المثقفون اللبنانيون لا يحتاجون إلى "عزيمة" كي يتدخلوا في الشؤون الداخلية السورية. فمن أصول صنعتهم، كمثقفين، انتهاك مبادئ السيادة وعدم التدخل الخاصة بالسياسيين والدول؛ والشؤون السورية ليست خارجية عليهم، كلبنانيين، إلا بقدر ما يختارون هم أن يروها كذلك. من بين القضايا المهمة العديدة التي تناولتها مداخلات المثقفين اللبنانيين سيلقي هذا المقال نظرة نقدية إلى قضية الإصلاح الاقتصادي في سورية التي ركز عليها البير داغر، واهتم بها د. جورج قرم، وأشار إليه معظم المشاركين التسع في ملف "النهار" حول "مشروع التغيير في سورية". والهدف هو توضيح تعقيدات القضية وتشابكاتها، وليس ممارسة نوع من "الحمائية المعرفية"، ولا عرض "الأخطاء" اللبنانية على "أصل صحيح" سوري.
*******
إن بنبرته وأسلوبه أو بمضمون طرحه، يتميز تصور ألبير داغر للإصلاح الاقتصادي في سورية بطابع تنفيذي أو أجرائي. والوجه الآخر لموقف الخبير الاقتصادي الذي يقفه داغر هو الزهد في الإشارة إلى السياسة ونظام الحكم والمؤسسات الاجتماعية لمصلحة تصور اقتصادوي للمجتمع، تصور يُضْمر أن السوريين لا يشتكون من أية مشكلات غير اقتصادية، أو أنه لا حاجة بهم إلى الحريات أو القضاء العادل أو حرية تداول المعلومات والحق المتكافئ في الوصول إليها ولا إلى سلطة تشريعية منتخبة بحرية من قبلهم ولا إلى الشعور بكرامتهم وقيمتهم في وطنهم. هذه القدرية الاقتصادية، إن جاز التعبير، عنصر أساسي من عناصر فلسفة الإصلاح الاقتصادي التي كانت تنكر على السوريين حقوقهم السياسية لأنه ينبغي حل مشكلاتهم المعيشية أولاً؛ وبعدها "يحلّها ألف حلال". وبقدر ما تبين أنه لا يمكن إطعام السوريين دون أن "يفتحوا أفواهههم"، فقد أرجئ الإصلاح الاقتصادي إلى حين ... إنجاز الإصلاح الإداري. وهذا ما يصادق عليه الأستاذ داغر بأسلوب متعجل جازم يوحي بأن صاحبه لا يريد إضاعة وقته على الترّهات: "يمثل الإصلاح الإداري الشرط الأهم برأيي لتحقيق الإصلاح الاقتصادي". ولا شك أن هذه الكلام سيقع بردا وسلاما على قلوب أهل القرار السوريين الذي وجدوا في الإصلاح الاداري قناعا يخفي افتقارهم إلى أية رؤية أو خطة إصلاحية منسجمة.
لكن "الاداروية"، كالاقتصادوية، ليست، في السياق السوري الملموس، تفضيلاً مدروساً لهذه الأولوية الإصلاحية أو تلك، وهي لم تنل صدارتها من جهة سياسية منتخبة ولا كانت نتيجة نقاش اجتماعي عام أو تحليل علمي مطروح للتداول وقابل للنقد. وفيما وراء تحديد الأولويات والانتقال من واحدة لأخرى، منذ أيام الوحدة والحرية والاشتراكية وصولا إلى التقافز من مكافحة الفساد إلى الإصلاح الاقتصادي إلى الإصلاح الإداري... (وياله من مسار!)، بقي الرفض الفوقي لمراجعة "الدستور" الحقيقي، الناظم للعلاقة بين الدولة والمجتمع، هو الثابت المبدئي الوحيد. بعبارة أخرى، الإصلاح الاقتصادي ثم الإداري هو خيار سياسي يرفض إعادة النظر في أسس النظام السياسي الواحدي المقيم في البلاد منذ 40 عاما. وكما أشرنا، ثمة "فلسفة" ضمنية في الإداروية والاقتصادوية تقرّ بصلاح التنظيمات السياسية والتشريعية والإعلامية والقضائية القائمة أو تسلم بقدريّتها كمعطيات ثابتة متعالية على التغيير.
يصادر الأستاذ داغر على المطلوب بوصفة البنود الست التي وضعها للإصلاح الاقتصادي في سورية. فشرط صلاحية إصلاحاته المقترحة هو صلاح المؤسسات السياسية والتشريعية والقضائية والإعلامية. لكن لو كان هذا محققاً لكانت اقتراحاته أقل بكثير من أن تفي بمطلوب الإصلاح الاقتصادي السوري، ولما لم يكن واقع الحال كذلك فإن اقتراحاته خارج الموضوع أو إلى جانبه في أحسن الأحوال.
وإذا شئنا الضبط فإن ما هو "غير صالح" في سورية هو (1) السيطرة الشمولية والمباشرة والنشطة لسلطة الدولة على جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإعلامية والثقافية كافة؛ (2) نوعية العلاقة بين السلطة العمومية والمصالح الخصوصية، وهي علاقة تُسخّر فيها الأخيرة الأولى لخدمتها بأشكال تتراوح بين التفاهم والاستيلاء. باختصار، الدولة تسيطر على المجتمع والمصالح الخاصة تسيطر على الدولة. وهذه السيطرة المزدوجة هي ما يجعل من "احتكار العنف المشروع" المشروع الأهم لرعاية وحماية مصالح خاصة وغير شرعية، وهي ما يضمن أن تصدر قوانين مفصلة على قياس منتفعين محددين، وما يتيح لأصحاب المصالح هؤلاء فرصا تمييزية للإطلاع على الشروط المطلوبة لتعاقدات الدولة، وغير ذلك كثير.
ليست هذه العلاقة خطفا للدولة من خواص خارجيين بل تذليل وتسخير لها من عموميين داخليين. كان رئيس الوزراء ميرو، البعثي والداخلي والعام، هو الأكثر حماسا للسياسات الليبرالية الجديدة، بينما كان الدكتور عصام الزعيم، المستقل والخاص والخارجي، هو خصم هذه السياسات. والطور الذي بلغه تماهي السلطة العمومية والمصالح الخصوصية يفسر ما بات يعرف بقضية الدكتور عصام الزعيم الذي لفّقت له، بطريقة "سوريّاليّة"، تهمة اختلاس المال العام (الطريقة "سوريّالية" لأن من أصدروا الأمر بمصادرة أمواله وأموال زوجته يعلمون أين صرف مبلغ 862 مليون ليرة الذي اتهم به، أو بالأحرى أين لم يصرف لأنه لم يلبث أن تبين أن المبلغ ما زال مودعا في المصرف المركزي السوري. أين القضية إذاً؟ ولماذا حجزت أموال الزعيم وزوجته وأسيئ إلى سمعته؟ وهل من حق رئيس الوزراء أن يتدخل في كيفية محاكمة المتهمين العشرين على ذمة "القضية"، طلقاء أو غير طلقاء؟ في عبثهم بمصلحة البلد وسمعته لم يهتم مالكو الدولة بترتيب قضية أكثر تماسكا ضد الوزير السابق ومساعديه. إنه غرور السلطة في أكثر أشكاله صلفا ويقينا بالحصانة المطلقة!). ومن باب توكيل الثعلب بقن الدجاج تم تكليف رئيس الوزراء المنصرف، المتحمس للوصفات الليبرالية الجديدة، بتولي مكتب العمال في القيادة القطرية لحزب البعث الاشتراكي، المكتب الذي يشرف على كل معامل القطاع العام في سورية. ( حول توجهات ميرو الليبرالية الجديدة وخلافه مع الدكتور الزعيم، استفدت من مقالة جمال باروت "قضية الدكتور الزعيم". "البيان" الأماراتية، 8/10/2002).
*********
الدكتور جورج قرم أيضا يقلل من الدور المخرب للفساد بأن يجعل منه "مرضا عالميا" من جهة، ويرهنه بمستوى الأداء الاقتصادي من جهة أخرى. "إن ما يجعل الفساد في أشكاله كافة يثقل على كاهل المواطن، وعلى النتائج الاقتصادية العامة، هو ضعف الأداء الاقتصادي العام، سواء في القطاع العام أو الخاص". ما لا يتبيّنه الدكتور قرم هو أيضا نوعية التشابك العضوي بين السلطة العمومية والمصالح الخصوصية في سورية، أي حقيقة أن الفساد "وظيفة" لنظام سياسي معين لا لنظام اقتصادي غير فعال ولا لمستوى إنتاجي متدن. موقع الفساد في السياسة وليس في الاقتصاد، وفي الدولة وليس في المجتمع المدني. وإعادة إنتاج الفساد تمر بالضرورة بإعادة إنتاج علاقات السلطة القسرية. وهو ما يعني أن الانتقال إلى "أداء اقتصادي عام" تتدنى نسبة ريوع الفساد فيه يقتضي مراجعة العلاقة السياسية المنتجة للفساد والحامية له. ورغم أن الدكتور قرم يهتم بالطابع الريعي للاقتصادات العربية فإنه يُغفل ما قد نسميه الريع السياسي أو ريع السيطرة، أعني الدخل المتولد عن امتلاك السلطة أو احتكارها، وهو ( وليس رشوة الموظفين أو عناصر الشرطة...) الشكل الأساسي والأكبر الفساد في سورية. وهذا إغفال غريب بالنظر إلى أن امتداد علاقة الريع السياسي إلى العلاقة السورية اللبنانية غير المتكافئة، وبخاصة في الثمانينات، لم تكن له مفعولات مفقرة ماديا للبنان ومخربة سياسيا واجتماعيا في سورية، بل هو عنصر مفسر لما رآه د. قرم من "أن الاقتصاد الريعي لا يشجع على الانفتاح الديمقراطي والحوار الشفاف" (وإن كنا نرى أن الريع هنا دخل مترتب على امتلاك "أصل" خاص جدا هو القوة، الأمر الذي يجعله أقرب ما يمكن إلى مفهوم الغنيمة). وعلى كل حال تفسر الريعية السياسية، وهي أهم أشكال الفساد، جمود مستوى التبادل التجاري بين البلدين عند مستوى 5%، أي أخفض من النسبة المنخفضة أصلاً للتجارة البينية العربية.
المسألة، تالياً، ليست "الادعاء المثالي بإمكان القضاء على الفساد تماما" كما يصورها الدكتور قرم، بل الحاجة الحيوية لمنع الفساد من التسبب بالقضاء تماما على الدولة والمجتمع... والأداء الاقتصادي العام.
يقدم د. قرم جرعة علاجية مفيدة ضد الخطاب الديمقراطي العائم حين يقول بشجاعة إنه لا يهمه "الوقوف أما شكليات الديمقراطية، فالخطوة الأولى ... هي ممارسة المجتمع بشكل جماعي كل أساليب العلم والتكنولوجيا". لكنه هنا أيضا يغفل النوعية المتدنية للنخب السياسية الريعية، ويفترض، كما الأستاذ داغر، كحل ما يحتاج هو ذاته إلى حل: نخب عقلانية تعيش للسياسة والدولة ولا تعتاش منهما (حسب تمييز لماكس فيبر)، واستقلال الاقتصاد عن العقيدة الحزبية والقرابة والقوة.
إذا كان لا يتسنى "تحقيق تنمية اقتصادية منفتحة على الخارج" إلا بـ"وجود نخبة سياسية معنية [بها]...وقادرة على وضع هذا الهدف فوق كل الأهداف، وجعله أولوية لا تعلوها أولية أخرى"، كما يقول الأستاذ داغر، فإن أولوية الأولويات جميعا هي تأهيل هذه النخبة السياسية وتمدينها. فلا إصلاح بلا إصلاحيين صالحين.