تناول العديد من المثقفين العرب موضوعة جدل الديموقراطية والتقدم في الاقطار العربية من خلال تحليل سياسات الايديولوجيات الشمولية التي سيطرت على الفكر العربي خلال النصف الثاني من القرن الماضي ، التي ذهب منظّروها – جميعا – الى ان الديموقراطية العربية هي منعطف التحولات الكبير للمجتمع العربي دون ان يقوم أي واحد منهم – او احزابهم التي يمثلونها – بتقديم المنهجية الفكرية السليمة لإخراج الديموقراطية من اطارها الاسطوري لكي تصاغ على اساسها مشروع النهضة المنشودة لتقدم مجتمعات الاقطار العربية .
وقد شعر مجموعة من الباحثين العرب بمسؤوليتهم الاجتماعية والفكرية بضرورة تأسيس مشروع للتنظير التأسيسي للمبادئ الديموقراطية الملائمة للمجتمعات العربية وآليات تطبيقها فيها ، فكان ميلاد ( مشروع دراسات الديموقراطية في البلدان العربية ) كمؤسسة – وقفية – تطوعية رائدة في اوكسفورد بلندن في صيف عام 1990 وتحمـّل هذه المسؤولية باحثان عربيان معروفان بالرصانة الفكرية هما علي خليفة الكواري ورغيد كاظم الصلح ، اللذين جعلا من هذه المؤسسة " ورشة عمل لتعزيز المساعي الديموقراطية في البلاد العربية " ولعقد الندوات منذ صيف عام 1991 " لبحث اشكالبات الحركات والاحزاب في البلدان العربية مع الديموقراطية ، واشكالية الديموقراطية مع بعض متطلبات ممارستها من قبل تلك الاحزاب والحركات " ومن ثم نشر الاوراق والنقاشات في كتاب مستقل. لاسيما بحوث ومناقشات الندوتين السادسة ( الحركات الاسلامية والديموقراطية ) والسابعة ( الديموقراطية والاحزاب في البلدان العربية : المواقف والمخاوف المتبادلة ) اللتين تحظيان باهمية متميزة من حيث عدد واهمية الباحثين والمتحاورين من جهة والبحوث المتميزة بالصراحة والشجاعة والتحليل الموضوعي ، من جهة اخرى .
وكان الباحث الاول والشجاع الذي تناول جدل الديموقراطية والتقدم في الوطن العربي بالنقد الموضوعي ، هو الكاتب اليساري السوري جورج طرابيشي في اطروحته ( الايديولوجية الثورية واستحالة الديموقراطية ) التي قدمها الى ندوة ( الديموقراطية والاحزاب في البلدان العربية ) عام 1997 . حيث اكد فيها الطرابيشي على " ان الثورية تقوم على اقصاء الاخر ، فكرا وممارسة ، بحجة حماية الثورة او الامن القومي . ومن هنا فان الثورية والديموقراطية فكرتان لا تلتقيان على الاطلاق ". ولذلك فان الطرابيشي – الذي تحدث عن تجربته الذاتية مع التيار الماركسي – رفض اساطير الخلاص للايديولوجيات الشمولية – العربية والاشتراكية والاسلامية – التي " فشلت سياسيا واقتصاديا وثقافيا فى كل تجاربها في انحاء الوطن العربي والتي اغتالت الديموقراطية من خلال ممارسة العنف والتصفية للاعداء والاستئثار بالسلطة مع اقصاء قوى اجتماعية وسياسية عريضة عن الساحة السياسية " . وهو عندما يتحدث عن الايديولوجيات الثورية العربية ويرفض اساطيرها في الخلاص واحلام يقظتها في اجراء التحولات من اجل التقدم والازدهار... للاستئثار بالسلطة مع اقصائها للاخر بعد اتهامه بالرجعية او التآمر او العمالة للاستعمار والصهيونية او تعاونة مع المعسكر المضاد ... فكأنه – بذلك - يصور نظام الحكم الساقط في العراق الذي كان تجسيدا لكل هذه المثالب بعد ان قام صدام حسين بتحويل سلطة حزب البعث الحاكم الى سلطة شخصية ( عائلية ) وعشائرية مع اقصاء الاخر نتيجة عدم الاعتراف بالوضع الاجتماعي للاخرين في دكتاتورية مقيتة تعتمد على خلق مجموعات منتفعة من خلال صعود طبقات تستخدم القومية العربية – رغم عدم ايمانها بها – لخدمة اهدافها ، مما ادى الى خلق قيم ومفاهيم جديدة في المجتمع العراقي تقوم على النفعية والمصلحية الذاتية والانغلاق ورفض الاخر من غير طبقتها . كما اطلق النظام يد الابناء والاقارب والخلاّن والمرتزقة وتلك الطبقة الصاعدة لتعبث بالبلاد ولتنهب وتغتصب وتسجن وتشرّد وتقتل ، بإسم الثورية والعروبة وحماية النظام . اما الاعلامي – المثقف فقد طردوا كليا من السياسة فاصبح ، معظمهم ذيلا تابعا – او موظفا لدى – الدولة التي عهدت به الى البروفيسور– وهو اللقب العلمي الرفيع الذي منحته جامعة بغداد لـ – الدكتور عدي صدام حسين لكي يتصرف به وبمصيره وقوته اليومي ، باعتباره – أي عدي – رئيس اتحاد الادباء ونقيب الصحفيين ورئيس النادي الاولومبي ورئيس مؤسسة تلفزيون الشباب ورئيس تحرير صحيفة بابل التي كانت تجلد الوزراء وكبار موظفي الدولة بسوط نقد الاهانة والتحقير والتخلف ... فقام بشطب إسم الف كاتب وشاعر من عضوية اتحاد الادباء العراقيين دفعة واحدة ( لانهم مرتدون ومنحرفون عن خط الحزب والثورة ) وسجن الاعلاميين بعد ان اشبعهم ركلا بالاقدام او ضربا بالسياط ، في سراديب النادي الاولومبي وغيره . في حين غاب في تلك السجون المفكر العراقي النابغة عزيز السيد جاسم ، ومات الجواهري الكبير والبياتي وبلند الحيدري كمدا وقهرا في بلاد الغربة ، بينما فقد نائب نقيب الصحفيين – أي نائب عدي – ذاكرته نتيجة التعذيب والاهانة في تلك السجون، وهو اليوم طريح الفراش في بيته .
ولهذا فقد انهى الطرابيشي ، اطروحته بالقول " فكاتب هذه السطور مارس مع كثيرين غيره – من ابناء جيله – اسطورة الخلاص الثورية ، ولكنه مصرّ في ختام رحلة العمر هذه ، على الاّ يمارس اسطورة الخلاص الديموقراطية ... لانها لغة طفلية ، بقدر ما هي مثالية في قراءة العالم . والحال ان الواقعية شرط لقراءة راشدة " ( ص 71 ) لايمانه بان مشكلة الخطاب الديموقراطي العربي تتجسد في عدم وجود المؤسسات الدستورية كما ان المعارضة صورية وغير فعالة ، اضافة الى ان الانتخابات غير حرة ومزيفة وان كافة انظمة الحكم تقصي الآخر ولا تعترف به .
في حين ينبري باحث جرئ آخر وفي الندوة نفسها ، للتصدي الى انتكاسة الديموقراطية في العالم العربي ، هو الناشط العراقي في مجال الديموقراطية والخبير الاقتصادي الدولي : الدكتور وليد خدوري ، رئيس تحرير نشرة الشرق الاوسط للتحليلات الاقتصادية MEES الصادرة في قبرص ، ولكن ليس فقط من جانب فشل الديموقراطية لدى الثوريين العرب وانما من خلال تفسير سبب ذلك الفشل الذي يعزوه خدوري الى " ان الحركات القومية كانت غير ديموقراطية ، في ممارساتها الحزبية الداخلية – البينية – وكذلك في الحكم اثناء تسلم السلطة ، نتيجة الانفصال المستمر ما بين الفكر والسياسة في الحركات القومية العربية وغياب الاطار النظري – الواقعي للامور المحلية والاقليمية في بنية الفكر العربي ، اضافة الى غياب المرونة والصراحة ... فعجزت عن بناء نظام اقتصادي ثابت ومستقر وناجح " ( 32 – 33 من كتاب الندوة الصادر عام 1999 عن مركز دراسات الوحدة العربية ).بينما يعتقد الباحث السوري الدكتور برهان غليون في تعليقه على اطروحة خدوري " ان الحركات القومية كانت غير ديموقراطية ، لأن الممارسة التاريخية والسياسية دفعتها لأن تكون كذلك . والمقصود بظروف الممارسة اولويات العمل الوطني ، ولذلك فانها عجزت عن بناء دولة المؤسسات والنظام الاقتصادي الثابت والناجح، فقد بقيت السلطة التي ظهرت – لقيادة تلك الحركات - تحت قيادة سلطة شخصية " ( ص 53 ) . غير ان الدكتور علي خليفة الكواري يرى بان مشروعه يسعى لبلورة مدلول الديموقراطية وليس تعريفها " لانه لا يوجد تعريف جامع مانع للديموقراطية ، وربما لم يوجد في يوم من الايام ولن يوجد في المستقبل . فالديموقراطية مفهوم سياسي يؤثر في المجتمعات التي تجري ممارسة الديموقراطية فيها وتؤثر المجتمعات فيه . ومن هنا ، فان المشروع يسعى الى مقاربة المفهوم وليس الى تعريف الديموقراطية " ( ص 12 ) .
واليوم ، نتساءل : كيف يمكن للعراقيين ان يقيموا صرح الديموقراطية الدستورية التوافقية في العراق الجديد ؟
قبل الاجابة على هذا السؤال المهم ، اود ان اؤكد ابتداءا بان العراقيين – في الداخل والخارج – الذين قاسوا من الدكتاتورية والذل والاغتراب طيلة ثلاثة عقود متوالية ، جديرون اليوم بالتمتع بالحرية وبممارسة الديموقراطية على اوسع نطاق لصمودهم امام هذه العاصفة الهوجاء المدمرة التي هبت على العراق في غفلة من الزمن . لاسيما وان جميع الوان الطيف السياسي العراقي قد اكدوا على ضرورة اقامة دولة المؤسسات الدستورية الديموقراطية في البلاد ، من خلال وضع الدستور الدائم للجمهورية العراقية الفيدرالية والاعتراف بالاخر من خلال تداول السلطة سلميا في انتخابات حرة ونزيهة والتمسك بعروة الوحدة الوطنية ، مع الاحتكام الى محكمة الدستور كقيد دستوري على حرية المشرّع وجهة الفصل في الخلاف . لان الاسس الرئيسية للنظام الديموقراطي تقوم على مبادئ متعارف عليها دستوريا : الشعب مصدر السلطات ولا سيادة لفرد او مجموعة من الافراد على الشعب ، والمساواة السياسية والقانونية بين المواطنين دون تمييز ، مع منح المواطن حق الاعلام وممارسته – بحرية – من خلال حرية الاعلام مع خصخصة وسائل الاعلام وعدم وضع الرقابة المسبقة على العملية الاعلامية ، ومبدأ الفصل بين السلطات مع سيطرة احكام القانون وشمول القضاء كل ما تطاله اوجه الاختلاف والاعتراف بالتعددية وبتداول السلطة سلميا في انتخابات دورية حرة ونزيهة ، شرط ان يتعلم الحاكمون كيفية الاعتذار للشعب عند ارتكاب الاخطاء .
وعندما يتم إرساء هذه المبادئ وتقوم المؤسسات الدستورية في البلاد يجب توفير الآليات التي تضع هذه المبادئ موضع التنفيذ لاقامة مجتمع متقدم ومزدهر في مشروع حضاري ينعم به الجميع والذي لا يمكن ان يتحقق – أي المشروع - الا اذا استطاع القابضون على السلطة ارخاء قبضتهم القوية والخانقة على الحكم لإشاعة مناخ صحي ، لكى تتطور فيه حركة المجتمع وتزدهر تياراته السياسية وتنضج فيه الافكار الحية لوضع آلياته – أي التقدم – وشروطه التي تتمثل في :
1 – توفير السلام الاجتماعي والاستقرار لتهيئة المناخ لنشوء الطبقة الوسطى التي تعد الركيزة الاساسية للديموقراطية في بلادنا .
2 – ممارسة الديموقراطية الشفافة والنقد الرؤوم بين الحكّـام والمحكومين بعيدا عن الثورية الغوغائية والكيل بمكيالين، وجعل النسبية الف باء الديموقراطية التي يجب ان تمارس بمرونة ووفق متطلبات الواقع .
3 – تحقيق التنمية الحضارية ( البشرية ) بالاعتماد على القدرة الذاتية وتراكم الخبرات والموارد المتوفرة .
4 – لا يمكن تحقيق الديموقراطية الا اذا توفرت الممارسة الديموقراطية من خلال ايمان السياسيين وقادة المجتمع المدني بأهمية الديموقراطية – ليس كعلاج ناجع لكل المشاكل وانما – كاسلوب في الحياة وفي النظرة الى الآخر .
5 – وضع الانسان المناسب في الموقع المناسب بعيدا عن العلاقات الشخصية او الطائفية او الدينية او السياسية .
6 – وضع الاطار القانوني – الاجتماعي لقيام مؤسسات المجتمع المدني ( النقابات والاتحادات والجمعيات والروابط والوقفيات ) لممارسة مختلف الصيغ الديموقراطية لخلق التراكم الحضاري وللتفاعل مع الاخر بروح المودة والتقدير والحوار المتميز لحل كافة القضايا الشائكة والخلافية .
7 – ترسيخ قواعد الشفافية من خلال النقد والمحاسبة والمساءلة في الشؤون العامة التي تهم المواطنين .
8 – يشكل اسقاط النظام ، فرصة ثمينة للعراقيين لوضع قيم حضارية جديدة لعراق الغد تحترم النفس والآخر وتقدس العمل ومصداقية التعامل والعلاقات والمعاملات التي تلتقي عليها الاكثرية ويضفي عليها المجتمع رعايته .