|
الاشتراكية لعصر شكاك
عزيز سباهي
الحوار المتمدن-العدد: 125 - 2002 / 5 / 9 - 09:09
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
ليس أروع من أن يظل المرء حتى لحظاته الأخيرة متمسكاً بمثله في عصر تهتز فيه القناعات . أربعين عاماً ظل المؤلف ميليباند يدعوا لفكره الاشتراكي في الجامعات ، وفي المؤلفات التي وضعها أو اشرف على إصدارها، وفي المجلات والجمعيات التي أسهم في تكوينها .. وهو عارف أن هذا الذي يدعو إليه لن يتحقق في حياته، بل ويتطلب تحقيقه أجيالاً عدة .. ومع ذلك، لم تهن عزيمته .. وحين أدرك أنه يقترب من نهايته بادر إلى وضع مؤلفه هذا وراجعه وهو على سرير الموت ليصدر بعد وفاته بأيام .. فيا لروعة أن يواصل المرء عطاءه حتى بعد أن يسلم الروح . وأروع من هذا أن يصدر مؤلفه المفعم بالثقة بعدالة القضية التي نذر نفسه لها، وعلى أساس من وضوح الرؤيا ونزاهة في الحكم ووعي كبير بالمصاعب التي تعترض التحقيق في وقت يسود فيه الشك والقنوط والعدمية ليخرج بعد كل هذا بأن الآفاق ليست بالكآبة التي تشيع الآن . قبل ربع قرن كتب رالف ميليباند أن التشوشات والانقسامات والشكوك في صفوف الحركة اليسارية تدل أيضاً على الرفض الصحي جداً للإجابات السهلة على القضايا المعقدة، ولا يشك اليساريون الجادّون إطلاقاً في أن خلق ما يمكن أن يّدعى بمجتمع اشتراكي على نحو سليم معقد جداً في الواقع . ويعود الآن، وبعد كل الذي لحق بالاشتراكية من هزائم، بالإحساس نفسه بمسؤولية المناضل الصادق من أجل الاشتراكية والعالم الاقتصادي المدقق، ليطرح أفكاره بشأن الاشتراكية والسبيل الموصل إليها بروح سجالية جريئة لا تتردد عن نقد كل رأي خاطئ مهما كان مصدره، ودون أني توخى تقديم الإجابات السهلة التي فجرتها الحياة كفقاعات من هواء . يلاحظ ميليباند أولاً أن دعاة الرأسمالية، وأن كانوا يقرّون بنواقصها، إلا أن هذه النواقص كما يرون، ليست صميمية ويمكن علاجها في إطار النظام نفسه وهي على أية حال أفضل بكثير من أي بديل اشتراكي يتحقق، أو على تعبير فوكوياما : "الشكل النهائي لحكم البشرة" وأن لا بديل لها . كانت الحجة التي يتشبث بها هؤلاء، قبل أن يُجرب سلوك سبيل آخر غير الرأسمالية تتلخص في أن لا وجود لبديل .. وحين فشلت تجربة بناء الاشتراكية باتت الحجة أن الحياة برهنت على عجز أي بديل للرأسمالية .. لكن ميليباند يؤكدد خطأ هذه الآراء، ويرى أن "الديمقراطية الاشتراكية تشكل بديلاً ملائماً، ممكناً ومرغوباً فيه للرأسمالية والديمقراطية الرأسمالية" . وبلغة العالم المحقق يواصل القول : "وليس بإمكاني إثبات ذلك، إذ يجب أن يأتي البرهان على ذلك عن طريق بناء هذا البديل، والذي لم يزل مهمة تنتظر الإنجاز . ولكن غياب البرهان، أي عدم وجود مجتمع اشتراكي، تفوق بشكل واضح على المجتمعات الرأسمالية، والذي ساد الإدعاء بوجوده في وقت ما في الاتحاد السوفيتي والدول الشيوعية الأخرى، لا يثبت بحد ذاته أي شيء والاعتقاد بأن غياب هذا البرهان حاسم ونهائي يعادل القول بان أي شيء أفضل مما هو متاح الآن يقع خارج نطاق قدرة الجنس البشري . فهذا التقديس الأعمى لما هو قائم يمثل قمة السذاجة" . ثم يشرع في مناقشة الأمر . يلاحظ أولاً أن الاشتراكية نظام اجتماعي جديد يمتد تحقيقه لأجيال متتالية، وقد لا يتحقق بشكل تام ونهائي أبداً، بمعنى أن الاشتراكية تقتضي ارتقاءً دائماً بالأهداف التي ينطوي عليها تعريف الاشتراكية، ويحددها بديمقراطية تتجاوز إلى حد بعيد ما يمكن للديمقراطية الرأسمالية أن تقدمه، ومساوايتة ويحددها بتخفيف جذري لجميع مظاهر التباين وعدم التكافؤ التي تشكل جزءاً من تكوين الديمقراطية الرأسمالية، وتحقيق الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج . في الفصل الأول من كتابه يعمد ميليباند إلى الحديث عن تطور الرأسمالية منذ أن وضع كارل ماركس (رأس المال) 1867 ويلاحظ أن ماركس وانجلز رغم أنهما قد أثنيا على قدرة الرأسمالية على الإنتاج والتجدد إلا أهما لم يستطيعا تصور المدى الذي تستطيعه للبقاء، ومعروف تاريخياً أن الاشتراكيين الذين أعقبوا ماركس وانجلز وقفوا من تطور الرأسمال هذا موقفين متعارضين ، أولهما شدد على قدرة الرأسمالية على التكييف، وجر هذا الموقف الداعين إليه (برنشتماين وكارتسكي من بعد وأحزاب الاشتراكية ـ الديمقراطية) إلى التركيز على النضال لإدخال تحسينات ممكنة على الرأسمالية واعتقدوا أن هذه التحسينات ستؤدي مع مرور الوقت إلى تحويل الرأسمالية إلى نظام مقبول لكن هذه التحسينات التي أدخلت تحت ضغط الحركة العمالية والاشتراكية على اختلاف فصائلها سواء على أيدي الحكومات الاشتراكية الديمقراطية أو المحافظة التي اشترت السلام الاجتماعي بشيء من التنازلات لم تؤد إلى إلغاء السمات الأساسية، ويلاحظ المؤلف أن قوله هذا لا يبغي تشويه سمعة النضال من أجل الإصلاح أو ما حققه الإصلاح، وإنما يهدف إلى التأكيد من وجهة نظر اشتراكية على أن ما يطرحه الإصلاح يبج أن يدرج (في مشروع تغيير جذر) والمؤلف في هذا يتفق وما جاءت به روزا لوكسبورغ في ردها على أدورد برنشتاين وأصحابه . لكن المؤلف بتأكيده على أن الاشتراكية نظام اجتماعي جديد يمتد تحقيقه لأجيال متتالية إنما يرد على الوهم الذي داخل الحركة الاشتراكية بقرب انتصار الثورة الاشتراكية في العالم (ويقصد بها الدول الرأسمالية المتقدمة) والذي عززه انتصار الثورة البلشفية في روسيا وزعم قادة التحكم من بعد، أنهم حققوا انتصار الثورة الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي . تحت عنوان "مقاضاة الرأسمالية" يطرح المؤلف المبررات التي تدعو الاشتراكيين إلى النضال من أجل بديل جذري للرأسمالية ويلاحظ أن ما دُعي برأسمالية دولة الرفاة "تبقى مساحات واسعة من الحرمانات" وأن "تاريخ الإصلاح في ظل الرأسمالية يثبت أنه مجرد رد فعل جزئ جداً وخاضع لمنطق رأس المال ويتناول نوعاً مجدداً من المشاكل فقط" وأنه "من غير الممكن إزالة اللاإنسانية في النظام الرأسمالي" وبرغم ما تنبأ به المدافعون عن الرأسمالية فإن الفقر والمهانة والتشرد والفساد واليأس بقيت آفات تعاني منها الملايين، والرأسمالية مجتمع التفاوت الطبقي الواضح . وعلاقات الإنتاج فيها لا ديمقراطية بصورة عميقة . أن 10% من السكان في بريطانيا مثلاً ، كانوا يملكون 50% من ثروة البلاد برمتها عام 1993, وأن نصيب 75% من السكان هو 29% أن الدولة الرأسمالية ليست حيادية بين رأس المال والعمال . فالذين يريدون الدولة يميلون إلى الاعتقاد بان المصالح القومية ومصالح رأس المال تتفق بشكل تام ويتصرفون على هذا الأساس . أن المجتمعات الطبقية لا يمكنها التغلب على الصراع الطبقي، برغم أن هناك إمكانية لروتنة هذا الصراع، أي تسليم الطبقات الدنيا الخاضعة بموقعها ضمن النظام الاجتماعي القائم مقابل تنازلات معينّة، هامة أحياناً، لكن هذه الروتنة غير مستقرة ولا يمكن أن يتحقق في المجتمع الرأسمالي انسجام حقيقي . على خلاف مزاعم إيديولوجيي الرأسمالية، فأنها خلال الجزء الأكبر من تأريخها لم ترتبط بالديمقراطية بأي معنى من المعاني . أنهم يفهمون من الديمقراطية على أنها مجرد التنافس بين النخب السياسية من أجل الوصول إلى السلطة عن طريق الحصول على التأييد الشعبي في الانتخابات القائمة على التنافس . أن الديمقراطية، إذا ما فهمت لا بهذا المعنى الضيّق وإنما باعتبارها نظاماً يمنح "الناس العاديين" سلطة حقيقة في جميع مجالات الحياة التي تهمهم، فإن فكرة أن المجتمعات الرأسمالية ديمقراطية إنما هي من أساطير السياسة وليست واقعاً تعيشه هذه المجتمعات . ليس للديمقراطية حضور يذكر في عملية الإنتاج بشكل عام . والحقوق التي تنادي بها الديمقراطية الرأسمالية مهددة دوماً بالتآكل وحتى بالإلغاء الكلي . أن الرأسمالية نظام يقوم على العمل المأجور وبفضله يستولي مالك وسائل الإنتاج على الفائض الذي ينتجه العاملون لديه . لقد تشبعت جميع جوانب الحياة في المجتمعات الرأسمالية بروح ومبادئ الرأسمالية حتى أصبح هذا الشكل من الاستيلاء على الفائض يُعتبر "طبيعياً" ولا يكاد يثير أية تساؤلات، تماماً مثلما كان عمل العبيد طبيعياً في الأزمنة القديمة . أن العمل المأجور كعلاقة اجتماعية مرفوض أخلاقياً من وجهة النظر الاشتراكية لأنها قائمة على الاستغلال، ولأن هذه العلاقة بحد ذاتها تقتضي الخضوع والتحسن، الذي طرأ على ظروف حياة العمال الأجراء لا يجعلها مقبولة . أن الإصلاح الرأسمالي، مهما بلغت قيمته، يخفف فقط من الاستغلال والخضوع لكنه لا يلغيهما، وإذا وُجد من يُماثل بين الاستغلال البيروقراطي الذي تعرض له العمال في ظل الملكية العامة لوسائل الإنتاج في التجارب الشيوعية من جانب والاستغلال من جانب آخر . فأن هؤلاء مخطئون لأن الاستغلال الذي نشاء وينشأ في حالة الملكية العامة هو تشوه قابل للعلاج . ويؤكد المؤلف على الأهمية التي تعطيها الطبقات المسيطرة إلى الاتصال والإقناع وهنا، إذا كانت الأنظمة الشيوعية قد لجأت إلى السيطرة المباشرة لغرض الالتزام بوجهات النظر الرسمية حول أغلب القضايا . فأن الأنظمة الرأسمالية تمتلك تنوعاً استثنائياً في إنتاج ونشر الأفكار لترويج وجهة النظر الرأسمالية، أن الديمقراطية الرأسمالية تنطوي على التناقض، وأحد نتائج هذا التناقض الأستخدام التظليلي لوسائل الأعلام للدفاع عن النظام الاجتماعي القائم . ويناقش آثار الانتشار الكوني للرأسمالية وانعكاساتها على حياة شعوب العالم ويخلص إلى أن الغرب الرأسمالي سيلجأ إلى الأساليب الاقتصادية والسياسية والثقافية وحتى العسكرية من أجل جعل العالم مكاناً آمناً للرأسمالية تهيمن عليه الدول الرأسمالية الكبرى . ولن يولد نظام عالمي جديد حقيقي حتى تكف الحكومات الرأسمالية القريبة عن اعتبار الدفاع عالمياً عن الرأسمالية همها الأساسي . في الفصل الثاني والمعنون بالمطامح الاشتراكية يناقش المؤلف موضوعه البديل للنظام الرأسمالي ويلاحظ أولاً أن الثورة البلشفية في روسيا عام 1917 قد طرحت بديلاً . وقد وقفت المدارس الاشتراكية من هذا البديل موافق متباينة بين مؤيد ومعارض . أما أعداء الاشتراكية فأنهم يوجزون موقفهم على النحو التالي : أن أي بديل غير البديل المتمثل بالأنظمة الشيوعية السابقة لم يُعط في التاريخ . وهذا قد مات وانتهت معه الاشتراكية، ولم تتبق إلا في صورة نظرية طوباوية تجريدية , ولم يعد أمام البشرية من خيار سوى البحث عن الأنسب من بين النماذج الرأسمالية . وينظم الكثير من اليساريين إلى وجهة النظر هذه ويتساءل عن علاقة التجربة السوفيتية والتجارب الأخرى بالماركسية والاشتراكية، وهل يمكن توجيه اللوم للماركسية أساساً بشأن سلبيات التجربة . "أن توخينا الاتزان في التقييم يكون الجواب بالنفي بقدر ما يتعلق الأمر بالماركسية الكلاسيكية فقد نجد ضمن أعمال ماركس الضخمة ولاسيما في أعمال أنجلز بعض الصيغ المعزولة ذات نبرة مركزية وحتى تسلطية ولكن الوجهة العامة لكل ما كتباه تعكس ذلك بشكل حازم غير للالتباس كما لا يمكن العثور في كتاباتهما على تلميح إلى أي واحدة من أهم وأوضح سمات الأنظمة الشيوعية مثل نظام الحزب الواحد . التسلط على المجتمع من قبل حكومة ديكتاتورية قمعية ومنحى عبادة الشخصية الذي كان سيثير قرف ماركس وانجلز معاً . أما فيما بتعلق بالدولة فأن فكر ماركس بجوهره يعكس نفوراً عميقاً ربما مبالغاً فيه، من سلطتها، وإصراراً على خضوع الدولة التام بالمفهوم الاشتراكي لسلطة المجتمع، وقد كان انجلز هو الذي تطلّع إلى "اضمحلال سلطة الدولة" بعد الثورة الاشتراكية . "أما فيما يتعلق بالملكية العامة لوسائل الإنتاج فقد آمن ماركس وانجلز فعلاً بعمق أن الملكية العامة لوسائل الإنتاج تشكل القاعدة الأساسية لبناء المجتمع الاشتراكي . ولكنهما لم يقترحا وضع تنظيم الاقتصاد وأدارته والرقابة عليه في عهدة دولة جبارة تملي إرادتها على المنتجين وكل الآخرين . فماركس رأى ، على العكس ، أن أساس النظام الاشتراكي يجب أن يقوم على (الاتحاد الحر للمنتجين) . ويرد على القائلين بأن عواقب ونمط تفكير ماركس وانجلز وإيمانهما بالتنظيم الثوري والشامل سيؤدي في التطبيق إلى "شمولية" بالضرورة بغض النظر عن أقوالهما ونواياهما، بأنهم باختصار لا يأخذون في الاعتبار الظروف التاريخية التي يحصل فيها التطبيق رغم أن التغيير الاجتماعي الشامل ليس هيّناً ولا يصح تجاهل المخاطر التي سوف ترافقه حتى في أفضل الظروف . "لقد ادّعى قادة الأنظمة الشيوعية السابقة الإخلاص إلى تعاليم ماركس وانجلز، ويُحتمل جداً أنهم كانوا مقتنعين بهذا ولكن لا يمكننا أخذ الإدعاء أو حتى القناعة برهاناً على أي شيء . لقد تمت صياغة الخطاب والدعايات التي أنتجتها هذه الأنظمة وفق مصطلحات ماركسية اختيرت بدقة وعناية . أما الممارسة فتتنافى مع الماركسية الكلاسيكية" . أما بشأن علاقة التجربة الشيوعية بالاشتراكية فيذكر هنا أن الاشتراكية تُعرّف بثلاث نقاط ، وهي متساوية في أهميتها ومرتبطة جدلياً ببعضها : الديموقراطية والمساواتية وتشريك الجزء الأكبر من الاقتصاد . الاشتراكية مجتمع أكثر ديمقراطية بكثير مما يمكن لأي مجتمع رأسمالي أن يكون، وهي تعطي لمفهوم المواطنة معنى يتجاوز إلى حد بعيد حق الانتخاب الشامل والانتخابات الدورية والحقوق السياسية وفي الاشتراكية تنشأ مجتمعات تختفي فيها مع الزمن الانقسامات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية العميقة . أما بالنسبة إلى الفرضية الثالثة، التشريك، فهو شرط ضروري للوصول إلى الديمقراطية والمساواة . ولكن الأمر الجوهري هو كيفية إجراء التشريك في سياق رأسمالية تتحول أكثر فأكثر إلى رأسمالية متعددة الجنسيات، وينتقد ميليباند الاعتقاد شبه الديني بأن الاشتراكية تشفي من جميع العلل . وينتقد قول ماركس في (الايديوجيا الألمانية ـ 1864) من أن انتصار الثورة سيمكًن من تخليص الطبقة العاملة من كل أقذار العصور .. ويستشهد بقول ماركس في (نقد برنامج غوتا) ـ 1875 "لابد للمجتمع الشيوعي في مراحله الأولى أن يحوي الكثير من النواقص أثر ولادته، بعد آلام المخاض الطويل من المجتمع الرأسمالي" . ورداً علىالتي شاعت في الفترة الستالينية يقول "أن أي رأي جاد حول الاشتراكية ينبغي الآن أن يُسلم بحقيقة أن إقامة نظام اجتماعي جديد حتى في أفضل الظروف التي قل ما تتوفر، هو مشروع في غاية الصعوبة مليء بالخيارات الصعبة والتواترات العظيمة : لقد أمعن الاشتراكيون دوماً النظر في تناقضات الرأسمالية . وكانوا على حق في هذا، ولكن التجربة تبين ضرورة الاهتمام بالتناقضات التي تشكل جزءاً محتماً من المشروع الاشتراكي . يتناول الفصل الثالث آليات عمل الديمقراطية ويبدأ في التأكيد على صيغ الديمقراطية الاشتراكية ستختلف من بلد إلى آخر تبعاً لظروف وتقاليد البلدان . لكنه يؤكد في الوقت ذاته أن الكفاح لتوسيع الديمقراطية بصورة جذرية هو حق استمرار لنضال الأجيال الماضية لتحقيق هذا الغرض . أن الديمقراطية الاشتراكية يعطي مضموناً جديداً لما هو موجود بالإضافة إلى البحث عن سبل إضافية لإغناء معنى الديمقراطية . أن الدستوري في الديمقراطية ضرورة لحماية الحقوق الأساسية . لأن الديمقراطية الاشتراكية تقتضي ببساطة وضع قيود على أي شكل من أشكال السلطة بما فيها السلطة الشعبية ويشدد على فصل السلطات ويفترض أن الانسجام الإيديولوجي سيتكفل مع الوقت بإزالة مصادر النزعات الجادة بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية . ويعير اهتماماً جدياً غلى الحديث عن ديمقراطية المشاركة والعلاقة بين البيروقراطية وديمقراطية المشاركة . وبين الديمقراطية السياسية وديمقراطية المشاركة والأساس الاقتصادي لهذه الديمقراطية . ويؤكد أنه ما لم تحقيق التشريك المتزايد الاقتصادي فإن كل المحاولات لتطوير الديمقراطية تندرج في محاولة " " سير النظام الاجتماعي الذي تسيطر عليه الرأسمالية حالياً يكرس الفصل الرابع للحديث عن الأسلوب الاشتراكي في الاقتصاد ودور الدولة . أن الدولة سواء في الرأسمالية أو الاشتراكية تلعب دوراً أساسياً في الحياة الاقتصادية في الرأسمالية . تعمل الحكومات على إنقاذ الرأسمالية من تجاوزاتها على ذاتها في الوقت الذي تعمل على حماية "الاقتصاد الحر" ودعمه . كذلك تتدخل الحكومة الاشتراكية في الحياة الاقتصادية ، وبصيغ مختلفة، من أجل تحويل الاقتصاد وتحسين فعاليته والتخفيف من أوجه القصور الصارخة ، وأن لم يخل التدخل من الأخطاء أحياناُ . وأبرز أشكال التدخل هو التأميم . لكن هذا سيختلف عن التأميمات التي أقدمت عليها الأحزاب الاشتراكية ـ الديمقراطية التي جعلت من الشركات العامة ملحقاً مساعداً للشركات الرأسمالية. ويرد على الانتقادات التي توجه إلى القطاع العام استناداً إلى تجارب البلدان الشيوعية السابقة في كونها تشل روح المبادرة بفعل التوجيه المركزي، بأن القطاع العام الاشتراكي لن يدار بهذه الطريقة ومدراء مؤسساته تنطبق عليهم المخاطر نفسها التي يواجهها مدراء الشركات الرأسمالية والمسؤوليات التي تتطلبها . أما بشأن العولمة فأنه لا يرى فيها عقبة تقنية بوجه تشريك جزء هام من الحياة الاقتصادية في البلدان الرأسمالية لا يمكن تجاوزها . وفي كل الأحوال يتعين أن تكون الحكومة الاشتراكية بعيدة النظر وتنظر إلى التشريك كسيرورة طويلة الأمد تستمر لسنوات عديدة واعتماداً على خطط بارعة الإعداد وقليلة الكلفة . ويعير الانتباه إلى القطاع التعاوني ، وكذلك القطاع الخاص، الذي سيظل كبيراً ويتألف من شركات صغيرة ومتوسطة تلعب دوراً هاماً في توفير البضائع والخدمات ووسائل الترفيه، ويشدد على استقلالية مؤسسات القطاع الخاص في إدارة شؤونها الخاصة رغم ذلك لن يكون استغلال تاماً، أن الاشتراكية وأن كانت تتضمن التدقيق الرأسمالي إلا أنها تسير وفق خطة عمل رسمت ديموقراطياً ولتخدم أهدافاً تم تحديدها ديموقراطياً، وستتعرض المؤسسات العامة إلى رقابة النقابات والمجالس العمالية واللجان التابعة للهيئة التشريعية وجمعيات حماية المستهلك والصحافة .. ينبغي أن يتجه التأثير على "علاقات الإنتاج" من أجل خلق شروط تقارب قدر الإمكان ما أطلق عليه ماركس "الرابطة الحرة بين المنتجين" وستتولى السلطات الإقليمية والمحلية أمر شركات القطاع العام العاملة في مناطقها، لا سيما تلك التي توفر الخدمات ووسائل الراحة على أن يضمن أكبر قدر من مشاركة المواطنين وسيكون التخطيط المفضل لدى الحكومة الاشتراكية تحديد أهداف قطاعات أساسية مثل البني الارتكازية والخدمات والمنشآت العامة وعناصر أساسية في سيرورة الإنتاج بالإضافة إلى التأهيل والتدريب والتعليم والخدمات الأخرى، وستخضع هذه الأهداف دورياً إلى إعادة تقييم وتعديل . أن الفوارق بين الاقتصاد الرأسمالي والاقتصاد المشترك ليست اقتصادية بحتة . وإنما هي اقتصادية واجتماعية وسياسية وأخلاقية وتؤثر على نسيج ونمط حياة النظام الاجتماعي برمته . ولحل التواترات التي تنشأ بين المطامح الاشتراكية وإساءة استخدام السلطة يعتمد على تقييد هذه السلطة بضوابط مؤسساتية محددة، ويقظة هيئات الرأي والمواطنين المشبعة بفهم واضح للأخلاق المدنية المطلوبة من ذوي السلطة . ويكون للعمالة أسبقية عالية، كما سيكون الاقتصاد يقضاً تجاه الكفالة الاجتماعية لسيرورة الإنتاج، وسيخضع إلى رقابة بيئية صارمة والكف عن الترويج المحموم للمنتجات باسم الإعلان التجاري الساري في الرأسمالية . يناقش الفصل الخامس جمهور الانتخابات ودور الطبقة العاملة ووعيها ويرد على من يدّعي بأن وجود الطبقة العاملة كحقيقة موضوعية هو المنبع لتشكل وعيها الثوري ويرد على القائلين بأن الحزب هو الذي يجسد هذا الوعي بصفته الهيئة التي تحدد ما يجب على البروليتاريا أن تريد . ومع أنه ينبه إلى أن هذا المفهوم لا يطابق مفهوم ماركس عن الوعي ، إلا أن العلاقة بين الطبقة والوعي الطبقي هي أكثر تعقيداً مما توحي به صيغة ماركس، فإلى جانب الهوية الطبقية هناك هويات أخرى تهم الأفراد إلى حد كبير كالجنس والعرق والقومية والدين والشباب والشيخوخة والإعاقة والميول الجنسية والهويات المتعايشة في الوجود الاجتماعي تكتسب درجات مختلفة من الأهمية حسب الظروف . أن العلاقة بين الانتماء الطبقي للعاملين بأجر وبين توجهاتهم السياسية يمكن أن تتخذ أشكالاً تقدمية وكذلك رجعية ولكن يلاحظ أن العاملين بأجر يتجنبون الحركات الفاشية وهم بين أن يُدلوا بأصواتهم إلى جانب اليسار أو إلى جانب الأحزاب الدستورية المحافظة أو يبتعدون عن السياسة تماماً . و إذ يعالج المؤلف بشكل خاص الأوضاع في البلدان الرأسمالية المتقدمة يلاحظ أن "الحالات الثورية" لا تحدث هنا إلا في ظروف بالغة الاستثنائية . لقد بالغ ماركس كما يقول في تقديره لقوة العلاقة بين الموقع الطبقي والاتجاهات السياسية التي بين العاملين بأجر . لكن نقاد ماركس من جهتهم هذه العلاقة ولا يمكن للانتماء الطبقي للعمل أن يخلق وعياً يسارياً بصورة تلقائية، لكن الحاجة إلى التغيير مرتبطة عضويا بالطبقة العاملة بفعل ظروف عملها وأجورها والطبقة العاملة ليست هي المسؤولة عن قصور ما يحققه ضغطها . وإنما القادة اليساريون في الحكم أو المعارضة الذين يقننون المطالب ويحددون الشعارات . ويرد على الذين يدعون إلى التعويل على الحركات الاجتماعية بدلاً من الأحزاب بأن هذه الحركات لا تطرح أفقاً اشتراكياً .. ولكن مع ذلك ، فللتحالف مع هذه الحركات أهمية جدية . ويختتم الفصل بالرد على الذين يقللون من دور الماركسية ويقول أن من اللازم التمييز بوضوح بين جانبين من أفكار ماركس : الأول رؤياه للاشتراكية والشيوعية، وهي رؤية لم يتمكن أحد أن يبرزها لكنها تصوّر المستقبل البعيد جداً . أما الثاني فهو تحليل طبقي يكمن في قلب الماركسية، وله قيمة لا تضاهي في فهم المجتمعات الطبقية وصراعاتها . وبرغم ما يتوجب إدخاله عليها في ضوء التطورات التي حدثت بعده فأن الاشتراكيين الذين يحرمون أنفسهم من عون الماركسية يقعون في فقر شديد . في الفصل الختامي يتوصل ميليباند إلى أن المطالبة بالتغيير تنمو .. وإذا ما نجحت القوى الراديكالية الملتزمة في الوصول إلى الحكم فأنها ستُقابل بكثير من المشاكل . وستواجه الخيار بين التراجع أو المضي قدماً، وإذا ما اختارت السبيل الثاني فعليها أن تقرر وتحسن التصرف . أمامها طريقان : الاستمرار في المسيرة أو التوقف إزاء الصعاب، والتوقف يعني التراجع، والتراجع يعني تبني سياسات تحظى بموافقة القوى التي تعارض الإصلاحات الجذرية .. والتراجع يقود عادة إلى الهزيمة في الانتخابات العامة لاستياء الطبقة العاملة من هذه السياسات . والمطلوب هو الجمع بين التصميم والمرونة ، والحكومة التي لا تحظى بتأييد صلب داخل السلطة التشريعية، وتأييد شعبي قوي خارجها ستواجه المتاعب منذ البداية . ولا د لهذه الحكومة أن تحذو حذو الحكومات المحافظة فتشن حملة واسعة ومستمرة للإقناع منتفعة من كل الذين يتعاطفون معها من صحف وأجهزة إعلام يسارية وغيرها . والآفاق واضحة في النهاية: هناك أقليتان على الجانبين، أقلية شريرة مشوهة المشاعر يمكن أن تفرض على المجتمع سياساتها القائمة على التمييز والكراهية . وأخرى نشيطة تقاوم عملياً هذه السياسات .. والأمر يتقرر لمن يفوز بقلوب وعقول الجزء الأكبر من السكان .. لذلك ليست الصورة بالكآبة التي ترسم عادة ، أن المطالبة بضرورة التغيير الجذري في النظام الرأسمالي ستبرز للعيان، وهو ما يحصل الآن في عديد من البلدان، وتتنوع خصوصية المطالب وأشكال النضال تنوعاً كبيراً من بلد لأخر ، وليس هناك "نموذج" وحيد للتغيير التقدمي أو الثوري . وفي كل البلدان .. أناس تزيد أو تقل أعدادهم وتحركهم رؤيا تنشد نظاماً اجتماعياً جديداً تشكل فيه الديمقراطية والمساواتية والتعاون (وهي القيم الأساسية في الاشتراكية) المبادئ المسيّرة في تنظيم المجتمع "أن تنامي أعداد هؤلاء الناس وفي نجاحاتهم يكمن أفضل ما تتوخاه البشرية" . لقد ظل توماس كميينالا الفيلسوف الإيطالي يحلم وهو يقبع في سجون البابوية المظلمة ستة وعشرين عاما دون أن يفقد الأمل . أما رافق فالياند أستاذ الاقتصاد المدقق الذي عاش في الرأسمالية في أعرق مواطنها فأنه يرسم خطوط اشتراكيته التي ظل يبشر بها لأربعين عاماً في ضوء تحليل دقيق للواقع الذي عاشه وكابد شروره وواصل النضال فيه دون أن يستلم إلى اليأس وهو يرى أن حلمه هذا لم يتحقق في بلده الذي خرج منه (رأس مال) كارل ماركس قبل قرن وربع وتنهار من حوله التجارب "الاشتراكية" الأولى ينجاحاتها واخفاقاتها وتشويهاتها، ويطرح رؤياه في صورة برنامج شامل ومفصل وعملي سجالية ونقدية عالية لا تذعن لأية مسلمات، يجد فيه الذين يخوضون النضال من أجل الديمقراطية والمساواة والمتخلفة كثيراً مما يودون استيضاحه .
#عزيز_سباهي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هولندا: اليمين المتطرف يدين مذكرتي المحكمة الجنائية لاعتقال
...
-
الاتحاد الأوروبي بين مطرقة نقص العمالة وسندان اليمين المتطرف
...
-
السيناتور بيرني ساندرز:اتهامات الجنائية الدولية لنتنياهو وغا
...
-
بيرني ساندرز: اذا لم يحترم العالم القانون الدولي فسننحدر نحو
...
-
حسن العبودي// دفاعا عن الجدال... دفاعا عن الجدل (ملحق الجزء
...
-
الحراك الشعبي بفجيج ينير طريق المقاومة من أجل حق السكان في ا
...
-
جورج عبد الله.. الماروني الذي لم يندم على 40 عاما في سجون فر
...
-
بيان للمكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية
-
«الديمقراطية» ترحب بقرار الجنائية الدولية، وتدعو المجتمع الد
...
-
الوزير يفتتح «المونوريل» بدماء «عمال المطرية»
المزيد.....
-
الثورة الماوية فى الهند و الحزب الشيوعي الهندي ( الماوي )
/ شادي الشماوي
-
هل كان الاتحاد السوفييتي "رأسمالية دولة" و"إمبريالية اشتراكي
...
/ ثاناسيس سبانيديس
-
حركة المثليين: التحرر والثورة
/ أليسيو ماركوني
-
إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع
...
/ شادي الشماوي
-
كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات
...
/ شادي الشماوي
-
المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب -
...
/ شادي الشماوي
-
ماركس الثورة واليسار
/ محمد الهلالي
المزيد.....
|