بصورة عامة، فإننا نجد أن اليساريين العرب تفادوا ويتفادون الكلام عن النهضة والنهوض، ويفضلون التحدث عن التحرر الوطني والتنمية بالوسائل الاشتراكية. ونلمس هذا النزوع بجلاء لدى جميع المدارس اليسارية على اختلاف رؤاها ومشاربها. فهي تتفق جميعا على إيلاء التحرر الوطني التنموي، أو ما يسمى الثورة الوطنية الديموقراطية في الأدبيات الماركسية العربية، الأهمية القصوى، لكنها تختلف فيما بينها بصدد مضمون هذه الثورة وطرائق تحقيقها. وحين يستعمل بعض اليساريين العرب مفهوم النهضة أو النهوض، فإنهم يستعملونه بتأثير التيار القومي تحديداً، لكنهم يكسبونه معنى التحرر الوطني التنموي اليساري التقليدي.
وبرغم تعدد المدارس اليسارية العربية، إلا أنه يمكن تقسيمها إلى جناحين رئيسيين فيما يتعلق بموقفها من مسألة الثورة الوطنية الديموقراطية. فهناك الجناح الحزبي الرسمي الإصلاحي الطابع، وهو الجناح الذي سيطر على الحركة اليسارية العربية منذ منتصف الثلاثينيات وحتى يومنا هذا. وقد تأثر هذا الجناح بصورة جوهرية بالموقف السوفييتي الرسمي وخطاب السلطة السوفييتية والدبلوماسية السوفييتية. وبعد إلغاء الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية الأوروبية، تبنى ضربا ساذجاً من الليبرالية الاجتماعية. وبصورة عامة، فقد بنى هذا الجناح تصوره للثورة الوطنية الديموقراطية ليس ارتكازاُ إلى تحليل ماركسي معمق للواقع التاريخي للأمة العربية، وإنما ارتكازاً إلى التحليلات السوفييتية الرسمية المنطلقة من مقتضيات الدبلوماسية السوفييتية المتغيرة. لذلك مال هذا الجناح إلى اعتبار النظام القطري العربي نظاماً تاريخيا طبيعيا، تماماً كما كانت تعتبره هيئة الأمم المتحدة أو الدبلوماسية السوفييتية. بل ذهب بعض اليساريين إلى اعتبار شعوب الأقطار العربية أمماً في طور التكوين. كذلك، وبرغم تأكيد الماركسية الكلاسيكية على الجوهر الاقتصادي الطبقي للاستعمار والإمبريالية، إلا أن الجناح الرسمي الإصلاحي لليسار العربي كان يميل إلى اعتباره مجرد ظاهرة سياسية تنتهي بمجرد استلام ما يسمى البرجوازية الوطنية الحكم. لذلك مال هذا الجناح إلى دعم البرجوازيات الوطنية العربية في سعيها المزعوم صوب إزالة السيطرة الاستعمارية والإقطاع المحلي. إذ مال هذا الجناح إلى إسقاط الأنموذج الأوروبي الغربي الرأسمالي الجاهز على الأقطار العربية المختلفة نوعيا عنه. لذلك اعتبر أن الأقطار العربية ما زالت في المرحلة الإقطاعية، وكأن الاستعمار أبقاها كما هي وتركها كما دخلها. من ثم، فإن طريق التحرر الوطني والتنمية، في نظر هذا الجناح، هو طريق التحالف مع ما يسمى البرجوازية الوطنية ودعمها من أجل التحرر السياسي من الاستعمار والتحرر الاجتماعي من الإقطاع. إن المرحلة الحالية هي مرحلة البرجوازية الوطنية. أما اليسار، فلم يأتِ يومه بعد. وما عليه سوى مؤازرة البرجوازية الوطنية في ثورتها الوطنية الديموقراطية في مجابهة الاستعمار وقوى الإقطاع المحلي. هناك إذاً تأكيد لدى هذا الجناح على القطرية والبرجوازية الوطنية ودعمها. وعندما تعذر العثور على برجوازية وطنية جديرة بهذا الاسم في الأقطار العربية، حول اليسار الرسمي العربي دعمه صوب شرائح البرجوازية الصغيرة القوموية والتنموية الطابع والتي اعتلت سدة الحكم في سوريا والعراق ومصر وليبيا والجزائر، معتبراً إياها البديل (ربما البورنابرتي) للبرجوازية الوطنية. ولعل هذا المنظور اللاتاريخي التابع هو الذي كان مسؤولاً عن الأخطاء الكبرى التي وقع فيها اليسار الرسمي العربي، وفي مقدمتها اعتبارالكيان الصهيوني كيانا طبيعيا على قدم وساق مع الكيانات الأخرى في المنطقة، ومن ثم اعتبار التسوية معه أمراً ممكنا، والتقاعس عن قيادة الجماهير صوب السلطة السياسية في اللحظات الحاسمة (مثلاً، عام 1958 في العراق)، وإغفال أهمية الوحدة الثقافية للمنطقة العربية، تلك الوحدة الكيانية التي تشكلت عبر آلاف السنين من التطورات الدسمة.
أما الجناح الرئيسي الثاني لليسار العربي، فهو الجناح الماركسي الثوري، أو تيار التحرر القومي، الذي ظل مهمشاً على الصعيد السياسي، برغم ثقله الفكري، وذلك بفعل عوامل متنوعة من ضمنها التخلف الثقافي المريع الذي يعاني منه الوطن العربي الحديث. وقد نشأ هذا الجناح في مطلع الثلاثينيات من القرن العشرين بفعل ثلاثة عوامل رئيسية هي: حركة التنوير العربية، حركة المقاومة الوطنية في الأقطار العربية، ثورة أكتوبر البلشفية. وكان توجه هذا الجناح منذ البدء ثوريا ووحدويا. لكن القيادات الشيوعية الرسمية عمدت إلى تصفية هذا الجناح أو إضعافه وتهميشه. وبالفعل، ظل كذلك لعقود حتى تم إحياؤه من جديد عقب حرب حزيران 1967، بفعل عوامل متنوعة، وفي مقدمتها: تصاعد حركات التحرر الوطني في جنوبي شرقي آسيا وأميركا اللاتينية وإفريقيا، والثورة الفلسطينية، والحركة الطلابية في أوروبا، وبروز تيارات ماركسية بديلة للشيوعية السوفييتية، كالتيارات المتأثرة بماو وتشي وتروتسكي وغرامشي وألتوسير وتيارات اليسار الجديد، وغيرها من العوامل. وفي مقدمة رموز هذا الجناح لليسار العربي: سمير أمين، مهدي عامل، إلياس مرقص، ياسين الحافظ، صادق جلال العظم، فوزي منصور.
وقد تميز هذا الجناح عن الجناح الرسمي الإصلاحي بإدراكه النقاط الآتية:
أدرك هذا الجناح خطأ تطبيق النماذج الغربية الجاهزة على الواقع القطري العربي الحديث، فلجأ إلى إبداع مفهومات ونماذج ماركسية جديدة لاستنطاق هذا الواقع، مثل مفهوم نمط الإنتاج الكولونيالي لدى الشهيد مهدي عامل.
ركز هذا الجناح على فهم آليات إلحاق الوطن العربي بالرأسمالية الغربية في القرنين الأخيرين، وأدرك أن الوطن العربي الحديث ليس مجرد امتداد للعقل العباسي مثلاُ أو للإقطاع الإسلامي أو للحضارة العربية الإسلامية، وإنما هو نتاج ثلاثة عوامل رئيسية: عصور الانحطاط للحضارة العربية الإسلامية، التغلغل الرأسمالي الغربي والسيطرة الإمبريالية الغربية، حركة المقاومة والتحديث العربية الحديثة. وأدرك هذا الجناح بالتحديد الطابع الشمولي للهيمنة الإمبريالية، أي أدرك أن الإمبريالية الرأسمالية لا تكتفي بنهب مستعمراتها، كما هو الحال مع الاستعمار القديم، وإنما تلجأ أيضاً إلى تفكيك البنى الاقتصادية والسياسية والثقافية القائمة في المستعمرات وإلى إعادة تركيبها بما ينسجم مع مقتضيات تراكم الرأسمال في المراكز الإمبريالية. فهي إذاً عملية إلحاق بنيوية. ومن ذلك تنبع علاقة التبعية البنيوية بين الوطن العربي الحديث والمراكز الإمبريالية الغربية الكبرى. فشروط إعادة إنتاج المجتمع العربي الحديث لا توجد فيه، وإنما في المراكز الإمبريالية الغربية الكبرى.
من ثم، أدرك هذا الجناح أن التقسيمات الحدودية السياسية في الوطن العربي الحديث ليست تقسيمات تاريخية طبيعية، وإنما هي جزء لا يتجزأ من نظام التبعية والتخلف ولها دور جوهري في لجم قوى الإنتاج والتنمية العربية لصالح المراكز الإمبريالية الغربية الكبرى. ومن ذلك ينبع الطابع الوحدوي العربي لهذا الجناح. فهو يدرك أن تفتيت الأمة العربية وتجزئتها هو آلية أساسية من آليات الهيمنة الغربية، وأن الجهود الوحدوية العربية، بالمقابل، هي آلية أساسية من آليات تنظيم المقاومة في وجه العدوان الإمبريالي ومن آليات التحرر القومي. لذلك، يؤكد هذا الجناح على الوحدة العربية بوصفها مهمة أساسية من مهمات الثورة الوطنية الديموقراطية. لكنه يربط هذه المهمة بصورة وثيقة بمهمة فك ارتباط الوطن العربي بالمراكز الإمبريالية الغربية الكبرى، ومهمة تنمية الوطن العربي وتحديثه. فلئن كان التفتيت هو منطق الهيمنة الإمبريالية، فإن الوحدة القومية على أسس تنموية هي منطق التحرر الوطني والاستقلال والتحديث.
وأدرك الجناح الماركسي الثوري أيضاً أنه، لئن كان المجتمع العربي الحديث رأسمالياً تابعاً، وليس إقطاعيا تقليديا،ولئن كانت سماته ما قبل الرأسمالية نابعة من كونه رأسماليا تابعاً، لا من كونه إقطاعيا، فإن برجوازيته هي في جوهرها ليست برجوازية وطنية على غرار ما كان سائداً في المراكز الرأسمالية الكبرى، وإنما هي برجوازية طفيلية تابعة تنقصها الثقافة البرجوازية الإنتاجية الغربية. وهي لا تحمل في أحشائها مشروعاً تنمويا جديداً، على غرار البرجوازيات الغربية في مراحل صعودها، وإنما تجسد التبعية للرأسمال المركزي وتعد واحدة من آلياته الرئيسية. من ثم، فهي ليست في حالة مجابهة مع الإمبريالية والقوى ما قبل الرأسمالية، وإنما هي مكمل لها. إنها ليست نقيضا للواقع العربي الراهن، وإنما هي تعبير رئيسي عنه. وعليه، فإن التحالف معها ودعمها يعد تواطؤاً في ترسيخ الوضع القائم وإدامته. أما الموقف الصحيح فهو يتمثل في مواجهة البرجوازية التابعة في سياق تحقيق مهمات الثورة الوطنية الديموقراطية. فالبرجوازية التابعة ليست فقط غير مؤهلة لتحقيق هذه المهمات، وإنما هي أيضا عائق أساسي من عوائق تحقيقها. إن على قوى التغيير أن تلجأ إلى تغيير علائق الإنتاج الرأسمالية التابعة، التي تشكل أساس التبعية والتخلف في الوطن العربي، صوب علائق إنتاج تنموية تنطوي على فك الارتباط مع المراكز الإمبريالية الكبرى وتخطي الرأسمالية وإطلاق الطاقات الإنتاجية العربية المهدورة. ولكن، ما هي القوى المؤهلة فعلاً لتحقيق هذه المهمات الكبرى؟ إن الإجابة التقليدية لدى الجناح الماركسي الثوري هي أن الطبقات الكادحة من عمال وفلاحين وحرفيين وصغار موظفين وجنود هي المؤهلة موضوعيا لتحقيق هذه المهمات الكبرى. لكن، ينقصها بصورة عامة الوعي والتنظيم والمنظمات الشعبية النشطة وتوحيد الجهود. ومن ذلك ينبع تأكيد هذا الجناح على الدور المحوري للمثقفين الثوريين والحزب اللينيني الثوري. فالمثقف الثوري المنظم هو الإسمنت المسلح الذي يخلق كتلة صلبة قادرة على الفعل التاريخي من الوسط الجماهيري الهلامي. إنه قوة الربط اللازمة لتكوين الطبقات الاجتماعية الواعية لدورها التاريخي. وبالطبع، فإن هذه الإجابة مثقلة بالإشكالات النظرية والواقعية، التي قد لا تجد حّلاً لها ضمن إطار الواقع الراهن، وإنما ببروز بنى وأطر وظروف جديدة لما تنضج.
يعمد الجناح الماركسي الثوري إلى تفادي الفصل بين مهمات الثورة الوطنية الديموقراطية ومهمات الثورة الاشتراكية، وذلك بالنظر إلى كون القوة الاجتماعية ذاتها، أعني الكادحين بقيادة الطبقة العاملة، هي المخولة لتحقيق الثورتين. فالمرحلتان أو الثورتان ليستا معزولتين عن بعضهما ولا مفصولتين زمنيا عن بعضهما، وإنما مندغمتان معاً اندغاماً جدليا محكماً. بل إن مهمات الثورة الوطنية الديموقراطية لا يمكن أن تتحقق في الوطن العربي، وفق الجناح الثوري، إلا بالوسائل الاشتراكية. وبالتحديد، فإن القضية الكبرى التي تجابه الوطن العربي اليوم هي قضية علاقات الملكية وطبيعة القوى التي تتحكم في الموارد المادية والبشرية للأمة العربية، بما في ذلك الأرض. ويرى الجناح الثوري أن جزءاً كبيراً ومهما من هذه الموارد تتحكم فيه الإمبريالية الأميركية والصهيونية العالمية، إما بصورة مباشرة وإما عبر الفئات والعصابات الطبقية الطفيلية ومؤسسات الفساد المستشرية في الوطن العربي. ويرى أن المهمة الكبرى الملقاة على عاتق قوى التحرر القومي هي تحرير هذه الموارد من أيدي قوى النهب والهدر ووضعها تحت تصرف المؤسسات الديموقراطية الشعبية من أجل تسخيرها لإطلاق الطاقات التنموية الكامنة في الجماهير العربية وتنظيمها وبناء الإنسان العربي وقدراته، وذلك على أساس خطة تنموية علمية شاملة تنفذ ديموقراطيا وشعبيا. وهذا فعل اشتراكي ديموقراطي. من ثم فإن تحقيق المهمات الوطنية الديموقراطية الكبرى، مثل الاستقلال الفعلي والوحدة القومية والتصنيع والإصلاح الزراعي والتحديث وتوفير شرط الديموقراطية والحرية، لا يمكن أن يتم إلا بالوسائل الاشتراكية، كالملكية العامة وبناء المؤسسات الديموقراطية الشعبية. فلما كانت الجماهير الشعبية المنظمة هي القوة اللازمة لتحقيق المهمات الوطنية الديموقراطية، كان لا بدّ أن ينطوي تنفيذ المهمات الوطنية الديموقراطية على تنفيذ بعض المهمات الاشتراكية على الأقل. وهذا في الواقع هو ما أسماه تروتسكي الثورة الدائمة. وينبغي أن نؤكد هنا على أن عملية الاستقلال الشاملة التي ينادي بها الجناح الماركسي الثوري تنطوي بالضرورة على تحرير الأرض العربية، المورد العربي الأول، من الهيمنة الاستعمارية، وفي مقدمتها الأرض الفلسطينية المحتلة من قبل العدو الصهيوني. من ثم، فإن هذا الجناح يدعو إلى مقاومة هذا العدو بهدف تفكيكه وتصفيته في سياق تصفية النفوذ الإمبريالي برمته، والذي يشكل الكيان الصهيوني رأس الحربة منه.
هذا باختصار هو التصور اليساري العربي للنهضة والنهوض. إن النهوض، وفق الجناح الماركسي الثوري على الأقل، هو فعل وحدوي اشتراكي تنموي.