دياري صالح مجيد
الحوار المتمدن-العدد: 2239 - 2008 / 4 / 2 - 10:47
المحور:
المجتمع المدني
الفن والحد من التطرف الديني
(( العراق نموذجا))
قال احد الشعراء(( إن الموسيقى كانت حورية في سماء الآلهة تعشقت ادميا وهبطت نحوه من العلو فغضبت الآلهة إذ علموا وبعثوا وراءها ريحا شديدة نثرتها في الجو وبعثرتها في زوايا الدنيا, ولم تمت نفسها قط بل هي حية تقطن آذان البشر)).
في حين قال حكيم هندي (( إن عذوبة الألحان توطد آمالي بوجود أبدية جميلة)).
إن هذه الحورية التي لا بد وأنها تعشقت ادميا متفكرا بأسرار الحياة والوجود والفناء ومبتليا بآفات الظلم الاجتماعي, لا بد أيضا كانت على درجة عالية من الإحساس والتعاطف مع هذا الآدمي, لأنها أرادت على الأقل أن تخفف من الالامه والتي لم يثنيها غضب الآلهة التي قصدها هذا الشاعر من أن تبقى خالدة في روح الإنسان تمسك به وتغريه بوجود أبدية جميلة , وهو من وجهة نظري يعد احد التكتيكات التي اعتمدتها كثير من الأديان لتؤكد أن الهدف في نهاية المطاف هو الإيمان بان للحياة معنى أعمق بكثير مما تبدو عليه. لذلك يعطينا الفن بوابة مثلى وليست وحيدة نطل من خلالها على ضفاف نهر الآمال الجميلة الذي يمكن له أن يقودنا إلى المصب حيث الخلاص من عذاباتنا إلى الأبد.
يعرف الفن على انه شكل من أشكال الوعي الاجتماعي والنشاط الإنساني يعكس الواقع في صور فنية وهو واحد من أهم وسائل الاستيعاب والتصوير الجمالي للعالم... وان العمل هو الإبداع الفني ومصدر العملية السابقة التي تشكل عواطف واحتياجات الإنسان الجمالية. ( الموسوعة الفلسفية, ص354 ). وطالما أن الفن معبر عن مرحلة مهمة من مراحل الوعي الاجتماعي فلابد إن المقصود بالفن لا يقتصر على جانب الموسيقى, الغناء, الرقص, الشعر , الرواية ... الخ وإنما بالضرورة يقوم على كل هذه العناصر وغيرها مستندا بالدرجة الأساس على آلية القراءة التي تنمي تذوق الإنسان لهذه العناصر الإبداعية التي يمكن أن نسميها بالفن. وهذا الارتقاء بالفن ثم بالإحساس هو الذي يقود إلى ما قاله المفكر العراقي الدكتور علي الوردي (( إن شعور الإنسان بالظلم يثيره أكثر مما يثيره الظلم نفسه)). أي يقود الإنسان العادي في ظل اكتساب المعرفة وتذوقها جماليا أو فنيا إلى أن يخطو الخطوات الأولى على طريق وخز الشعور لإيقاظه من سباته الطويل كي يتحول إلى ثورة دائمة لا تخمد أبدا.
لذا يلعب الفن دورا مهما في تنمية الذوق والارتقاء بالإحساس والأخلاق لدى المجتمعات لا بل إن تطور الفن وسمو رسالته يعد احد العناصر البارزة في طلب الحرية وفي تحقيق التحولات الجذرية في حياة الشعوب فلكل مرحلة تاريخية من مراحل الحياة التي يعيشها أي شعب من الشعوب تجليات ذات طابع سياسي واقتصادي تنعكس آثاره في القيم الثقافية التي تبرز ملامحها واضحة في معالم الطابع الفني المختلفة لتلك المرحلة, لذا إذا ما أردنا اعتبار الفن مؤشرا على مدى التطور الذي تعيشه المجتمعات علينا إجراء مقارنة ما لنعرف إذا ما كان هنالك تدهورا وانحطاطا في الفن كمرآة تعكس لنا مدى توفر أو عدم توفر العدالة السياسية والاجتماعية.
حقيقة أن الفن الذي كان يمثله شخصيات من أمثال أم كلثوم, عبد الحليم حافظ, نجيب محفوظ , إحسان عبد القدوس , غائب طعمه فرمان , عبد الوهاب ألبياتي,نازك الملائكة وآخرون كثر, ساهم في إنتاج مجتمع ذي ذوق عال في مجمل ميادين الحياة خاصة في مجال تطور الإحساس لدى الإنسان بالجمال وكذلك بالظلم , لذا كانت فترة أولئك الأفذاذ فترة ثورات وتخوف الحكومات والتيارات الدينية المتشددة من الشعوب التي تحركها أقلام وأصوات مثقفيها ومبدعيها. لذا لا يمكن أن يقارن هذا الأمر بما أنتجه الفن الهابط الذي تمثله شخصيات من أمثال صلاح البحر, قاسم السلطان, حسام الرسام وآخرون كثر في مشارق البلاد العربية ومغاربها او كتابات المتشددين والمتطرفين ومواقعهم الالكترونية التي تبيح القتل وإراقة الدماء , من انحطاط للذوق العام وبالتالي تراجع في الإحساس بمكامن الجمال وبطبيعة الظلم الذي يلحق بالمجتمع . وقد لاقى هذا الأمر تشجيعا واسعا من النظام السياسي السابق في العراق وكذا الحال ولا يزال في العديد من الدول العروبية طالما أن ذلك يصب في المحصلة النهائية في خدمة بقاء هذه النظم على سدة الحكم لان أناس منحطي الذوق يسهل اقتيادهم وتوجيههم كما يسهل التحكم بعقولهم عبر الخزعبلات والإشاعات ومن ثم يسهل تنويمهم وتخديرهم عن الالامهم فيصبحون ذوي عقلية متلقية لا أكثر, في حين إن الفن الراقي الذي مثلته نوعا ما فترة السبعينيات كان يحفز الناس على التفكير الناقد ومن ثم ينمي هذا النقد في مجمل ميادين الحياة التي ينعكس أثرها الايجابي في رقي الذوق والذي يبدأ في ظله الفرد بالبحث عن الفن الراقي ويطالب به بقوة والذي لا يمكن له بالمحصلة أن يتحقق إلا كنتيجة لشيء من الحرية للإفراد والمجتمع على حد سواء. فهل توجد مثل هذه الحرية التي تعتبر شرطا ضروريا لذلك في الوقت الحاضر؟ .
لقد أدركت العديد من التيارات السياسية والدينية المتطرفة مدى خطورة مثل هذا الأمر حيال أفكارها ومعتقداتها لأنها تدرك مدى ضعفها وبأنها غير قادرة على مقاومة الأثر الايجابي للثقافة والفن البناء على مناصبهم ومكانتهم في المجتمعات التي تسيدوا عليها وحولوا أبنائها إلى مجرد عبيد لهم وليس لله الذي يلوكون آياته كما يلوكون الأطعمة الفاخرة التي لا تفارق موائدهم أبدا. لذا بدءوا بإصدار فتاويهم التي تجتر اجترارا من أعماق الجاهلية يدعون فيها إلى إباحة دماء المفكرين والمبدعين من أولئك الذين ينبهون المجتمع إلى زيف ادعاءات هذه النخب الفاسدة, لذا لا نستغرب إن وجدنا في البعض من صفحات الانترنيت أن هنالك مواقع خاصة لتكفير المثقفين والتي ورد في واحد منها تحليل قتل أكثر من سبعين كاتبا ومبدعا منهم على سبيل المثال جبران خليل جبران, أبو القاسم الشابي, يوسف إدريس, نجيب محفوظ, فرج فودة, جابر عصفور. نصر حامد أبو زيد, نزار قباني, محمد عابد الجابري, غادة السمان, كاظم الساهر, أم كلثوم, محمد أركون, بدر شاكر السياب, عبد الوهاب ألبياتي, ادونيس, الطيب صالح والقائمة لم تنتهي بعد.
وفق هذه الرؤية المتزمتة لا بد من النظر إلى التطرف على انه فيروس قد بدء يضرب جسد وروح هذه الأمة بفعل تغذية داخلية وخارجية , لذا لابد من البحث عن ترياق ما إن لم يكن يقضي على هذا الفيروس فعلى الأقل يعمل على التخفيف من وطأته , وهذا الترياق يمكن أن يكون في احد مدخلاته عبر تطوير الفن, الثقافة ,والتشجيع المستمر على القراءة الناقدة والبناءة لأنها وحدها الكفيلة بإعادة بروز أبناء هذه الطبقة المتميزة التي يقع على عاتقها إحياء الثقافة المدنية في المجتمع بهدف خلق تيار إصلاحي يقابل التوجهات المتطرفة المتشددة دينيا وسياسيا, وبذلك تستطيع أن تنعم أوطاننا ولو بشيء يسير من حرية الفكر والتعبير وبفسحة بسيطة للعيش دون أن تجبر على طريقة فكر ومأكل وملبس خاصة تفرض عليها بسنن ومعتقدات وطقوس أضفي عليها القدسية التي لا تخدم في نهايتها إلا دعاة التطرف والتمسك بالماضي وكذلك بالحاضر إذا ما كان فيه خدمة لمصالحهم. لذلك نجد أن شخصية مثل محمد خاتمي تعترف بمثل هذا الأمر بالقول(( إن المجتمع الذي يهتم بالكتاب والفن والثقافة له معالمه ومنها توفير الأمن لا هل العلم والمعرفة واحترام حرية أصحاب القلم والفن, وتوفير الحرية والأمان أمر ضروري وواجب المجتمع بأسره لكنه اوجب الأمور و أكثرها ضرورة لأهل العلم والفكر والفن, لأنه من دون الأمن والحرية لن يتم الإبداع في الفن ولا في الفكر ولا في المعرفة)). فهل نستغرب بعد كل ذلك من دعاوى تكفير كل من يحاول الخروج عن المألوف وكل من يحاول أن يشكك في مورثنا الثقافي؟
في مقابل ذلك انظر إلى هذه الموجة العارمة من الفنون وخذ على سبيل المثال الأغاني التي تجد فيها كما هائلا من العبارات السوقية التي تهدف إلى نشر ثقافة شعبية رجعية تنحدر بإحساس الناس و بالذات الشباب منهم إلى الحضيض إلى تقديس الضياع والمتاهة وتسليم الأمور بيد الآخرين, وقارن معها أيضا الفتاوى التي تحض على الكراهية والقتل الذي أصبح امرأ ملازما لذلك النوع الهابط الرخيص من الفن مما خلق فئة محبة لهذا التوجه سهلة الانقياد لا تتوانى عن استخدام السلاح في أي مكان ولأي سبب كان .
في ضوء ما تقدم أجد من الضروري أن اطرح السؤال الآتي ((هل يمكن للفن بكل أشكاله التي ترمي إلى إحياء الروح الجمالية في هذا العالم, أن يشكل مرجعية مضادة للتطرف في المجتمع العراقي؟)).
اعتقد أن المشكلة التي تواجه المجتمعات الموزائيكية أو المتعددة دينيا و مذهبيا وقوميا كالمجتمع العراقي إنما تتمثل في تعدد المصالح السياسية وتعدد الفتاوى الدينية الداعمة لهذه المصالح, وهو ما يكرس حالة الانقسام واللامبالاة بالآخر أو بالا لامه ومعاناته التي نتحمل وزرها جميعا. فهذه المجموعة تمتثل لهذه الفتوى والأخرى لغيرها والأخرى لغيرها وهكذا تقوم كل مجموعة بادعاء الحق الإلهي المطلق وبتحليل السلب والنهب والقتل وفقا لتلك الفتاوى والبلد في النهاية يؤل مصيره إلى الدمار. والمشكلة الأخرى تكمن في أن أعمار اغلب من يقوم بتلك الأمور تتراوح ما بين 15-30 سنة وهم منقادون عاطفيا ومتعصبون بالفطرة للطائفة أو القومية التي ينتمون إليها تحركهم قيادات ومشايخ لا تعمل إلا على ايقاض ذلك الذئب النائم في ذواتهم محولا إياهم في ظل غياب عقلية نقدية إلى أرواح متعطشة إلى سفك الدماء.
بعد كل هذا التعنيف الموجه إلى الكل و ليس إلى فئة دون أخرى وبالذات في العراق أجد من الضروري الإشارة إلى ما يمكن أن يلعبه الفن بمفهومه الشامل الذي طرحناه في بداية هذا المقال من دور في تهذيب سلوكيات الناس والعمل على تحرير كل العناصر الإنسانية من دهاليزها التي سجنت فيها لسنوات طويلة من اجل الإحساس بالآخر الذي لا يتوافق معنا لأي سبب كان. لذلك نجد في أوربا على سبيل المثال اهتماما واسعا بكل أشكال الفن مثل الأوبرا , المسرح , معارض الكتاب و معاهد تعليم اللغات وغيرها ينفق لا جلها ملايين الدولارات بهدف إحياء وتجديد الروح المدنية التي قطعت شوطا كبيرا تحسد عليه في هذا المجال , أما بلداننا فهي أكثر بقاع الكرة الأرضية انتشارا في دور العبادة وأكثرها بالمقابل إراقة للدماء واغتيالا للأحلام البريئة التي تهدف إلى انتشال المجتمع من الالامه وعذاباته! . فهل يصح لنا بعد كل ذلك أن نقول إن الفن لا يعد مدخلا أوليا وليس ختاميا للخروج من مأزق التطرف والعنف المستمر في دولنا , ذلك العنف الذي يعطل حياتنا ويسحبنا من حاضرنا ومستقبلنا نحو مجاهل الماضي المظلمة ليس إلا ؟ ويبقى الحديث مليء بشجون لا تنتهي....
#دياري_صالح_مجيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟