يعقد، بعد غد، مؤتمر الحزب الشيوعي اللبناني. كان المخاض طويلاً و... مملاً. فعلى امتداد شهور لم يتابع المواطنون أخبار القيادة والمعارضة ومعارضة المعارضة ومعارضة لم يعد معروفاً أين هي. وعلى امتداد شهور لم يفهم اللبنانيون تفاصيل الخناقات حول المؤتمرات الفرعية، وجمعياتها العمومية، ومندوبيها واختيارهم. وعلى امتداد شهور لم يفقه المواطنون أسباب خروج من خرج وبقاء من بقي وتمتع البعض بسياسة <<الباب الدوار>>.
تضخم النقاش التنظيمي فابتلع ما عداه. وكان المطلوب بذل جهد استثنائي لاكتشاف الفكري، والبرنامجي، والسياسي وراء الخلافات وذلك برغم حبر كثير أريق. بدا أن الحزب الشيوعي هو الهمّ الوحيد للحزب الشيوعي. وحصل ذلك في حين كانت تعصف بالمنطقة ولبنان أحداث في منتهى الخطورة.
الحزب الشيوعي مريض. هذا أمر معروف. ولا مرض أشد من مرض المعاند في الثبات على دائه. لا بل المعتبر أن الذهاب بعيداً في الاستعراضية، وفي إظهار الأعراض هو دليل حيوية.
ليس أسهل من اعتبار المؤتمر التاسع <<لا حدث>>. ولكن السهولة، في هذا المجال خادعة. إنها خادعة لأن لبنان من دون يسار وطني، قومي، ديموقراطي، علماني سيكون فاقداً عنصراً في توازن يحتاجه. وهي خادعة لأن لا يسار من هذا النوع إلا بحزب شيوعي معافى ولو إلى حد ما. وهي خادعة، أخيراً، لأن في ما يطرحه الحزب إيجابيات عديدة كان يمكن لها أن تصل إلى اللبنانيين لو يتوقف الشيوعيون عن الأخذ بخناق بعضهم بعضاً.
يجب أن نسجل للحزب الشيوعي اللبناني مزاياه.
لقد قاوم، بنجاح نسبي، الاستقطاب العام في المنطقة بين
ليبرالية يتقاطع برنامجها مع برنامج الحملة الاستعمارية، وبين أصولية تبدو محتكرة الدفاع عن الأوطان والشعوب. بإيديولوجيات منغلقة، مهما حاولت الانفتاح، وبانقطاع عن العالم الخارجي ومجرياته، وبفقر يقارب الإدقاع أحياناً في تقدير موازين القوى ووضع سياسات مواجهة.
فمنذ مطالع التسعينيات اللبنانية (الطائف)، والعربية (حرب الخليج وما تلاها)، والدولية (انهيار المعسكر الاشتراكي) يصعد هذا الاستقطاب إلى الصدارة جارفاً معه ما كان يميّز اليسار. لقد ازدادت صعوبة الجمع بين الوطنية والديموقراطية، بين العروبة والعلمانية، بين دعوة العدالة وتجنب الوقوع في الشعبوية، بين حريات المرأة والمسافة عن الأجندة الاستعمارية، بين الإصلاح الديني وعدم التكيف الإيديولوجي الهيكلي مع الإلحاح الأميركي، بين إنعاش المجتمع المدني والأهلي وعدم الوقوع في مطب الرهان على المنظمات غير الحكومية، إلخ...
صادرت الإمبراطورية شكلاً، بعض هوية اليسار، وصادرت الأصولية بعض وطنية اليسار وقوميته، وبات هزلياً الحديث إن لم يكن عن الأفق الاشتراكي فعلى الأقل عن التحول اللارأسمالي.
يصعب جداً السير بين هذه النقاط. ويكفي أن نلقي نظرة إلى أوضاع اليسار في العالم العربي (والعالم) حتى نتأكد من ذلك. ما الوضع في العراق، في السودان، في مصر، في فلسطين، في الجزائر، في اليمن؟...
خرج الحزب الشيوعي اللبناني من هذه المآزق بأقل الأضرار الممكنة. يصعب، اليوم، حسبانه على طائفة، يصعب حسبانه على التيار <<السياديوي>>، يصعب حسبانه على دعاة الالتحاق غير المشروط بسوريا، يصعب حسبانه على معسكر أحد الرئيسين، يصعب حسبانه في خانة فرسان الجملة الثورية ضد السياسات الاقتصادية، إلخ... غير أن الوجه الآخر لذلك هو العزلة، العزلة عن الطوائف والقيادات الطائفية، عن مراكز القرار هنا وفي الخارج، عن المعارضات الموسمية أو الهوجاء. غير أنها، أيضاً، عزلة عن القوى الحية في المجتمع، وعن الشباب، وعن النقابات، وعن المثقفين، وعن الطبقة الوسطى، وعن رجال الأعمال المتنورين، وعن قوى إصلاحية...
إنه، بمعنى ما، قلعة محاصرة يحصل فيها ما يحصل عادة: تشهد تصدعاً داخلياً لا يرى الأمور إلا من داخل الحصار، ويعجز عن نظرة شاملة تضع القلعة كلها في سياق المشهد العام مع ما يعنيه ذلك من ترتيب للأولويات.
ويتمظهر هذا التصدع بمحاولة البعض اللحاق، باسم مراجعة تجربة الحرب، بأول حيوية توحي، أنها كذلك وتوهم أنها صاحبة خطة للخلاص الوطني. وحين لا يتم هذا الالتحاق يعوّض عنه بمشروع لحيوية شخصية تعبّر عن تضخم ذاتي وتقدير فائق للنفس يكتفي من الحراك السياسي بمجرد تأكيد الحضور.
إن تراجع الفعالية نتيجة طبيعية للعزلة. وهو، أيضاً، من ثمرات الانشغال ب<<الوضع الداخلي>> والبحث عن تسويات، ومنها ما قد يكرّسها المؤتمر، تجعل <<الوحدة المقدسة>> هدفاً بدل أن تكون وسيلة لدور يؤديه الحزب.
لا يمكن النظر إلى المؤتمر، وما بعده، إلا في ضوء <<الاحتياطي المعطل>> لليسار في لبنان. فبرغم ما جرى، وبرغم الطفرة الطوائفية، وبرغم أوهام الخلاص الفردي، وبرغم الهيمنة الفكرية للنيو ليبرالية، وبرغم إفلاس المشاريع المدعية الإصلاح من فوق، برغم ذلك كله، يمكن الادعاء بأن قطاعاً لا بأس به من اللبنانيين ينتظر إشارة قوية من طرف سياسي يحسن تقديم توليفة تقع عند تقاطعات كثيرة وتحاول أن تعكس تلاوينها في البنية التنظيمية.
إن من شروط ذلك مراجعة جذرية لتجربة الحرب ما بعدها لا تكتفي بالتعميمات وإنما تقتحم حياة الحزب الداخلية في المناطق كلها، وتقييم المشاركة في الانتخابات على أنواعها، وإدراك معنى الدعوة إلى التغيير الديموقراطي، وامتلاك وسيلة مساهمة جدية في المناقشات النظرية والسياسية والاقتصادية والثقافية، وحضور قيادي دائم، والبحث عن قواسم مشتركة، وابتداع وسائل نضالية جديدة، والاهتمام بالشباب والمبدعين والطبقات الوسطى، واستعادة الصدقية، والانفتاح على البؤر اليسارية الأخرى، والتجرؤ على مواضيع محرّمة، والتحضير لأطر تنظيمية تتجاوز الهياكل الحالية.
إن يساراً لبنانياً قوياً، يكون حزب شيوعي عموده الفقري، حاجة وطنية. هذا هو جوهر الدرس بعد سنوات من تطبيق اتفاق الطائف.
إن حالة التخلّع في السلطة ليست نتيجة مؤامرة ما. ولا هي فعلة فاعل يريد التحكّم بالوضع. إنها التعبير الدقيق عن موازين اجتماعية (ديموغرافية، اقتصادية، ثقافية، وظيفية، إلخ)، وهي ستبقي لبنان في وضع <<الوطن المعلّق>> المفتوح باستمرار على تقرّح الجراح الطائفية وتحولها إلى نزيف قاتل.
لا شيء آخر ينجي من الوضع الراهن ومن الكارثة المحتملة إلا بروز مركز استقطاب يخترق المناطق والطوائف من أجل أن يلقي بثقل كبير على <<اللعبة السياسية>> ويرغمها، في انتظار تغييرها، على احترام الحد الأدنى من القواعد.
قد تبدو هذه المهمة أكبر من الحزب الراهن. وهي كذلك. غير أنها تحدد الوجهة التي سيحاكم في ضوئها، وهي وجهة تقتضي درجة عالية من تدخل الإرادة والوعي. إن لم يقترب الحزب منها يكون قرر البقاء حيث هو ويكون أضاع على اللبنانيين فرصة أن يكون مفيداً لهم.
السفير