شهد العراق منذ تولي الدكتاتور صدام حسين السلطة المطلقة إثر قيامه بإقصاء سيده البكر عام 1978 ،وشنه الحرب على الجارة إيران وتوريط العراق في حرب مدمرة عام 1980 دامت ثمانية أعوام وأزهقت فيها أرواح ما يزيد على نصف مليون من خيرة شباب العراق ،تدهوراً هائلاً وانهياراً في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والصحية والثقافية ، ولم يكد الشعب العراقي يتنفس الصعداء لتوقف الحرب عام 1988 ، حتى أقدم الدكتاتور صدام حسين على غزو الكويت ، وفي ذهنه أن الولايات المتحدة ستسكت على فعلته مكافئة له على الحرب التي خاضها ضد إيران نيابة عنها ، فكان أن أوقع الشعب العراقي في مطب أكبر وأخطر ، وكانت حرب الخليج الثانية التي دمرت البنية التحية العراقية ،وقواته العسكرية ، وفرضت الحصار الجائر الذي دام 12 سنة ذاق خلاله شعبنا الأمرين ، وأدى إلى انهيار بنيته الاجتماعية والاقتصادية بشكل رهيب .
وبسبب استمرار النظام الصدامي على نهجه السابق وتحديه لقرارات مجلس الأمن وللولايات المتحدة ، وإصراره على البقاء في السلطة ،وإدامة نظامه القمعي ، وإصرار الولايات المتحدة على إذعان الدكتاتور لمطالبها بترك السلطة ومغادرة البلاد ، وعناد الدكتاتور وتشبثه للبقاء في السلطة اتخذت الولايات المتحدة قرارها بالقضاء على النظام الصدامي وإزاحته عن السلطة بالقوة فكانت الحرب الأخيرة في العشرين من آذار 2003 ، والتي انتهت بسقوط النظام الصدامي في التاسع من نيسان بعد حرب دامت عشرين يوماً .
لكن نتائج تلك الحرب لم تكن إسقاط ذلك النظام القمعي الفاشي الذي نكل بالشعب أبشع تنكيل خلال 35 عاماً من حكمه البغيض ، بل أدت هذه الحرب إلى انهيار شامل لكل المؤسسات المدنية والعسكرية والأمنية ، وفقدان الأمن والنظام العام ، وانتشار المجرمين الذي أطلق سراحهم صدام قبيل نشوب الحرب ، بالإضافة إلى عصابات البعث في طول البلاد وعرضها ، وعملت على تخريب وتدمير وسرقة وحرق كل ما وقع تحت أيديهم ، فلم تسلم حتى المستشفيات والمدارس والمصانع ودوائر الدولة ومؤسساتها من عبثهم وإجرامهم .
وكان قرار سلطات الاحتلال بحل جهازي الجيش والشرطة بذلك الأسلوب الخاطئ والمتعجل قد فسح المجال لهذه الزمر المجرمة لتمارس جرائمها بكل حرية دون أن تخشى الملاحقة وتماديها في جرائمها التي وصلت إلى حد الاعتداء على المواطنين الآمنين واغتصاب ممتلكاتهم الشخصية ولم يتورعوا حتى عن قتل الكثير منهم .
وهكذا وجد شعبنا الذي يعاني أشد المعانات من أوضاعه المعيشية السيئة نفسه أمام معضلة أشد واخطر ، إلا وهو فقدان الأمن الذي أصبح هاجسه الأول ، وأصبح أبناء شعبنا يفكرون بالأمن قبل أن يفكروا بلقمة العيش .
وبسبب تلكأ قوات التحالف في ملاحقة وإلقاء القبض على أعوان النظام الذي تواروا عن الأنظار في بادئ الأمر خوفاً من الاعتقال ومن العقاب ، وجدوا بعد فترة زمنية قصيرة أنفسهم في مأمن من المطاردة والعقاب فخرجوا إلى العلن ، وأخذوا يمارسون أعمال التخريب والحرق للمؤسسات العامة ، ثم تصاعدت جرائمهم وتحولوا إلى أساليب جديدة وخطيرة ،حيث السيارات المفخخة وإلقاء القنابل والمتفجرات وقتل المواطنين ومهاجمة قوات الشرطة بحجة مقاومة الاحتلال ، لكنهم في واقع الأمر يبغون من وراء أعمالهم الإجرامية إعادة عقارب الساعة إلى الوراء ، وإعادة سلطة النظام المقبور بعد أن فقدوا كل الامتيازات التي تمتعوا بها في ظل ذلك النظام .
وهكذا أدركت قوات التحالف ، بعد أن أصابتها نيران هذه العصابات ،وأوقعت ولا تزال الخسائر في صفوف أفرادها كل يوم ،خطأ الموقف السابق ، وبادرت إلى شن الحملات العسكرية لملاحقة واعتقال هذه الزمر المجرمة التي تمتلك الخبرة العسكرية والأسلحة الكثيرة التي وزعها النظام المقبور والتي تقدر بثمانية ملايين قطعة سلاح، وامتلاك الأموال الضخمة التي تمت سرقتها من قبل النظام ، وفي أذهانهم حلم العودة إلى الفردوس المفقود .
ويخطئ من يظن أن هذه العصابات البعثية ضعيفة ولا تشكل مصدر تهديد ، بل هي اليوم وبعد فقدانها السلطة تمثل خطراً حقيقياً على مستقبل العراق ، ولا بد من عدم إتاحة أي فرصة أمامها للتمادي في أعمالها الإجرامية وملاحقتها وإنزال العقاب الصارم بها .
وفي ظل هذه الظروف الصعبة والمعقدة التي يمر بها شعبنا فإن المشهد السياسي الحالي يتسم بالتعقيد ، وتحف به المخاطر ، حيث بدأت تظهر بوادر انقسامات واستقطاب بين سائر القوى الوطنية ، وكل جهة تسعى للحصول على أكبر قسم من كعكة الحكم متجاهلين المخاطر المحدقة بنا من كل صوب غير مدركين أن الجميع في سفينة واحدة ، وإذا غرقت ، لا سمح الله فسوف يغرق الجميع .
إن المشهد الحالي يعكس لنا أن هناك انقساماً واستقطاباً للقوى السياسية الفاعلة في اتجاهات ثلاث :
الاتجاه الأول : ويضم القوى الإسلامية التي تهدف إلى إقامة دولة إسلامية تتخذ من الشريعة أساساً لسن الدستور الجديد ، وفي ذهنها أنها تمثل الأغلبية في البلاد ، وأنها هي المؤهلة لحكم البلاد .
لكن هذه القوى تضم تيارات مختلفة وطوائف متباينة ، فهناك الطائفة الشيعية ، والطائفة السنية ، وتضم الطائفة الشيعية حزب الدعوة المنقسم على نفسه من جهة والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية من جهة أخرى هذا بالإضافة لما يمثله أتباع مقتدى الصدر من جهة ثالثة وهذا الانقسام يقود بلا شك إلى التنافس والصراع بين هذه التيارات المختلفة مما يسبب في ضعفها ، هذا بالإضافة إلى التنافس بين التيار الإسلامي ككل والتيار العلماني من جهة أخرى والذي يعمق من أزمة الحركة الوطنية ويحد من نشاطها في استتباب الأمن والنظام ، وإعادة بناء العراق ، وإقامة نظام حكم ديمقراطي حقيقي يصون حقوق وحريات سائر أبناء شعبنا بمختلف أطيافهم وقومياتهم وأديانهم وطوائفهم .
أما الطائفة السنية والتي كانت في ظل النظام السابق تهيمن على الحكم ، والتي وجدت نفسها على حين غرة وقد فقد سلطتها ،أصيبت بالصدمة ،و بدأت ترتب شؤونها من جديد يحدوها الأمل في لعب دور سياسي في ظل النظام الجديد ، وبادرت إلى عقد مؤتمر يضم مختلف الاتجاهات ،وخرج علينا مؤتمرهم ببيان يعلن تأسيس [مجلس الشورى وأهل السنة ] ويضم الأخوان المسلمين والسلفيين وغيرهم من التجمعات الأخرى ، وهو ما يشكل استقطاباً طائفياً بلا أدنى شك ، وهذا الاستقطاب يثير القلق في صفوف شعبنا من خطورة حدوث صراع شيعي سني [ طائفي] ، أو شيعي شيعي لا سمح الله مما يسبب اكبر الضرر على مستقبل شعبنا ووطننا .
الاتجاه الثاني : ويضم القوى العلمانية وهذه القوى تدعوا إلى إقامة دولة ديمقراطية عصرية وإلى سن دستور علماني يضمن الحقوق والحريات العامة والمساواة لسائر المواطنين بصرف النظر عن قوميتهم ،أو دينهم ،أو طائفتهم ، وهذا الاتجاه يطمئن مصالح جانب كبير من أبناء شعبنا المتمثل بالمسيحيين بسائر طوائفهم وقومياتهم والتركمان والصابئة واليزيدية .ولقد تواردت الأنباء عن تشكيل جبهة تضم القوى الملتفة حول الدكتور [عدنان الباجه جي ] و[ الحزب الشيوعي ] و[ الحزب الديمقراطي الكردستاني ] بزعامة السيد مسعود البارزاني و[الإتحاد الوطني الكردستاني ] بزعامة السيد جلال الطالباني ، و[الحزب الشتراكي العربي ] بزعامة الدكتور عبد الإله النصراوي .
لكن تجمع هذه القوى لا يخلو من عناصر الضعف نتيجة الإختلاف في التوجهات الاستراتيجية لكل حزب ، فما زال الحزبان الكرديان يتنافسان على حكم أقليم كردستان العراق ، وما تزال هناك حكومتان في أربيل والسليمانية ، وكان الحزبان قد خاضا فيما بينها حرباً طويلة ذهب ضحيتها الألوف من أبناء الشعب الكردي في صراعهما على السلطة .
كما أن مشروعهما المتعلق بسبل إدارة إقليم كردستان مستقبلاً لا يزال يكتنفه الغموض ، ويتعرض مشروع الفدرالية لأقليم كردستان لمعارضة قوى سياسية عديدة داخل وخارج مجلس الحكم ، وحتى من جانب الولايات المتحدة وبريطانيا المهيمنتان على مقدرات العراق حالياً حيث تعتقدان أن فدرالية المحافظات هي الطريق الأسلم للحفاظ على وحدة التراب العراقي .
وإذا أخذنا في نظر الاعتبار لجوء القوى الكردية إلى الشارع ، وتسيير المظاهرات الداعية لضم مدينة كركوك لإقليم كردستان ، والمعارضة الشديدة التي لقيتها من جانب القومية التركمانية والعربية والآشورية ، تجعل من منطقة كركوك برميل بارود يهدد بالانفجار في كل لحظة مما يهدد بوقوع كارثة لا أحد يستطيع تحديد مداها ، وستؤثر بالغ التأثير على مستقبل العراق بلا أدنى شك .
الأتجاه الثالث : ويمثل القوى التي تم إسقاط حكمها في التاسع من نيسان والمتمثلة بحزب البعث المنحل وفلول الرجعية التي ارتبطت مصالحها مع النظام الصدامي المباد والتي فقدت تلك المصالح والامتيازات التي تمتعت بها لأربعة عقود على حساب بؤس وشقاء غالبية أبناء شعبنا ،وكذلك عناصر القاعدة التي حولت ساحة صراعها مع الولايات المتحدة إلى أرض العراق ، والتي تمارس أعمالاً إجرامية في مختلف المدن العراقية من تفجير السيارات المفخخة وزرع القنابل الموقوتة التي تودي بحياة الكثيرين من أبناء شعبنا وتبث الفزع والرعب في نفوسهم .
إن هذه القوى الشريرة تلعب اليوم دوراً خطيراً في البلاد وتشكل تهديداً جدياً على مستقبل الديمقراطية في العراق ، وما لم تدرك سائر القوى السياسية مدى هذه الخطورة ، وتتصدى لها بجبهة موحدة تمتلك برنامجاً مشتركاً تتفق عليه جميع الأطراف فإن مستقبل العراق يبقى معرضاً لمخاطر جسيمة .
إن هذه القوى الشريرة تبدو اليوم أشد شراسة مما كانت في الحكم ، وأن أبعاد خطرها على مستقبل البلاد ليس بالأمر الهين ، وهو يتطلب تضافر كافة الجهود للتصدي لها وقمع أي تحرك من قبلها في مهده ، وهذه القوى تستمد القوة بلا أدنى شك من تفكك وتناحر واختلاف القوى الوطنية فيما بينها ، فعلى هذه القوى أن تضع مصلحة الشعب والوطن فوق كل المصالح الأخرى لكي لا تضيّع فرصة ربما لا تجدها مرة أخرى لسنين طويلة .
وفي ظل هذا المشهد العراقي الذي نجده اليوم يبقى الدور الأكبر الذي تلعبه الولايات المتحدة وبريطانيا في تحديد مستقبل العراق ، ويخطئ من يظن الولايات المتحدة وبريطانيا ستخرجان خاليتا الوفاض من العراق بعد أن جيشتا جيوشهما وخاضتا الحرب لإسقاط النظام الصدامي ، وضحتا بأرواح جنودهما ، ودفعتا تكاليف الحرب الباهضة والتي تقدر بعشرات المليارات من الدولارات .
إن العالم اليوم يعيش فترة العصر الأمريكي ، القوة العظمى الوحيدة في العالم ،وعلى العالم أن يتعامل معها على هذا الأساس شاء أم أبى ، والعراق اليوم محتل من قبلها ، وهي لن تخرج قواتها من العراق قبل أن تضمن وبشكل دائمي مصالحها فيه بإقامة نظام حكم يكون على ارتباط وثيق بها سياسياً واقتصادياً وفي سائر المجالات الأخرى ، وشعبنا يبتغي إقامة أفضل الروابط مع العالم أجمع وفي المقدمة منها الولايات المتحدة شرط أن تكون على أساس المصالح المشتركة والاحترام المتبادل والاستقلال الناجز ، وتحقيق هذا الأمر يتطلب وحدة القوى الوطنية كافة واتفاقها على برنامج مستقبلي مشترك كي تشعر الولايات المتحدة بقوة تأثيرها وعدالة مطالبها في الحرية والاستقلال ،وبناء عراق ديمقراطي مسالم ومزدهر يحقق الحياة الرغيدة لشعبه الذي عانى من المصائب والويلات والإفقار خلال العقود الأربعة العجاف فهل من سميع ؟ وهل من مجيب ؟ 28/12/2003