|
فتنة هولندا اليقِظة، وفتنة الشرق النّائمة : فتنة -خيرت- الصغرى، وفتنة الأمة الكبرى
يوسف بن الغياثية
الحوار المتمدن-العدد: 2241 - 2008 / 4 / 4 - 02:53
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
"رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ، وَاِغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا، إِنَّكَ أَنتَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ." (1)
منذ مدة والنائب الهولندي السيد "خيرت فيلدرز" [Geert Wilders] يجاهد من أجل الطلوع علينا بفيلمه الذي لم يدخر وسعا لكي يربط القرءان الكريم بالعنف والجهاد القتالي. لكن، إذا استطاع هذا العمل أن يستفز المسلمين ويخرجهم إلى الساحات العامـة يندبون حظهم - كما فعلوا في قصة الرسوم المسيئة إلى الرسول الكريم (عليه الصلاة والسلام) – فهذا يعني أن مستوانا نزل فعلا على وضع يكاد يكون ميئوسا. ذلك أن مثل هذا الفيلم لن يزيد مشاهده إلا إصرارا على التعرف على الدين الحنيف، وسيزيد من مبيعات القرءان الكريم بتراجمه المختلفة، ونرجو أن يمس ذلك الرصينةَ منها والمعتَمَدة حتى يقرأ الناس هذا الكتاب ويعودوا في ملّة أفضل مما اعتادوا، وربما سبقوا حامليه أكثر حتى في فهم كتابَهم الذي لم يحملوه فالتحقوا بمن لم يحملوا التوراة فكانوا سواء، "كَمَثَلِ اَلحِْمَار يَحْمِلُ أَسْفَـارًا." (2)
ها هي قصة جديدة، ونافذة تُفتَح أو لنقل : جبهة قديمة جديدة، وهي الجانب الثقافي والفني. لقد قلنا سابقا : إن مثل هذه القضايا لا ينفع معها المنع والرقابة. بل، إننا نُشجِّع على فتحها لما فيها من خير آت، لأن المنع والرقابة سيعززان ما في مثل هذه الأفلام وسيعزز الدعاية بقوة أكبر لنشر أن المسلمين لا يؤمنون بحرية التعبير، وأنهم يسارعون إلى سيوفهم قبل التفكير فيما سمعوه واستيعابه. بكل بساطة ينسون أن لهم أذنيْن، لكن لسان واحد. صحيح لهم يدان مثل كل الناس، لكن الأيادي التي نحتاجها ليست تلك الأيادي التي تذبح، بل تلك التي تمسك الكتابَ بقوة، تلك التي تمسك آلةَ التصوير لتصور أفلاما وأعمالا من قبيل "سقْف العـالم"(3) ، الأيادي التي تحوِّل كهوف الرعد إلى مكان تأوي إليه الطير للتسبيح كما كانت تفعل مع داودَ (ع)
إننا لا نقر ما جاء في فيلم السيد "خيرت"، لكن لنطرح بعض الأسئلة على أنفسنا ولنواجه الحقائق وألا ندفن رؤوسنا في الرمال. ألا يوجد العنف حقا فيما تلقيناه من معارف حول الدين الذي نؤمن به ؟ من أين تسلط علينا بُعْبُع الإرهاب ؟ ألا تعد كثير من النصوص خارج القرءان عنيفة حقا ؟ ألا نتعامل مع المخالفين بالتكفير ؟ أليس هذا عنف مركب أيضا ؟ ألا يعد قمع حرية التعبير بما فيها الأسئلة الوجودية عنفا ؟ ألا يتربى أطفالنا على القمع في البيت والمدرسة وبعد ذلك يافِعونا في الثانوية وشبابنا من بعدُ في الجامعة ؟ وقس على ذلك في المجالات كافة. إننا نعيش العنف في بلداننا التي تقاعست عن أسباب الحضارة فتفرقت كياناتها وتفككت دولها، وصارت أعجازا كنخل خاوية. فعلام نحتج إذن ؟ نحتج على "خيرت" في هولندا ولا نحتج على لصوص يتحكمون في مصائرنا وخرافات يلقيها مشعوذون في الفضائيات وفي غيرها، إن هذا لشيء عُجاب ؟
إننا في هدوء السائل وجب أن نعطي لأنفسنا وقتا لالتقاط الأنفاس والتفكر في أنفسنا. ولنبحث عن الخلل وأين يكمُن. بهذه الأسئلة سنتجاوز عقدة مثل عقدة السيد النائب الذي بحديث إفكه هذا، "لَا تَحْسِبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ." بهذا ستتحرك الهمم وستشتغل العقول للبحث في كهوف تاريخنا القديم منه والحديث، وربما خففنا من ملائكية تاريخنا، فالإسلام ليس هو مسلسلات "عمر بن عبد العزيز"، ولا هو "الفرسان"، بل هو نقد تلك الحقب، وأخذ العبرة منها. فالإسلام شيء وتاريخ الإسلام شيء آخر. إذا اقتنعنا بهذا الفصل، فلربما تحررنا من عُقَـد كثيرة، ولربما وأَدْنا الفتنة الطائفية في مهدها قبل أن يحولنا العم سام إلى مشواته الطائفية التي يعدها لنا وقد فتح المزاد في العراق كما يرى كل من ألقى السمع وهو شهيد.
إلا أننا لا ينبغي أن نغفل عن البذور والقابلية الكامنة في أحشاء مجتمعات المسلمين الهشة ؛ يستغلها "خيرت" وكل متطرف آخر فما أن يضغطوا على الزر حتى ترى الهتافات التي تهتف للأموات وتصفي حسابات تاريخية لا ناقة لهؤلاء الغوغاء فيها ولا جمل. وكما قيل فالأمة برجالها لا برُفاثها، وبأحيائها لا بأمواتها. فثقافة الموت متضخمة في لاشعورنا، حتى أصبحنا [Hollow Men] (4) على حد الشاعر "ت. س. إليوت" [T. S. Eliot] أيْ أناسا جوفاء. يَحْيَـون في الموت ويموتون في الحياة. "أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لَا يَاتِ بِخَيْرٍ. هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَّامُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ." (5)
إن هذا الفيلم ( فتنة ) يفتح جبهة جديدة لحروب دينية على الصعيد الوثائقي والسينمائي. فمنذ فيلم "آمين" الذي أثار جدلا واسعا في حينه منذ بضع سنوات والذي استهدف "الكرسي الرسولي"(6) مباشرة في شخص البابا "بيا الثاني عشر"(7) ، لم يمر على ذلك سوى سنة أو نيف حتى جاء الرد موجعا بإنجاز فيلم لا يقل ضراوة مع خصومه ودموية ونقصد به فيلم " آلام المسيح " لمخرجه الأسترالي "ميل غيبسون" [Mill Gibson] الذي اتهم فيه اليهود صراحة بالتآمر على السيد المسيح (ع) وأنهم مسؤولون مباشرة عن معاناته ومحاكمته وصلبه في النهاية بعد تعذيبه العذاب الأليم. وبطبيعة الحال لم يستطع الضغط عليه أن يقنعه بسحبه والتخلي عن هذا العمل الفني الذي أُدرِج هو الآخر ضن حرية التعبير ؛ بل وأيضا ضمن العقائد المسيحية حيث استند السيناريو على "إنجيل مَتّـى" : الأصحاحان 26 و27.
وفي خضم هذه الحروب الدينية المتبادلة، هل سيندرج فيلم "فتنة" هو الآخر ضمن حرية التعبير ؟ لو تركناه في هذا الإطار لما حصلت مشاكل لأن المطلوب هو عرض الفيلم وترك الرأي للناس. هذا أولا. وثانيا، على ذوي الأموال من المسلمين أن يمولوا أعمالا جيدة بدل الفضائيات التي تنشر أشد مما نشر "خيرت" الذي تعب في فيلمه وبحث عن تمويله، بل وغامر بحياته لأنه بات اليوم عرضة للاعتداء بشتى أشكاله بسبب رأيه سواء أَدَنّـاه أم اختلفنا معه فقط. إذن، مَن لأعمال مثل التي ذكرنا نبين فيها الوجه المشرق من حضارتنا البائدة، وننقد فيها الوجه المظلم بدون خجل أو عقد. فمحاكم التفتيش أدانها الأوروبيون، ومع ذلك فهي في تراثهم وتشكل جزءا من تاريخهم وذاكرتهم وكذلك فعلوا مع النازية. فمن يفعل مع تاريخنا مثل ما فعلوا هم ؟ هل نملك شجاعة مصارحة الذات بدلا من تلميع التاريخ الإسلامي بالمطلق ؟
ومن المضحك المبكي أن عملا من قبيل " سقف العالم " تعرض للحصار مع أنه الرد الطبيعي والهادئ على الرسوم المسيئة بدلا من الردود الغاضبة والتي عاثت في السفارات والمباني فسادا أفقد الاحتجاجات المصداقية وأدخلنا في الآية 76 من سورة النَّحل. وهنا نتساءل لماذا تُحاصَر الأعمال الجادة ويترك من شر ما خلق ويُمَدُّ للنفاثات في العُقَد في الفضائيات يتنططن ويفسدن الدين والدنيا ؟ لماذا لا تُدبلج مثل تلك الأعمال ويُستعمل الضغط الديبلوماسي ويتم تسويقها وتُذاع كما تسوق الطائرات والأسلحة في بلداننا رغَبا ورهَبا ؟ وبذلك نساهم بالصورة أيضا في التعريف بالتاريخ الإسلامي وعرض وجهة نظرنا في الأمور.
وختاما، إن "فتنة" النائب الهولندي وما سيأتي بعدها ليست إلا فتنة صغيرة بالمقارنة مع ما تعيشه الأمة من فتنة كبيرة وهي الجهل والتخلف عن العلم بأنواعه. فلنتحلّ بالهدوء ولنفتح آفاقا جديدة لمبدعينا بمساعدتهم على العطاء لكن ليس بردود الأفعال أو إنجاز أعمالهم تحت الطلب أو إنجاز أعمال مؤدلَجة، وهم كفيلون بالثقة التي يحظون بها لدى الرأي العام وهم قادرون على إعادة الأمور إلى نصابها. فلا منطق لمن يَـرُدّ بالسيف على القلم، وبالبندقية على كاميرا تصوير، وبالقضاء على كلمات كتبهن في صحيفة لإغلاقها. فحتى منطق "العين بالعين" على علاته - وقد بيَّن القرءان الكريم نقائصه - لا ترى من يحترمه. ومن ثَـمّ، فالعدل والصبر هما المنطق المؤدي إلى التقوى. ولا ينبغي للشنآن أن يصير حاجزا أمام العدل. "ولَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَئَانُ قَوْمٍ عَلَى أََلاَّ تَعْدِلُواْ. اِعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى." (8)
-------------------------------------------------------------------------------- (1) سورة الْمُمْتَحَنَة : 5. (2) سورة الجُمُعَـة : 5. (3) مسلسل أخرجه الفنان العالمي إسماعيل نجدة أنزور، يحكي قصة أحمد ابن فضلان سفير العباسيين إلى أرضي روسيا والدنمارك، وكيف أدخل الحضارة إلى هناك بدل الدمار والجهل. فمن نتائج عمله ما تشهده تل الأراضي من تقدم وتحضر. (راجع رسالة ابن فضلان) (4) عنوان قصيدته الشهيرة. (5) سورة النَّحْـل : 76. (6) بابا الفاتيكان. (7) [Pie XII] تولى منصب البابوية بين 1939-1958، اعتنى بمجالات الحداثة حيث جهد في تنصيرها، منح اللجوء إلى ليهود المطاردين من قبل النازية. لكن يؤخذ عليه صمته الرسمي على جرائم النازية. وهذا ما حاول الفيلم " آمين " أن يضخمه ليتحول الفيلم إلى محاكمة غيابية لهذا البابا وتحميله التبعات مما أغضب الكرسي الرسولي الذي رد بمقاضاة الفيلم وأصحابه لكن دون جدوى، فقد رفضت المحكمة الدعوى وأدرجت العمل الفني في دائرة حرية التعبير. (8) سورة المـائدة : 9.
#يوسف_بن_الغياثية (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في الحاجة إلى إعادة تشكيل القيم من أسسها الحقة : (المصالحة م
...
-
هل تُؤْمِن بما نُؤْمِن به ؟
-
أين الإنسان ؟؟
-
محمد الدنمارك ومحمد القرءان، لا يلتقيان
-
إله واحد وكتابان وثلاثة أديان
-
الإرهابي في ضيافة روبي : مقالة في إرهاب الـ-ڤيديو كليب
المزيد.....
-
الأميرة المسلمة الهندية -المتمردة- التي اصطادت النمور وقادت
...
-
تأسست قبل 250 عاماً.. -حباد- اليهودية من النشأة حتى مقتل حاخ
...
-
استقبل تردد قناة طيور الجنة أطفال الجديد 2024 بجودة عالية
-
82 قتيلاً خلال 3 أيام من أعمال العنف الطائفي في باكستان
-
82 قتيلا خلال 3 أيام من أعمال العنف الطائفي في باكستان
-
1 من كل 5 شبان فرنسيين يودون لو يغادر اليهود فرنسا
-
أول رد من الإمارات على اختفاء رجل دين يهودي على أراضيها
-
غزة.. مستعمرون يقتحمون المقبرة الاسلامية والبلدة القديمة في
...
-
بيان للخارجية الإماراتية بشأن الحاخام اليهودي المختفي
-
بيان إماراتي بشأن اختفاء الحاخام اليهودي
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|