هناك ثوابت أساسية في حياة الشعب الكوردي لا يمكنه التنازل أو التغاضي عنها لأي سبب كان ، وهي تتمثل في حقوقه المشروعة التي طالب وظل يطالب بها على مر العصور والسنين الطويلة . وقد كتب فيها الكثيرون من الكورد والعرب وغيرهم حتى أصبحت معروفة للجميع ، وصارت بحكم المسلّمات الضرورية لكيان هذا الشعب ووجوده .
وأهم هذه الحقوق هي حقه في تقرير مصيره . هذا الحق الذي كفلته كل المواثيق والقوانين الدولية والاعلان العالمي لحقوق الانسان والعهدين الدوليين الملحقين به .
والشعب الكوردي كان ومازال يتطلع دوما الى التحرر والاستقلال بدولته الكبرى كغيره من الأمم .
وما الانتفاضات والثورات المستمرة التي قام بها ومنذ تقسيم أرضه بين خمس دول ، الاّ دليل على رغبته الواضحة والصريحة في حصوله على كامل الحقوق التي تتمتع بها الشعوب الاخرى .
وقد تحققت بعض من هذه الحقوق للكورد في العراق بعد عام 1992 ، عندما استقلوا بادارة شؤونهم على جزء من أرضهم كوردستان ، بعد سلسلة المجازر التي وقعت ضدهم على يد نظام الحكم العنصري البائد وجرائم الابادة الجماعية والتطهير العرقي ، وخاصة في جرائم الانفال وحلبجة . وخلال أكثر من إثني عشر عاما تمكنوا من تسيير أمورهم بخطى حثيثة ، ومن بناء المؤسسات المدنية والادارية والبرلمانية . ونشأت أجيال كوردية جديدة لا تعرف غير كوردستان وطناً لها .
وبالرغم من العديد من الصعوبات التي واجهت تجربتهم في الحكم بسبب الحصار المزدوج المفروض عليهم ، من قبل المجتمع الدولي ضد العراق من جهة ، ومن النظام الدكتاتوري الحاكم من جهة ثانية ، الاّ ان الكورد نجحوا في ادامة واستمرارية هذه التجربة ، بل أصبحت أرض كوردستان خلال هذه المرحلة واحة تجمع كل أطياف المعارضة والاحزاب العراقية المختلفة والتي كانت تناضل للتخلص من سيطرة النظام الدكتاتوري في العراق .
وقد أعلن الكورد ومن خلال ممثليهم في البرلمان الكوردستاني الذي تأسس بعد استقلال اقليم كوردستان من سيطرة النظام البعثي عام 1992 عن رغبتهم في تبني النظام الفدرالي كصيغة مثلى في المرحلة القادمة - بعد التخلص من ذلك النظام - في ادارة شؤونهم وتنظيم علاقتهم بالمركز . وكانت جميع أطراف القوى السياسية العراقية والأحزاب المختلفة على علم بهذا المطلب ، بل إنّ غالبيتها وافقت عليه في اجتماع مؤتمرالمعارضة المنعقد في كوردستان في نفس العام ، وبقى هذا الهدف من أولويات الشعب الكوردي .
ثم طرح أيضا أمام مؤتمر المعارضة الموسع المنعقد في ديسمبر من عام 2002 في لندن ، وجاء النص عليه واضحا وصريحا في القرارت الصادرة عن هذا المؤتمر .
كما ان قرار الشعب الكوردي - ومن خلال قياداته - في المشاركة في حرب تحرير العراق جاء مرتبطا بتحقيق هذا الشعار ، أي - الفدرالية لكوردستان - والذي كان من الواضح للجميع أنه قد اُعتبر كشرط مسبق لدخول الكورد في معركة التحرير وقيامهم بدورهم الأساسي المعروف في انجاح هذه الحرب وحسمها لصالح العراقيين ضد نظام الطاغية .
وقد عبّر السيد مسعود البارزاني عن ذلك خير تعبير عندما قال وقبل نشوب الحرب بأن- الكورد ليسوا ثواراً تحت الطلب - في اشارة واضحة منه الى ان الكورد لا يقبلون المشاركة في أية عملية تغيير في العراق دون الحصول على ضمانة أكيدة من جانب العراقيين وقوات التحالف في نيل حقوقهم العادلة .
وهذا مؤشر واضح على أنّ الكورد لم يتخلوا يوما أو يتنازلوا عن خيار الفدرالية وبالصيغة التي جاءت في مشروع الدستور الذي طرحته القيادة الكوردية وصادق عليه البرلمان الكوردستاني .
فلماذا اذن هذا التذبذب في المواقف من قبل بعض الاحزاب والحركات العراقية ، والتصريحات المتناقضة التي تصدر هنا وهناك بين الحين والآخر ؟ ولماذا هذه الضبابية في طرح الآراء ، واللجوء الى أسلوب المداهنة والمناورة عندما يتعلق الأمر بالفدرالية ؟
ولماذا تحاول البعض من هذه القوى تغيير مواقفها بعد أن تحقق لها ما أرادت وحصلت على غايتها في تخليص البلاد من حكم الطاغية ، بمساعدة الكورد ، والتي لولاها وبدون فتح المجال الجوي والأرضي في كوردستان أمام القوات الامريكية لما تحقق هذا النصر ، وخاصة بعد اغلاق تركيا لأراضيها وأجوائها أمام هذه القوات وخذلانها لها ؟
هذه التساؤولات المشروعة وغيرها تدور في مخيّلة الكورد وتسبب لهم الكثير من القلق والتشاؤوم !.
إنّ الفدرالية التي يطالب بها الكورد واضحة وضوح الشمس وهي فدرالية سياسية وادارية تضمن ادارة الكورد لاقليمهم بصورة كاملة ، ومشاركتهم في اتخاذ القرار في المركز أيضا .
كما ولابد أن تقوم هذه الفدرالية على معيار أو أساس قومي جغرافي .
ويقصد بالأساس القومي أن تراعى خصوصية الشعب الكوردي المتمثلة في قوميته ولغته وتأريخه القديم الممتد الى الآف السنين على أرضه كوردستان { أما بالنسبة للكورد الذين اضطرتهم ظروف الحياة والعمل الى العيش في بغداد او المحافظات الوسطى والجنوبية من العراق والذين يقارب عددهم المليون نسمة فيجب أن تكفل لهم حقوق المواطنة الكاملة أسوة باخوتهم العرب وغيرهم من القوميات الاخرى } .
وأما المعيارالجغرافي فهو أن تحدد بوضوح ودقة حدود الاقليم الجغرافية والادارية استنادا الى الحقائق التأريخية الثابتة للمنطقة قبل أن تطالها يد التعريب والتبعيث والتغيير ، بحيث يشمل الاقليم كل المدن الكوردستانية المعروفة وبضمنها التي كانت خارج الادارة الكوردية وعانت من سياسة التعريب هذه ، مثل كركوك وخانقين والأقضية والنواحي الاخرى التي اقتطعت من المحافظات الكوردية وألحقت بالعربية ، كالتي ألحقت بمحافظات ديالى والموصل وتكريت كجزء من هذه السياسة العنصرية .
فضم هذه المناطق الكوردستانية ضمن الحدود الادارية والجغرافية لاقليم كوردستان الفدرالي تعتبر من الاهداف الرئيسية للشعب الكوردي وذلك لان اقليم كوردستان له خصوصية جغرافية سياسة ، ومن المهم جدا لدى الكورد المحافظة على وحدة هذا الأقليم .
وهذه الفدرالية التي يطالب بها الكورد وإن كانت أقل مما يستحقونه ولاتتناسب مع تضحياتهم ونضالهم الكبير خلال أكثر من ثمانية عقود ، وبالرغم من كونها لا تمثل سوى الحد الادنى لطموح الشعب الكوردي الذي يحق له التمتع بدولته المستقلة ، ومع انها تتطلب منهم التنازل عن بعض الصلاحيات التي يتمتعون بها حاليا والتي ستدخل ضمن اختصاصات المركز ، الاّ إنّ القبول بها -أي بالفدرالية- في الوقت الراهن ، هو الذي يلبي مصلحة الكورد خاصة والعراقيين عامة ، ويضمن وحدة العراق ويبعد عنه مخاطر التقسيم .
أما ما يتردد بين الحين والآخر من حديث حول نوع آخر من الفدرالية ، وهي ما تسمى فدرالية المحافظات ، أو فكرة تقسيم العراق الى تسع ولايات فدرالية ، فهي مرفوضة من قبل الكورد ، ويعتبر مجرد طرحها التفافاً على خيار الفدرالية للشعب الكوردي ، ونكثا للعهود والوعود التي قطعت لهم ، ومخالفة لقرارات مؤتمرات المعارضة التي وقعت عليها كل الاطراف والاحزاب العراقية الرئيسية المشاركة .
كما أنّ هناك من بين العراقيين من يقول أو يتساءل - وبحسن نية - : اذا كان العراق الجديد سينعم بالديمقراطية ويشارك الكورد أخوتهم العرب وباقي القوميات في الحكم ، وادارة البلاد ، فما الحاجة اذن للفدرالية ؟
والجواب على ذلك هو إنّ الشعب الكوردي وما تعرض له من ظلم ومجازر فظيعة لم يشهد لها التاريخ مثيلاً ، وتقسيم أرضه وإلحاق كوردستان الجنوبية بالدولة العراقية بعد الحرب الكونية الاولى من قبل الاستعمار ، دون أخذ رأيه أو استفتائه على مصيره ، فأن الفدرالية وما توفره للشعب الكوردي من استقلالية في ادارة شؤونه بعيدا عن حساسيات الماضي ، هي أفضل ضمانة له ولحقوقه في المستقبل .
واذا كان الكورد هم شركاء للعرب في الوطن الواحد ، فيحق لهم اختيار ما يلبى رغباتهم المشروعة وتقرير مصيرهم بأنفسهم أسوة بشركائهم العرب ، وليس هناك أفضلية لأحد على الآخر ، إلاّ اذا أعتبر العرب أنفسهم مواطنين من الدرجة الأولى والكورد من الدرجة الثانية !!.
ثم أنّ الفدرالية لا تتحقق أصلا في غير الأجواء الديمقراطية ، فهي - أي الفدرالية - والديمقراطية مفهومان متلازمان ، ولا يمكن أن تؤسس أو تبنى الفدرالية في ظل نظام ديكتاتوري . واذا ما استعاد العراق سيادته الكاملة وصار ينعم بالاستقرار والديمقراطية فما الذي يمنع قيام هذه الفدرالية التي تحفظ للعراق وحدته ، كما هو الحال في الكثير من الدول الديمقراطية والمتقدمة في العالم كأمريكا والمانيا وسويسرا وكندا وماليزيا ... وغيرها ؟
إنّ للشعب الكوردي ونضاله خصوصية يجب ان لا يتغافل عنها إخوتهم العرب ، والتي يجب أن تراعى وتؤخذ بنظر الاعتبار عند إعادة بناء الدولة العراقية وصياغة دستورها الدائم . كما وأنّ الشعب الكوردي وعبر سنين كفاحة الطويلة المريرة وخبرته الطويلة بكل المؤامرات والدسائس التي حيكت ضده وجعلته ضحية لاطماع الشعوب والدول الاخرى ، أصبح حريصاً وواعياً لما يجري حوله ، وصار ينظر بعين الريبة والشك لكل المحاولات التي تجري لتجاهله وجر البساط من تحت قدميه ، خاصة وانه قد اكتوى مرات عديدة بنيران الغدر ونكث الوعود . وهذا ما جعله يقرر وبارادته الحرة المستقلة القيام باجراء استفتاء شعبي يشمل كل المناطق الكوردستانية للتصويت على مصير كوردستان ، وعلى الصيغة التي يراها مناسبة لنيل حقوقه المشروعة وتقرير مصيره بنفسه ، فهو الوحيد الذي يملك أمر نفسه ، ولا يحقق لغيره من الشعوب تقريرهذا المصير .
والنتيجة معروفة مسبقاً ، حيث ستصوّت الأغلبية حتماً على الاستقلال الذي يمثل حلماً للشعب الكوردي مازال بعيد المنال .
وقد جاءت تصريحات السيد البارزاني الاخيرة على صحيفة التآخي يوم 21 ديسمبر الجاري ، وفي المقابلة التلفزيونية معه على فضائية العربية قبل يوم من ذلك ، واضحة وصريحة ، وتجسد تماماً آمال الشعب الكوردي ، وخاصة عندما قال بأن الفدرالية هي أقل مايرضى به الشعب الكوردي ، وطالب صراحة بضم كركوك الى إقليم كوردستان .
اذن ... هناك ثوابت أساسية للشعب الكوردي لا يقبل المساومة أو المزايدة عليها ، وأهمها تبني نظام الاتحاد الاختياري أي الفدرالية ، وضمن العراق الفدرالي البرلماني الديمقراطي الموحد ، على أن يكون لاقليم كوردستان حدوده الجغرافية والسياسية الواضحة والتي تشمل كل المدن الكوردستانية مثل كركوك وخانقين وبدرة وجصان ومندلي وشيخان وسنجار....الخ ، وغيرها من المدن التي تعرضت الى جرائم التعريب في ظل أنظمة الحكم الشمولية المتعاقبة على العراق .
كما إنّ من أهم الثوابت الأخرى هي عودة المرحلين الكورد والمسفرين من الكورد الفيليين الى ديارهم بأسرع وقت وتعويضهم عما لحقهم من أضرار مادية ومعنوية وفق القانون .
وقبل كل هذا وذاك ، ينتظر الشعب الكوردي توحيد الادارتين الكورديتين في حكومة واحدة . وكان لتوحيد البرلمان الكوردي قبل أكثر من عام أطيب الأثر في نفوس الكورد ، وكذلك ما حدث قبل أيام من توحيد نقابة واتحاد الصحفيين الكورد في نقابة واحدة ، وتوحيد نقابتي المحامين أيضا ، ونأمل ان تتوج هذه الانجازات الهامة قريبا بتوحيد كافة المؤسسات الادارية والحكومية في اقليم كوردستان .
إنّ مطالب الشعب الكوردي هذه والتي تعتبر من الثوابت الأساسية لديه ، اذا ما اُخذت بعين الاعتبار والاحترام ، من قبل الأطراف والقوى العراقية الوطنية ، فان من شأن ذلك أن يقود العراق الى بر الأمان والاستقرار، ويجنبه مخاطر التقسيم والثأر والانتقام الى الأبد ، ويضمن حل مشاكل العراق كلها ، وليس مشكلة القضية الكوردية المزمنة فحسب .