|
في ذكرى أربعينية شهداء وثبة كانون الثاني الخالدة عام 1948
موسى جعفر السماوي
الحوار المتمدن-العدد: 2239 - 2008 / 4 / 2 - 09:13
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
وجه اتحاد الطلبة العام دعوة إلى كافة الاتحادات الطلابية في مدارس العراق بتأليف وفود عنها للمشاركة في الحفل التأبيني الذي سيقام في بغداد تخليداً لشهداء الوثبة بمناسبة مرور أربعين يوماً على استشهادهم. وتلبية لهذه الدعوة ألفنا وفداً كبيراً يمثل اتحاد طلبة ثانوية الديوانية. وعشية الذكرى استقل وفدنا القطار البطيء الصاعد إلى بغداد وهو قطار لنقل البضائع تربط به عربتان لنقل المسافرين، لا ضوء فيهما ولا ماء. قضينا ليلة طويلة متعبة، ظلام مفرط وبرد وغبار كثيف كسانا وأثقل أنفاسنا، وسهر. وصلنا بغداد في الغبش، غادرنا القطار ونفضنا ما علق بنا من تراب. خرجنا من المحطة بمجموعات صغيرة نظراً لضخامة الوفد. وفي مقهى تطل على دجلة في صوب الكرخ بجانب الجسر الذي أقام عليه الطغاة مجزرة حصدت أرواح أبناء الوطن، يطلق عليها "مقهى البيروتي"، تناولنا فطورنا. وفي أثناء استمتاعنا بتدفق مياه دجلة وحركة السفن وقوارب الصيد وأسراب طيور النورس البديعة، وصلنا توجيه بأن تجمع الوفود سيبدأ بعد الظهر في "حديقة الملك غازي" في الباب الشرقي "حديقة الأمة حالياً. وما دمنا في بداية الصباح فقد أتاح لنا هذا الموعد متسعاً من الوقت يمكننا من زيارة أصدقائنا من طلاب الديوانية الذي يدرسون في دار المعلمين الابتدائية في الأعظمية. توجهنا إلى هناك، نزلنا من الباص قرب المقبرة الملكية، المنطقة جميلة بنظافتها وبناياتها الحديثة وشارعها العريض المبلط وأشجار الظل على امتداد جانبيه. ودار المعلمين الابتدائية مؤلفة من بنايتين متجاورتين أحدهما للدراسة والثانية للقسم الداخلي، والبنايتان المؤلفة كل منهما من طابقين مشيدتان وسط حديقة مسورة واسعة ومقابل بناية القسم الداخلي تقع كلية "الملك فيصل". وبينما كنا نهم بالدخول إلى دار المعلمين استفزتنا جلبة وصخب تخللتهما هتافات باسم القومية العربية وزعيق يستنهض الشراسة في جمع ظاهرة وساخنة يلوح بالقامات والهراوات والسكاكين وقضبان الحديد، يهرول باتجاه كلية الملك فيصل مستهدفاً طلابها "الصغار الأذكياء" الذين كانوا يعدون أنفسهم للمساهمة في يوم أربعينية الشهداء. لقد باغتهم المهاجمون ودخلوا الكلية وأصابوا عدداً من طلابها، إصابات بعضهم كانت خطرة، ورغم ذلك قاوموا المهاجمين ببسالة، وهب طلاب دار المعلمين الابتدائية بعصي الهوكي لنجدة إخوانهم، فأخرجوا الجناة من الكلية وأجبروهم على الفرار وأسعفوا الجرحى وكانت وقفة شريفة ومبادرة جريئة أحبطتا الهجوم الغادر وحالت سرعتهما دون حدوث مجزرة أعدتها الحكومة لهذا اليوم وأوكلت مهمة تنفيذها إلى زمرة ضالة من الهمج والرعاع لغرض الانتقام من طلاب الكلية. ورب سائل يقول: ما هي حكاية هذه الكلية، ولماذا الانتقام؟. إن هذه الكلية خاصة يقبل فيها عدد محدود من الطلاب يتم اختيارهم من الأوائل المتفوقين في الدراسة من خرجي المرحلة الابتدائية، أي من عمر مبكر بين 11ـ12 سنة، عميدها انكليزي اسمه "المستر وود" وهيئتها التعليمية من مدرسين أكفاء. طرق تدريس المناهج المقررة وأساليب التوجيه التربوي وطراز المعيشة في قسمها الداخلي مصممة بنظام حازم وفق نمط الحياة الانكليزية. هذه الصورة توضح الدافع السياسي وراء تأسيس مثل هكذا كلية. وهو إعداد كادر ذكي يتميز بقدرات علمية وإدارية مؤهل لرعاية مصالح الاستعمار البريطاني في العراق. وثمة رأي آخر هو ان المرحومة "الملكة عالية" هي صاحبة الفكرة وقد سعت إلى تأسيسها من أجل خلق جيل كفؤ علمياً وفي مستوى تربوي وأخلاقي وثقافي مشابهاً لما يتلقاه إبنها "الملك فيصل الثاني" في تربيته وتعليمه في بريطانيا منذ صغره، ليكون أي الجيل الوسط الذي يجد فيه الأصدقاء الذين يقدمون له النصيحة الذكية ويدير من خلالهم نظام حكمه الملكي ـ الإقطاعي الموالي للاستعمار. وعلى العموم فان الرأيين يحملان الجوهر ذاته. وحدث ما لم يكن في الحسبان، وكأن كل ما أعد للكلية من خطط وبرامج أصبح بمثابة بعث الروح الوطنية في طلابها وحثهم على الانتماء للشعب والانضمام إلى قواه الوطنية والديموقراطية. وتجلى ذلك في مساهمتهم في نضالات الشعب وخاصة في وثبة كانون الثاني الخالدة عام 1948. إن الهزيمة التي منيت بها الحكومة كانت وراء دافع الانتقام من طلاب الكلية ثم غلقها... هذه الحالة تذكرني بحالة مشابهة، ففي زمن صدام البعث استحدث قسماً للفلسفة في كلية الآداب، اختير طلابه من الكادر البعثي الأكثر اندفاعاً وإخلاصاً للحزب ليعملوا بعد تخرجهم كمنظرين في منظمات الحزب. وبعد أربع سنوات من الرعاية الفائقة، تخرجت الدفعة الأولى. وفي اختبار المقابلة كانت إجابات الدفعة كلها يتطابق مع الفكر الماركسي، وما كان في الحسبان، وسقطت الآمال العريضة المقصودة وانقلب السحر على الساحر. وأصبحت عقوبة الإعدام للخط المائل "الاختراق". إن حدث الأعظمية قد اختصر كثيراً فترة رؤية أصدقائنا فاكتفينا بالسلام ورؤية عابرة ثم ودعناهم وعدنا إلى باب المعظم، ومشينا إلى شارع المتنبي وتناولنا غدائنا وشربنا الشاي في مقهى "الشابندر" ثم توجهنا إلى الباب الشرقي. دخلنا حديقة الملك غازي، سرّنا جمالها، كانت نظيفة ومنسقة، أشجارها وزهورها وورودها موزعة بانتظام على كل أرجائها، أرضها منخفضة يغطيها "ثيل" كثيف، تحيطها من الداخل مدرجات عريضة ترتفع إلى مستوى حافات الشوارع المحيطة بها، وعلى امتداد مدرجاتها وضعت مصاطب خشبية خضراء. جلسنا متقاربين على المصاطب، الوفود بدأت تدخل الحديقة، الزحام بدأ يزداد وعندما اكتظت الحديقة بجماهير الشعب من طلاب وشباب وعمال ومثقفين ولم تعد تستوعب المزيد، شرع قادة المسيرة بالإيعاز إلى الوفود والجماهير أن تسير بصفوف منتظمة وكل وفد يحمل إكليلاً من الزهور. بدأت المسيرة بالتحرك وكان وفد طلاب الديوانية يسير في الطليعة، حملت أكليل الزهور وسرت أمامه. المسيرة بلا لافتات ولا هتافات لقد آثرت الصمت على مضض، فالكلمة فقدت قوة التعبير عن عمق المأساة والصدور يملؤها الغيظ والحزن وصرخات غضب تطالب بالقصاص من حكم الاستبداد والظلم والتخلف الموغل في الجريمة. دخلت المسيرة شارع الرشيد، الناس ينضمون إليها، الصحفيون والمصورون استعانوا بالسلالم لتصويرها كاملة. المسيرة زاخرة بجماهيرها وبوفائهم وإيمانهم. وبينما وصلت طلائعها إلى مقبرة الشهداء في باب المعظم مازالت مؤخرتها في الباب الشرقي. وحسب التوجيه سلمنا الأكاليل في باب المقبرة وتوقفت الجموع الغفيرة التي بدأت تصل تباعاً في الشارع الذي يفصل المقبرة عن سجن بغداد المركزي "وزارة الصحة حالياً". وعند اكتمال وصول المسيرة ألقيت في الجموع المحتشدة كلمات وقصيدة للشاعر الراحل بدر شاكر السياب تحث على الوفاء لشهداء الوثبة الخالدة بمواصلة النضال من أجل حقوق الشعب في الحرية والاستقلال الوطني. بعدها أعلن أحد قادة المسيرة عن اختتام الحفل التأبيني لشهداء وثبة كانون الثاني المجيدة في ذكرى مرور أربعين يوماً على استشهادهم. تفرق الناس وفي رأس كل واحد منهم سؤال يدور مفاده: كيف انتهت الوثبة الجبارة إلى لا شيء وكان بمقدورها أن تعصف بالنظام الرجعي الفاسد وتأتي بحكومة وطنية؟!
#موسى_جعفر_السماوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
انقلاب 8 شباط البعثي عام 1963 صفحة سوداء في التأريخ
-
في ذكرى وثبة كانون الثاني المجيدة عام 1948
المزيد.....
-
رصدتهما الكاميرا.. مراهقان يسرقان سيارة سيدة ويركلان كلبها ق
...
-
محاولة انقلاب وقتل الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا.. تهم من ا
...
-
ارتفاع قياسي للبيتكوين: ما أسباب دعم ترامب للعملات المشفرة،
...
-
الكربون: انبعاثات حقيقية.. اعتمادات وهمية، تحقيق حول إزالة ا
...
-
قائد القوات الصواريخ الاستراتيجية يؤكد لبوتين قدرة -أوريشنيك
...
-
روسيا تهاجم أوكرانيا بصاروخ جديد و تصعد ضد الغرب
-
بيع لحوم الحمير في ليبيا
-
توقيف المدون المغربي -ولد الشينوية- والتحقيق معه بتهمة السب
...
-
بعد أيام من التصعيد، ماذا سيفعل بوتين؟
-
هجوم بطائرات مسيّرة روسية على سومي: مقتل شخصين وإصابة 12 آخر
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|