يجمع بين الإقدام علي عالم الأنثي بشكل مثير، والإحجام عنه، بالطريقة نفسها متوزعاً بهذا بين حب وكره، وإقبال وإدبار، تأجج وتردد، هيام ونفور!!!
ألا أخبريني يا حبيبتي
هل تحبينني حقاً؟
إذا ليلمع علي جبهتينا نجم في السماء
هل تحبينني حقا؟!
إذا فلأجأر بذلك في ظلام الليل!!
لقد كان غيوم يتعامل مع مشاعره ونفسه إزاء المرأة بمازوكية غربية، فالمرأة هي ضالته، يرصد لها مساحات روحه، وقصيدته، بيد أنّه يتركُ دائماً مسافة الأمان بينه وبين المرأة، يطيّر عصافيرها من فوق أغصان لحظته ليبكي ضحكة تلك المرأة، ورائحتها، ويدمي برهته بالحنين والتوق المستمرين بعد فوات الأوان:
غبطةٌ حزينةٌ رائعةٌ
أن أقيم علي حبَّ الحبيب الذي خان عهدي
يا قلبي يا كبريائي
أعلم أني الملك الذي ما أحبته قط
الفاتنة ذات الشعر الذهبي
لذلك، فإننا نجد نساء كثيرات كـ: آني بلايدن ــ ماري لورنسان لويزدي كولينبي ــ مادلين باجيس ممن وقع في شراكهن، وتركن آثارهن علي روحه، ودمه ليتزوج أخيراً من جاكلين كولب في أيار 1918، إلا أن سعادته بهذا الزواج لم تستمر للأسف:
أنا إنسان أبله مجنون
لأني متيم بمن لا تقيم لحبي وزناً
لأن قلبها مشغول بحبٍ آخر
وأنا أركع أمامك خاشعاً
القصيدة تأريخ شخصي:
لقد كان غيوم دائماً صدي نفسه، شغوفاً بالتجديد، إلي جانب عددٍ من أصدقائه الأكثرين كـ: بابلو بيكاسو ــ بيد أنه كان لا يقطع جذوره التراثية البتة، لأنه كان يبقي بعض العناصر التقليدية في كتاباته رغم شغفه بالتجديد.
يقول أدونيس: لم يرفض ــ غيوم ــ مثلاً التراكيب القديمة، والإيحاءات الأسطورية، والتوراتية، واستمر يفيد من زابيليه، ومن فيرلين، كما يفيد من هوغو وسندرازو.
وكافح فنياً إلي جانب القائلين إن من واجب الفنان أن يعبر عن الحياة الجماعية، ودافع كذلك عن التكعيبية، والمستقبلية، ومع انه أراد أن يكون شاعراً جديداً، شكلاً ومضموناً، فإنه في كتاباته وريث لراسين ولافونتين. وعلي الرغم من أنه هو الذي، ابتكر كلمة (السوريالية) فإنه يبقي أكثر قرباً إلي (فيون) منه إلي (تزارا) أو (الفرد جاري).
ولعل غيوم كان يدرك أهمية خطابه، إذ كان معتداً بنفسه، عارفاً فحوي حلمه، وهو بهذا صاحب رؤي، بل أن لكتاباته ثمة دعائم وأساطين يثبتها هو كما يرغب، يقول:
(كل قصيدة كتبتها كانت تسجيلاً للحظة من لحظات حياتي)، لذلك، فلقد عني بكل ما هو حوشي، ومهمل في الحياة اليومية، بل إنه نبذ المفردات المستهلكة، والموضوعات المتميزة، التي كان يلجأ إليها مجايلوه. إنه بلا منازع، شاعر اللحظات الهاربة، يقتنصها كصياد بارع، يبعث في ثنياتها شيئاً من روحه، ويغذي أوردتها من دماء خافقة، وإن تلك الومضات الشعرية ابنة اللحظات الدقيقة، تماماً، هي عالم غيوم، لا يملُّ من رصدها بكاميراه، وهذا ما يكفل لها ديمومة الدفء، ويمنحها سطوة التأثير الأبدي في متلقيها:
أيّها الزمن
أيُّها الطريق الوحيد
بين نقطة ونقطة
لو يترك لي أن أفعل لغيرت قلوب الناس
فلن تجد في كل مكان إلا كل شيء جميل
إن قصيدة غيوم هي ليست صورة لأحداث عصره الساخنة، بل هي بداية التأسيس للقصيدة التي تؤرخ للذات، ويستبد بها النزوع للمغاير، الذي يشبه هذه النفس، والمختلف عن الجحيم الذي يخيم دخانه علي كلّ الأمكنة مشوباً برائحة الدماء، وشواء الأجساد:
إن أردت يا حبيبتي مشينا في الدروب
وعلي وقع خطانا تطير العصافير مذعورة!!
أجل، إن عالم أبو للينير خاص، وفريد، فهو علي الرغم من تفانيه في الحياة العسكرية، يه، ضمن معركة ترسيخ قدميه علي أرض الواقع المجحف بحقه، إلا أنه كان في قراراته يدين الحروب، جملة وتفصيلاً، وبكلّ وضوح، وجرأة، لأنها لا تبقي إلا علي الدمار والخراب.
جاء الكسحان والعميان والعرج والمشوهون
وجاء حتي الرهبان
وبعض الرجال المتأنقون
أما خارج الساحة فكان الموت يسيطر علي مدينة
أصبحت بلا روح ولا حركة
والشاعر علي الرغم من بعض حالات التشاؤم واليأس التي لا بد أن تتولد في نفسه أحياناً، تحت وطأة أصوات مدافع الحرب، ورائحة دخانها التي ظللت سماء العالم برمته، يظهر لنا روحاً إنسانية، تواقة إلي الحرية والسلام أيضاً:
ولو يترك لي أن أفعل
لاشتريت كل عصافير الأقفاص
ورددت لها حريتها
لأراها تعانق طيرانها بفرحٍ عظيم
وهو عندما يلتقط لنا صوراً فوتوغرافية عن اللحظات الذاتية التي لا تتم إلا نتيجة براعة، ومخيلة متجنحة، ومحلقة عالياً، فإنه يدرك تماماً وظيفة الفنان الملتزم برصد الآخر في أقصي لحظات الألم والأمل:
والفنان الذي شاهد أسراب اللقالق
محلقة في الفضاء
رسم من وحيها لوحة للملائكة
التي ترتل الآن
إنها ألطف عذراء في المملكة
عاشت ورعة تقية علي ضفة الراين
وهي تصلي وتبتهل لصورة العذراء
أن يكون (غيوم) قد رسم بوحي من تقواه كمسيحي
أو من حبه كعاشق.
كذلك إننا نجد في شعر غيوم إشارات واضحة إلي مسألة الهروب من المدينة، كونها مسرحاً للعتمة، والضجيج، والفساد، وغير ذلك من مفردات طقس؛ لا تهنأ حياة شاعر استثنائي مرهف الأحاسيس في أجوائه:
كنت أحب أن آتي لأعيش في المدينة
لكني قرأت يوماً في كتاب:
إن الظلام يسود المدن دائماً
ولن تكون هناك شمس لأحدق فيها
لأن النسور وحدها تحدق في وجه الشمس
وبومة المساء تنعق في الظلام
وإذا كان الموت يشكل مصدر قلق ورهبة للإنسان منذ فجر التاريخ، فإنّ حالة من الكآبة، والرعب، كانت تكلل لحظة الشاعر، كلما تذكر شبح الموت الذي يقطع آخر الخيوط بالناس والورود، والمرأة، ليغير من معانيها، ونكهتها وصفائها:
والدود اللزج يترصدني
مع برد الامطار المنهمرة
وتحت التراب ستدفن جثتي
وتنبت أزهاراً سرعان ما تذبل
أزهاراً للعشاق
أزهاراً للموتي
إنه قدر الإنسان..!!
لقد طوي غيوم أشرعته، وهو أول مبحري جيله في أيمة التجديد، وذلك في 9 تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1918 من دون أن يبلغ عتبة الأربعين، بل دون أن يمضي أكثر من ستة أشهر علي زواجه من جاكلين كولب تاركاً بصماته ليس في الشعر الفرنسي، فحسب بل في الشعر العالمي برمته، وليجسد في حياته كما في فنه ضرورة ألا يرضخ المرء لأيّ واقع مستنقعي، بل أن يواجه كل المتاعب الحياتية بثقة بالغة، ورباطة جأش..وكونهما غير فرنسيين أصلاً.
ولعل إصراره علي إيجاد مكان لنفسه، كان وراء تفانيه إثر التحاقه بخدمة العلم، وجديته في تأدية الواجبات المترتبة عليه، الأمر الذي أدهش زملاءه نتيجة لما أظهره من سرعة انسجام مع حياة الجندية: أعمل سائقاً لعربة مدفع طويل/ وجيادي الأرجنتينية تسابق.