|
نقد المثقف الشيوعي.. فخري كريم نموذجاً.. الشيوعية السحريّة أو إعادة إعدام فهد (الجزء الثالث)
سلام عبود
الحوار المتمدن-العدد: 2244 - 2008 / 4 / 7 - 10:31
المحور:
في نقد الشيوعية واليسار واحزابها
3/5 الشيوعيّة السّحريّة: إعادة إعدام فهد
يقول عبد الرزاق الصافي: "ان التهجم على هذه المؤسسة ومؤسسها ورئيسها وعلى نشاطاتها، ومن بينها مهرجانها الثقافي، انما هو جزء من التهجم الظالم على العراق الجديد " لماذا؟ أحقا أن "العراق الجديد" على هذه الدرجة من الرخص والصغر؟ نعم، إنه كذلك. إن عراق اللصوص والقتلة والانتهازيين صغير كنفوسهم وعقولهم. في 27 نوفمبر 2002 كتب الصافي مقالة حماسيّة فنّد فيها آراء الشيوعي الصدامي المتأمرك عزيز الحاج، الذي اتهم اليسار الأوروبي ومعارضي الحرب كلهم بأنهم "عملاء صدام"، قال الصافي: " إننا نعتقد ان فرقا كبيرا بين أن تتفق اطراف المعارضة العراقية على مشروع وطني ديمقراطي للتغيير، وتطلب دعما خارجيا لتحقيقه من المجتمع الدولي ممثلا بالأمم المتحدة بما فيها اميركا، وبين ان تتولى الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا تحقيق التغيير عن طريق الحرب، وتعطي لاطراف المعارضة دور تهيئة الغطاء لهذه الحرب وتبريرها، رغم ما يمكن ان تحمله من اخطار وما تجلبه من دمار لا يعرف احد مداه وتسميه الثمن الباهظ الذي يمكن ان يدفعه شعبنا " ببعض الآلام" على حد تعبير عزيز الحاج" (صحيفة الشرق الأوسط، الاربعاء 27 نوفمبر 2002، مقالة: "ضد الحرب ومع اسقاط النظام بأيد عراقية") في منتصف ديسمبر 2002، أي بعد بضعة أيام فحسب على ظهور هذا الدفاع التاريخي عن استقلال الوطن إنسلّ الشيوعيون خفية تحت عباءة عرقية و" لبرالية" الى مؤتمر لندن للمعارضة، المنعقد برعاية المخابرات الأميركية تحت شعار "العمل الجماعي والموحد من أجل إنقاذ العراق وإنهاء محنة شعبه المريرة، وتجسيد الإطار المعقول لحل وطني عراقي يضمن سلامة الوطن واستقراره المستقبلي". قيادات الحزب الشيوعي تنكر هذا الفعل إنكارا تاما. لكن التاريخ يقول عكس ذلك تماما. قبل شهر واحد فقط على انعقاد مؤتمر لندن حدد الحزب الشيوعي العراقي، على لسان الناطق باسم الحزب في بريطانيا، صبحي الجميلي، موقف الحزب من الحرب والاحتلال بوضوح مطلق. شمل الموقف تحديد ثلاثة جوانب أساسية: الوسائل، والأهداف، والمبررات: " ندد الجميلي بسيناريوات الاحتلال والغزو والحكم العسكري التي وردت في وسائل الإعلام الأميركية. وندد بنيات واشنطن للهيمنة والسيطرة على المنطقة وثرواتها النفطية، وقال " التغيير مهمة جماهير شعبنا وقواه الوطنية وقواته المسلحة بقيادة تحالف واسع يستند الى برنامج وطني ديموقراطي ينطلق قبل كل شيء من تأمين مصالح شعبنا واستقلالية قراره السياسي" ( صحيفة الحياة، 12-11-2002) كان مؤتمر لندن المنعقد في 14-17 كانون الأول 2002 برعاية مباشرة وتمويل أميركي نقطة التحول الكبرى في مسار المشروع الأميركي. ففي هذا المؤتمر تم الإعلان الصريح عن حسم الخيار بواسطة الحرب وعزم القوات الأميركية على إدارة البلاد إدارة مباشرة، أي احتلاله. كان مؤتمر لندن هو اللمسة الأخيرة على قرار الحرب والاحتلال. يقول زلماي خليل زاد الرئيس الحقيقي لمؤتمر لندن على هامش أعمال المؤتمر: " الولايات المتحدة هي التي ستكون مسؤولة فعلا عن مصير العراق بعد سقوط صدام حسين، حتى لو تم وضع هذا البلد تحت الوصاية، لأن الأميركيين هم الذين سيحررون هذا البلد". ( راجع كتابي "من يصنع الديكتاتور" ص 202) في هذا التصريح الواضح يكذب زلماي إدعاءات القادة الذين شاركوا المحتل في الحكم، والذين يتظاهرون اليوم بجهلهم نيات أميركا وخططها. في هذا المؤتمر لم يعد مشروع الحرب والاحتلال مجرد "نيات" أو "سيناريوات" و" حملات إعلامية". لذلك كانت مسألتا الحرب والاحتلال نقطتي الخلاف والصدام الأساسيتين لدى بعض أطراف المعارضة العراقية. والسبب في ذلك يعود الى خشية هذه الأطراف من أن تتهم بالعمالة "السافرة" والمساعدة "المباشرة" في تنفيذ مشروع أجنبي يتعارض جوهريا مع الأسس النظرية والدعائية التي يقوم عليها نشاط هذه الأحزاب، يضاف الى ذلك تعارض فكرتي الحرب والاحتلال مع التراث الوطني العراقي ومع تراث بعض هذه القوى وماضيها، والأهم من هذا كله هو عدم مقدرة هذه القوى على تلمس ردود فعل الداخل على قضيتي الاحتلال والحرب، بسبب بعد هذه القوى عن المجتمع العراقي زمنا طويلا. وقد قاد هذا الأمر الى إعلان الحزب الشيوعي وحزب الدعوة "مقاطعتهما" ومعارضتهما للمؤتمر، وأيدتهما قوى ذوات ميول قومية عربية. كما أعلن إياد السامرائي، الأمين العام للحزب الإسلامي، موقفا مشابها: " هذه القوى ترفض الضربة الأمريكية ضد العراق". وقد سبب إعلان "النيات" الأميركية إحراجا وبلبلة حتى في أوساط أكثر القوى اندفاعا نحو المشروع الأميركي: البارزاني والطالباني والمجلس الأعلى للثورة الاسلامية. لذلك ظلت بعض الأحزاب، ومنها الحزب الشيوعي، تطيل الى أقصى حدّ ممكن خطابها السياسي الدعائي الرافض للحرب والاحتلال، واستمرت في المطّ الإعلامي حتى منتصف عام 2003. بين الدعوة الى اجتماع واشنطن (منتصف عام 2002) ومؤتمر لندن (14-12-2002) بضعة أشهر لا غير، لكنها كانت الأشهر الحاسمة في كشف المواقف والنيّات. كان جميع أطراف المعارضة يقرّون سرا بنظرية "خيار الضرورة"، لكنهم كانوا جميعا يمارسون سياسة إعلامية، تضليلية، قائمة على إنكار القبول بخياري الحرب والإحتلال. (يلاحظ القارئ هنا تهافت هذا العقل وسماجته التضليلية: حينما يكون الموقف المفروض على الذات من خارجها "ضرورة"، فإنه يكف عن أن يكون خيارا، ويغدو إجبارا وإملاء قسريا). وحتى أكثر القوى سفورا في موضوع القبول بالحرب والاحتلال لم تكن تجاهر بمواقفها علنا. على العكس كانت تبدي تحفظا، وأحيانا رفضا شديدا للحرب والاحتلال أو ما يعرف بتواجد قوات أجنبية على أرض العراق. وللتأكد من هذا الأمر نعيد أقوال أبرز حلفاء المشروع الأميركي. يقول المجلس الأعلى للثورة الإسلامية، على لسان حامد البياتي، أحد قيادي المجلس البارزين: "لم يكن هذا ما أخبرنا به(الاحتلال) لقد قال لنا إنهم يريدون حكومة عراقية بقاعدة عريضة دون دور أمريكي" و" لا يمكن لهم القيام بذلك.. فالشعب العراقي وكل فرد في الاقليم لن يقبل به (الاحتلال)" أما حازم اليوسفي عضو الاتحاد الوطني الكردستاني فيقول: " إن فكرة تواجد قوات أجنببية في العراق طرحت من قبل المسؤولين الأمريكيين كإحدى السيناريوهات المحتملة إلا أن مجموعته رفضت مبدأ غزو عسكري" وأضاف " لن تقبل المعارضة العراقية باحتلال أجنبي بعد كل هذه السنوات " ( سي أن أن العربية 12-10-2002) لكن حسن العلوي، منظّر مشروع الاحتلال ورئيس تحرير صحيفة المؤتمر، يقرر فجأة أن يهتبل الموقف الدعائي الكاذب الرافض للاحتلال والغزو، وأن يبتزّ حلفاءه، فنجده يقف علنا الى يمين المجلس الأعلى والاتحاد الوطني الكردستناني، معلنا أن إقصاء المعارضة من المشاركة في "عيد التحرير" خدمة إنسانية عظيمة يقدمها الأميركان للشعب العراقي: " إن الأمريكيين لا يرغبون أن يشاركهم أحد في عملية الإطاحة بالنظام العراقي، وإن ذلك في مصلحة العراقيين لأن النظام سيستخدم الأسلحة البيولوجية ضد العراقيين باعتبارهم خونة رحبوا بالاحتلال الأمريكي للبلاد". (بي بي سي العربية 28-7-2002) كان تحبيذ الغزو "المنفرد"، أو خصخصة الحرب، إشارات تكسبية تهدف الى إبعاد المنافسين الأقوياء، والاستفراد بحب الأميركان، وإشعارهم أنهم يملكون أعوانا مخلصين يستطيعون القيام بما لا يخطر على بال أو يصدقه خيال. كان الصراع المحموم والتكالب اللاأخلاقي من أجل كسب ثقة الأميركان وإثبات عمق روابط العمالة هما الميل السائد لدى أطراف المعارضة كافة، ولكن بطرق مختلفة ومتنوعة. كان الجميع يعمل على إقصاء الجميع وتحجيمهم من خلال التقرب الى الأميركان. كانوا على أتم الاستعداد لتقديم كل شيء في سبيل إثبات حسن النيات، بما في ذلك تقديم الوطن بأكمله مجانا للأميركان. وهذا هو السبب الرئيس ( إضافة الى انهيار النظام المريب والسريع) الذي جعل الأميركان يعدّلون خططهم على عجل، ويجردون المعارضة حتى من الحق الذي منحوه للمعارضة الأفغانية، ويؤخرون على الشعب العراقي حق التمتع بما تمتع به شعب أفغانستان: لويا جركا. في مؤتمر لندن بطلت الحجة المضللة التي ظل تيار "خيار الضرورة" يروج لها طويلا، والتي يلخصها أحد دعاة هذا التيار، غسان العطية، في مقالة أعادت نشرها الوكالة الشيعية للأنباء: " ما يشغل الإدارة الأميركية، إضافة الى الإعداد العسكري، هو البديل للمرحلة الانتقالية بعد التغيير. ويبدو أن الخيارات لا تزال مفتوحة أمامها: من حكم عسكري أميركي موقت، الى تشجيع انقلاب عسكري، الى تزامن الهجوم العسكري الأميركي مع تمرد عسكري عراقي يطيح صدام حسين ويفتح المجال لقيام حكومة عسكرية عراقية مؤقتة". بعد بضعة أسابيع من تلك التصريحات الرافضة وقف الطالباني علنا في مؤتمر لندن وقال بطريقته الفكهة، المبكية: "القضية تم تدويلها، ولنا الحق بالمطالبة بدعم دولي، ويجب ألا نخجل". ولم يقل له أحد: كلا، يجب أن تخجل. فلم تكن القضية لدى الشيوعيين قضية "خجل" من الاعتراف بشرعية الاحتلال. ولكن الأميركان كانوا، حتى ذلك التاريخ، لا يعترفون بغير ست قوى سياسية بناء على القانون الأميركي الخاص بتحرير العراق الصادر عام 1998 وما أضافته مداولات اجتماع واشنطن: الحزب الديمقراطي الكردستاني، والاتحاد الوطني الكردستاني، والوفاق الوطني العراقي، والمؤتمر الوطني العراقي، والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، والحركة الملكية الدستورية. وهي القوى التي دعيت الى مؤتمر واشنطن. أما القوى الأخرى، بما فيها التي شاركت في مؤتمر لندن سرا أو علنا، فلم يكن نصيبها سوى تقاسم دعوات حضور أعدها الأميركان، كان لكنعان مكية وحده شرف توزيع سبع عشرة بالمئة منها، أي ما يقرب من خمسين دعوة من مجموع ثلاثمئة، ( ثم زيدت الى ثمانين من مجموع ثلاثمئة وخمسين)، تم توزيعها على أشخاص تحت تسمية " مستقلين ولبراليين". (المؤتمر، العدد 238 ، 29-12-2002) وقد فُسّر ذلك التنافس بما لا يبتعد كثيرا عن الصورة التي كانت تُرسم في الخفاء بالقول إن الأحداث" التي جرت خلال الأربعة أشهر الماضية، كانت تؤكد ميل وإصرار ما يسمي مجموعة (الستة) إلي حصر المسؤولية بهم، وعدم السماح لقوى المعارضة السياسية الواسعة والشخصيات الوطنية العراقية المعروفة، بالتدخل بالشؤون القيادية للمؤتمر" (جريدة الزمان- العدد 1387 التاريخ 2002 - 12 - 15/14) وفي اليوم الثاني للمؤتمر أعلنت سي أن أن العربية أنّ القوى التي "نظمت المؤتمر سبعة فصائل تتلقى الدعم المالي والسياسي من الولايات المتحدة، فيما قاطعته فصائل اخرى احتجاجا على التدخل الأمريكي". ولا يُعرف من هو الفصيل السابع، وهل كانت سي أن أن مخطئة في الحساب! كانت محاصصات مؤتمر صلاح الدين - الجنين الطائفي والعرقي لتحاصص السلطة اللاحق- أكثر كرما مع القوى السياسية من خارج تحالف "عصابة الستة" أو "السبعة"، على الرغم الوعود التي قُطعت للبعض من قبل القائمين على المؤتمر والقائلة " ان مؤتمر لندن سيتجاوز ما كان مقررا في مؤتمر صلاح الدين، الذي أقرّ النسب التحاصصية التالية: 120 من الشيعة, 75 من الاكراد, 15 من التركمان, 8 من الاشوريين, 21 للمؤتمر الوطني وحركة الوفاق والملكية الدستورية, 32 من المستقلين, 33 تنظيمات اخرى". وحتى بعد الاحتلال لم تتوقف خلافات أطراف المعارضة التنافسية الرامية الى كسب ودّ وثقة المحتلين وتقديم التنازلات. وقد ظهرت هذه الخلافات في مؤتمر الناصرية، الذي قاطته الأحزاب الشيعية كحزب العمل الاسلامي والمجلس الأعلى بحجة رفض تنصيب قائد عسكري أميركي حاكما على العراق. لكن الخلافات الحقيقية كانت حول توزيع الغنائم وتوزيع درجات القرب والبعد من الحليف الأميركي، كما أثبتت الأحداث اللاحقة. في هذا المناخ المضطرب كان السلوك الشيوعي الدعائي الرافض أو المقاطع يرافقه ميل غامض سُجل من قبل المراقبين كافة. كانت هناك نشاطات معاكسة تجري سرا وعلنا في الوقت الذي كانت قيادات الشيوعيين تجاهر بـ " المقاطعة" ورفض الحرب وتبرر رفضها بالقول: "الحرب لا يمكن القبول بها من الناحية المبدئية والاخلاقية"، "الحرب ستعني الدمار والخراب في البلد ولا يمكن ان تاتي بالديموقراطية, للحرب منطقها وللحرب احكامها"، أمّا خطة الاحتلال فلم تكن " استجابة لطلب العراقيين وليست من اجل سواد عيون العراقيين انما هي تنبع من مصالح معينة خاصة للادارة الاميركية ذات بعد عراقي واقليمي وعالمي ". بهذه الكلمات النبيلة والمبدئية يؤكد حميد مجيد سكرتير اللجنة المركزية موقف حزبه وهو يتحدث الى صحيفة (الاتحاد) الناطقة باسم الاتحاد والوطني الكردستاني في 10-1- 2002 ، أي قبل مؤتمر لندن. ثم عاد مرارا الى تكرار تلك المبررات الأخلاقية والسياسية والايديولوجية قبل وبعد المؤتمر. في تلك الأيام كانت طائفة غير قليلة من الكوادر الشيوعية العاملة في مجال الإعلام تتجه الى المشاركة السريّة في التجمعات التي نظمتها اللجان التابعة للمخابرات الأميركية وبعض القنوات الغربية والإسرائيلية في مجالات الإعلام والاستطلاع والدعاية والترجمة ومراكز الابحاث وجمع المعلومات والرصد وتجميع العناصر وتوقيع البيانات. بعض هؤلاء ذهب الى غايته منفردا، وذهب البعض الآخر تحت واجهات جماعية مموهة كالمؤتمر الوطني أو فروع الحزب في المناطق الكردية أو ما يعرف بجماعات المجتمع المدني ومنظمات حقوق الإنسان. ولم يكن هذا الميل السلوكي، وليس اللفظي، موضع محاسبة أو نقد من قبل القيادات الرافضة للحرب والاحتلال. وهو ميل تركز في دائرة محددة على الأغلب، هي الدائرة الأكثر إلتصاقا برئيس مؤسسة المدى، الذي ظل يجاهر حتى اللحظة الأخير السابقة للحرب بمعارضته لها. يقول فخري كريم في مقابلة مع صحيفة الأهرام : "إنه ليس من مؤيدي الحرب, وقمنا بالمشاركة في المظاهرات التي جرت في أوروبا والعالم العربي, وأصدرنا بيانات ضد الغزو, كريم يكشف عن أنه سافر قبل نشوب الحرب إلي لندن, ونظم لقاء مع مثقفين عراقيين يدعو فيه إلي تجنب الحرب"( 12 ابريل 2003 العدد 123) ومع اقتراب موعد الغزو قررت الإدارة الأميركية فضح نشاطات عملائها السريين " المجندين"، بغية وضعهم أمام الأمر الواقع، وإرغامهم على تقبل صفاتهم المهنية والوطنية الجديدة من دون خشية أخلاقية أو اجتماعية أو نفسية. كان الأميركيون يهدفون الى أمرين محددين، أولهما: تجريد الأحزاب المتعاونة معهم من عفتها الكاذبة، التي يصر البعض على التمسك بها، كما هي حال عبد العزيز الحكيم، الذي قال بعد عودته من لقاء واشنطن " إن الإدارة الأميركية عرضت علينا خلال زيارة أخيرة الى واشنطن مساعدات مالية وتدريبية، كما عرضت علينا أموالا، لكننا كمجلس أعلى قلنا إننا لسنا بحاجة الى مال ولا سلاح وتدريب" (كتاب "من يصنع الديكتاتور؟" ص 212) وثانيهما: تجريد هذه الأحزاب من احتكارها لعمليات تجنيد الأفراد، وبدء مرحلة التجنيد الأميركي المباشر والعلني. مع اقتراب موعد الحرب أخذت أميركا تميل شيئا فشيئا الى الحلول المنفردة، جاعلة من قادة المعارضة مجرد واجهات قبيحة هدفها تبرير عملية الغزو وخلق ذرائع الإحتلال. ففي 20-10-2002, قبيل مؤتمر لندن بأسابيع، ذكر موقع (إسلام أون لاين- نت) نقلا عن صحيفة "واشنطن بوست" الخبر التالي: " ان وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) تعتزم تدريب 5 آلاف عراقي يعيشون في المنفى على القتال في شهر نوفمبر القادم 2002"، أي في الشهر ذاته الذي الذي عقد فيه مؤتمر لندن! ونقلت الصحيفة عن مسؤولين عسكريين أمريكيين قولهم "إن الرئيس جورج بوش وافق على تدريب هؤلاء العراقيين تنفيذًا لأمر سابق أصدره في الثالث من شهر أكتوبر 2002، وخصّص له مبلغ 92 مليون دولار من ميزانية البنتاجون." أما ( بي بي سي العربية) فقد نقلت في 16 -1-2002 عن صادق الموسوي، المتحدث باسم الحركة الملكية الدستورية في لندن، قوله لرويترز " إن العديد من العراقيين المنفيين بدأوا التجمع في دول غربية لنقلهم الى المجر للتدريب على إدارة شؤون العراق عقب الغزو الأميركي". وقال معارض آخر إن بعض المتطوعين العراقيين بدأو في التجمع في فورت بليس بولاية تكساس ويحتمل أن التدريب في مواقع عسكرية أميركية. وذكرت المصادر نفسها ان المتدربين "سيتلقون تدريبا في الترجمة والارشاد والاستخبارات والاتصالات". وقد نشبت مشادات عديدة بين أطراف المعارضة بسبب أن بعض المتدربين أخذ يذهب بعيدا في ولائه لمستأجريه الجدد، وأخذ يُخفي عن تنظيماته بعض جوانب نشاطاته، المالية خاصة، مما أفقد بعض الأطراف الحزبية مقدرتها على معرفة حجم المساعدات التي تتلقاها الأطراف المنافسة. أما الشيوعيون فقد مرت عليهم تلك الأخبار الثقافية والتنظيمة الخطيرة أخلاقيا ووطنيا، على حد تعبير حميد مجيد آنذاك، مرور الكرام. ومرت مثلها الأخبار التي أكدت أن الدورات المذكورة تولت مهمة إعداد الإعلاميين، والمستشارين، والجهاز الصِّدامي في مجال الدعاية اليومية، وقادة القطاعات الثقافية، وكان جلهم من الشعراء والكتاب والصحافيين والباحثين والفنانين الشيوعيين وبعض البعثيين السابقين. وبعد الاحتلال تم الكشف علنا على أن الأمر تجاوز حدود الأفراد الى الأحزاب والصحف والفضائيات ومراكز الأبحاث والجمعيات الثقافية والاجتماعية والمؤسسات الإعلامية وغيرها. كان هذا التيار يعمل بوجهين، الوجه الأول: المشاركة العملية الخفية, والوجه الثاني: التحريض الإعلامي والدعائي والدعوة الى المعارضة والمقاطعة اللفظية. وهو في ذلك يكسب الحسنيين: ضمان البقاء عمليا على مسافة قريبة من الخط السياسي الأميركي، والبقاء نظريا على مسافة غير بعيدة من القوى الداعمة للوجود الشيوعي "الخارجي": الأحزاب اليسارية الأوروبية والقوى العربية المناهضة للمشروع الأميركي. وقد ثبّت التقريرُ السياسي الصادر عن المؤتمر الثامن للحزب الشيوعي الموقفَ الرافضَ للحرب كمأثرة سياسية، في الوقت الذي كان الحزب يدرس ويطبخ في الخفاء سبل التغلب على الخشية من عواقب القبول بمشروعي الحرب والاحتلال، باعتباره إحدى القوى التي لها تاريخ طويل في "تأصيل" خطاب معاداة الحرب والاحتلال: "ان حزبنا يرفض خيار الحرب باعتبارها الخيارالاسوأ والاشد تدميرا وتخريبا. منطلقا من الاعتبارات التالية: - ان رفضه لها مبدئي – اخلاقي، ينطلق من واقع ما سيتعرض له شعبنا من اهوال في حرب شاملة ، تستخدم فيها الاسلحة الحديثة كبيرة التدمير ، ومن خسائر في الارواح قبل الممتلكات . فهي ستكون كارثة بكل معنى الكلمة على صعيد الحاضر، كما ستمتد آثارها الى المستقبل. " ولم يجد حزبنا في مؤتمر لندن للمعارضة العراقية ، ما يلبي ذلك ، فضلا عن انه جاء في وقت كانت تقرع فيه طبول الحرب ، لذا فانه لم يشارك في ذلك المؤتمر وما تلاه من مؤتمرات واجتماعات اخرى اعتبرت مواصلة له " بيد أن الواقع كان يفند ذلك كله. كان الحزب الشيوعي – ككيان وليس كأفراد فحسب- يلعب لعبة مزدوجة: معارضة الاحتلال والحرب علنا، والتنسيق سرا لايجاد موطئ قدم في المشروع الأميركي. وينكر الحزب الشيوعي هذا الازدواج إنكارا شديدا، لكن الوقائع تثبته تثبيتا لا لبس فيه. ففي مؤتمر لندن كان الحزب الشيوعي، الذي أعلن المقاطعة رسميا وعلنيا، ممثلا فرديا في عناصره التي سميت مستقلة، إضافة الى تمثيله الرسمي من خلال فرعه الكردي، الحزب الشيوعي الكردستاني، الذي حضر المؤتمر كطرف سياسي، ومثّله وألقى كلمته العضو القيادي فتاح توفيق فتاح. وينكر الشيوعيون أن يكون الفرع قد ذهب بالتنسيق مع قيادة الحزب. لكن حميد مجيد يثبت هذا التنسيق، من حيث لا يدري، في المقابلة التي أجرتها معه صحيفة (الزمان)، في العدد 1364 التاريخ 2002 - 11 – 14، أي قبل أقل من شهر من انعقاد مؤتمر لندن، حينما أكدّ أن الفرع الكردستاني لا يتخذ قرراته بمعزل عن المركز: " لديه ( الكردستاني) استقلالية فيما يخص الشؤون الكردستانية. لكننا في الإطار العام ما زلنا حزباً واحداً ونشترك في مؤتمر واحد هو مؤتمر الحزب الشيوعي العراقي. وثمة مؤتمر خاص للحزب الشيوعي الكردستاني وهناك مؤتمر موحد للحزب الشيوعي العراقي أيضا. وللكردستاني لجنة مركزية وللشيوعي العراقي لجنة مركزية يشترك بها الحزب الشيوعي الكردستاني بنسبة الثلث. وسكرتير الحزب الشيوعي الكردستاني هو عضو في المكتب السياسي للحزب الشيوعي ويحق للأعضاء الآخرين أن يرشحوا للمكتب السياسي فنحن نعقد مؤتمرات وكونفرنسات موحدة بالإضافة الى الكونفرنسات الخاصة بالحزب الشيوعي الكردستاني الذي لديه نظامه الداخلي وبرنامجه المعبر عن الخصوصية الكردستانية. إذن الاستقلالية في هذا المعنى، وليس استقلالاً منفصلاً عن الحزب الشيوعي العراقي. فنحن نعمل بانسجام جيد وتعاون لا سيما ونحن نضع سياسة عراقية موحدة للحزب كله." كان الحزب ممثلا في مؤتمر لندن، على الرغم من الإعلان الدعائي القاضي برفض المشاركة، لأن قرارات الحرب والاحتلال أعلى مراتب الـ " سياسة العراقية" لدى أي حزب وطني، بما فيها الحزب الشيوعي العراقي بفرعه الكردستاني ومركزه، وفق ادعاءات حميد مجيد نفسه. وقد شارك الحزب بطرق مموهة مماثلة في لقاءات للمعارضة المؤيدة للاحتلال. وبعد أيام معدودات من الاحتلال، أي في 25 -4-2003 ، حينما نضجت عملية تحاصص السلطة وأضحت قاب قوسين من الإشهار، اضطر الحزب الشيوعي الى إعلان مشاركته بسفور تام في مؤتمر مدريد، الذي دعا اليه وافتتحه أشد المتحمسين للحرب على العراق، رئيس وزراء اسبانيا خوسيه ماريا اثنار. في لقاء مع قناة (بي بي سي العربي)، على هامش اجتماع مدريد، قال صبحي الجميلي، الذي ندد إبان مؤتمر لندن " بسيناريوات الاحتلال" و "الغزو" و" نيات واشنطن للهيمنة والسيطرة على المنطقة وثرواتها النفطية": إن الهدف من لقاء مدريد هو دراسة "مستقبل الديمقراطية في العراق، تعزيز مؤسسات المجتمع المدني في العراق، ودستور البلاد المستقبلي، وضمانات الديمقراطية، وحقوق الإنسان والأقليات والمرأة، وعلاقات العراق مع العالم الخارجي. ". فجأة اختفت تعابير الاحتلال ونهب الثروة والغزو، التي كان الجميلي وغيره من السياسيين المغتربين يتغنون بها حينما كان وجودهم يحتمي باليسار والقوى الديموقراطية الأوروبية ويعتاش عليها. قبيل الاحتلال ببضعة أشهر، في 14-11-2002 ، في مقابلة مع صحيفة الزمان، وصف حميد مجيد المحتلين وصنائعهم المحليين بالكلمات البليغة التالية: " "حينما يسقط (النظام) بالقوة المسلحة المباشرة عبر الحرب الحديثة فلن تكون هناك ديمقراطية بل احتلال وإدارة عسكرية وهناك وهناك ما تراه اليوم في أفغانستان. وقرضاي اليوم يطلب قوات أمريكية لحماية قصره وسيارته سرقوها من باب بيته!" لم تمض سوى أشهر على هذا القول حتى رأينا بول بريمر يكشف في مذكراته أن شخصيتين قياديتين شيوعيتين قدمتا له في تلك الفترة الدعائية أوراق اعتمادهما، وقام شخصيا بمقابلتهما لدراسة سيرتهما والتأكد من حسن سلوكهما ودرجة تأهيلهما. والشخصان هما: السكرتير السابق للحزب عزيز محمد والسكرتير الحالي حميد مجيد. وبعد بضعة أسابيع فقط ( تموز 2003) أعلن الحزب رسميا اشتراكه في حكومة الإحتلال أو ما يعرف بمجلس الحكم، ممثلا في شخص سكرتيره العام. أما التبرير الذي قدمه المؤتمر الثامن لهذا التحول فكان على درجة عظيمة من فقدان السوية الأخلاقية والسياسية: " الرغبة العامة التي امكن تلمسها لدى منظمات حزبنا وفي أوساط جماهير أصدقائه ومناصريه، في ان يعتمد الحزب التعامل الايجابي في المرحلة الحساسة والمعقدة التي تلت التاسع من نيسان ، وألا يوفر أي ذريعة لمن يريدون الإيقاع به وعزله وحتى اضطهاده من جديد." بهذه الخطوة اتتقل الحزب دفعة واحدة من ادعاء الرفض "المبدئي والأخلاقي" القائم على الخشية من "عواقب الحرب المدمرة وأهوال الحرب الشاملة وعواقب الاحتلال المستقبلية على السيادة الوطنية" الى التعامل "الايجابي". لكن أكثر أجزاء هذا التحول خطورة لا يكمن في خرق الأسس الجوهرية الثابتة والتقليدية للمبادئ الشيوعية، التي ألزموا أنفسهم بها في خطابهم الدعائي، وإنما يكمن في إلقاء تبعية هذا التحول على عاتق قواعد الحزب " منظمات حزبنا" و" أوساط جماهير أصدقائه ومناصريه"، التي أدعى المؤتمر الثامن أنها مارست ضغطها على القيادة وجعلتها تحبّذ انتهاج خط سياسي جديد، ظلّ الحزب يصفه طوال حياته الطويلة بكلمة واحدة: العمالة! أي أن نهج "العمالة للأجنبي" – كما يحلو للشيوعيين تسمية خصومهم - كان من صنع القاعدة و"الجماهير". وهذا يعني أن القيادة لم تزل تحتفظ بـ "نظافة ذمتها" التاريخية ونقاوتها من تهمة "العمالة"، وأنها ضحّت بسمعتها التاريخية وشرفها في سبيل الاستجابة والامتثال "الايجابي" لإرادة الجماهير والأصدقاء والمناصرين. وكانت تلك واحدة من أطرف العجائب الايديولوجية لهذه القيادة. هذا السلوك هو الصورة النموذجية "لإبداعات" ما يعرف بنهج المدى، جرت ممارسته على امتداد العقود الأربعة الماضية بمهارة فائقة، أو بـ "إعجازية" وشيوعية "سحرية"، لو أردنا استلاف تعابير الشاعر عباس بيضون. في المؤتمر الثامن قرر حميد مجيد ومستشاروه الثقافيون الذهاب الى مقبرة الشهداء، واستخراج شهداء الحزب، وعلى رأسهم قائده التاريخي يوسف سلمان فهد، وإعادة إعدامهم من دون محاكمة.
#سلام_عبود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نقد المثقف الشيوعي.. قيادة (طريق الشعب): فخري كريم نموذجاً..
...
-
نقد المثقف الشيوعي.. قيادة (طريق الشعب): فخري كريم نموذجاً..
...
-
نقد المثقف الشيوعي ..مخيلة العنف، من النفسي الى السياسي وبال
...
-
نقد المثقف الشيوعي..فوضى اللغة والبواعث النفسية للعنف الثقاف
...
-
نقد المثقف الشيوعي.. من ديالكتيك ماركس الى جدلية رامسفيلد
-
نقد المثقف الشيوعي
-
محاكمة الأدب الفاشي عالميا
-
إنهم يصرعون الله بالضربة القاضية
-
تحالف الحكّام الشيعة والكرد: شراكة وطنيّة أم زواج متعة؟
-
عراقي في لوس انجلس .. الحلم الأميركي والكابوس العراقي
-
المذبحة الأخيرة على الأبواب: معركة كركوك
-
قميص بغداد!
-
الثقافة بين الإرهاب وديموقراطية الاحتلال
-
زورق الأزل! من أساطير عرب الأهوار في جنوب العراق
-
شهداء للبيع! البحث عن رفات الشهيد كاظم طوفان
-
من أوراق مثقف عراقي من سلالة اليانكي
-
حنين الى زمن أغبر! رد على نقد ثقافة العنف المنشور في صحيفة ا
...
-
مشكلة كركوك أم مشكلة الحرب على العراق؟
-
الجنس بين الرقيب الداخلي والرقيب الرسمي
-
من زعم أن العراقيين لا ينتحرون؟ - دعوة رسمية لحضور حفلة انتح
...
المزيد.....
-
السعودية تعدم مواطنا ويمنيين بسبب جرائم إرهابية
-
الكرملين: استخدام ستورم شادو تصعيد خطر
-
معلمة تعنف طفلة وتثير جدلا في مصر
-
طرائف وأسئلة محرجة وغناء في تعداد العراق السكاني
-
أوكرانيا تستخدم صواريخ غربية لضرب عمق روسيا، كيف سيغير ذلك ا
...
-
في مذكرات ميركل ـ ترامب -مفتون- بالقادة السلطويين
-
طائرة روسية خاصة تجلي مواطني روسيا وبيلاروس من بيروت إلى موس
...
-
السفير الروسي في لندن: بريطانيا أصبحت متورطة بشكل مباشر في ا
...
-
قصف على تدمر.. إسرائيل توسع بنك أهدافها
-
لتنشيط قطاع السياحة.. الجزائر تقيم النسخة السادسة من المهرجا
...
المزيد.....
-
عندما تنقلب السلحفاة على ظهرها
/ عبدالرزاق دحنون
-
إعادة بناء المادية التاريخية - جورج لارين ( الكتاب كاملا )
/ ترجمة سعيد العليمى
-
معركة من أجل الدولة ومحاولة الانقلاب على جورج حاوي
/ محمد علي مقلد
-
الحزب الشيوعي العراقي... وأزمة الهوية الايديولوجية..! مقاربة
...
/ فارس كمال نظمي
-
التوتاليتاريا مرض الأحزاب العربية
/ محمد علي مقلد
-
الطريق الروسى الى الاشتراكية
/ يوجين فارغا
-
الشيوعيون في مصر المعاصرة
/ طارق المهدوي
-
الطبقة الجديدة – ميلوفان ديلاس , مهداة إلى -روح- -الرفيق- في
...
/ مازن كم الماز
-
نحو أساس فلسفي للنظام الاقتصادي الإسلامي
/ د.عمار مجيد كاظم
-
في نقد الحاجة الى ماركس
/ دكتور سالم حميش
المزيد.....
|