يبدو أنه كلما تطورت وسائل الإعلام : المقروءة منها والمسموعة والمرئية، فإننا نكون، كذلك، أمام إشكالٍ يزداد، ويتضخم.. بأكثر..، إلي درجةٍ مخيفة، لأنه مع زيادة اتساع أفواه المطابع، فإن ذلك يرتب ازدياد شهوتها وحاجتها في المقابل إلي أقلام تكتب لملء المساحات البيضاء، من دون النظر كثيراً في قيمة وأهمية هذه الأقلام ومدي جديتها.
وطبيعي، أنه في مثل هذا الحال، تتخلخل المقاييس، إذ أن الغث ليستوي بالسمين، والرخيص بالنفيس، وهذا بالتأكيد لينعكس علي سوية الإبداع، إذ ان رديء الكتابة يتسلح ــ هو الآخر ــ بمسوغات حضوره، وليت الأمر يبقي في هذه الحدود، بل أن هذا الضرب الرديء، ليؤسس لعزلة الإبداع الحقيقي، والتعتيم عليه واعتباره مروقاً علي ما هو إبداعي..!
ومن هنا، وفي ظل هكذا واقع بائس ــ فان الكثير من الكتبة الدونكيشوتيين ــ يظهرون في الساحة الثقافية، ليرصعوا أكتافهم بنجوم زائفة، ويتقلدوا ــ بالتالي ــ أوسمة خلبية، لهذا فاننا لنجد مناظر جحافل وطوابير مدعي الشعر والمتطفلين علي موائد الصحافة وسائر ضروب الكتابة، تصفع نواظرنا ونحن نقرأ الصحف وإصدارات الكتب الجديدة، بل ــ وما ينشر مؤخراً في مواقع الانترنت ــ يقدمون موادّ تدفع إلي الغثيان، ليبرز : الشاعر الزائف والناقد الدعي، والباحث الخاوي، والروائي الأجوف، والكاتب الهش... وهلم جرا.
ولأننا اعتدنا ــ يومياً ــ أن نلتقي بنماذج دعية من أفواج أشباه الشعراء، كتائب وأشباه الكتاب المدرعة، فاننا بدأنا نجد في هذه الأيام ظهور موضة جديدة حيث بات هناك من يدعي أنه باحث، أو مفكر، أجل باحث... ومفكر ولا أدري ماذا بعد وبعد أيضاً...؟
ومن الطرائف التي حدثت معي أن عدداً من أصدقائي الكتاب تحدثوا عن باحث دعيّ، وبدأوا يبحثون عن مصطلح مناسب له ولأمثاله، فقلت، وعلي طريقة أرخميدس ونيوتن: أجل لقد وجدتها! انه باحث عن دولارات لا أكثر...، فقهقه كل من كان حولي، ورحنا نبحث عن مصطلحات وألقاب بديلة لكل الأدعياء.
ولشد ما آلمني، وأنا أقرأ ــ منذ أيام ــ أن أحد المؤلفين قد ذيل له مقال بعبارة : مفكر... وهذه هي المرة الثانية التي أقرأ هكذا تعريف لهذا الكائن... العجيب، حيث انني خلت في المرة الأولي أن خطأ مطبعياً قد تم، كما حدث معه نفسه ذات مرة عندما قدم لاسمه بحرف ( د.) وهو لا يحمل إلا شهادة الدراسة الثانوية... فقط.. أو لا أدري في ما إذا كان يحمل شهادات أخري مثل : (شهادة عدم الإصابة بالإيدز... أو شهادة السواقة.. إلخ) أو لا.. وعندما تعود إلي كتابات ذلك الباحث، أو هذا المفكر.. فلا تجد فيهما إلا ــ كولجة ــ لآراء الآخرين، من دون أن تكون لأي منهما بصمته الواضحة في ما يكتب.
وإذا كان بالإمكان هنا أن أورد عشرات الأمثلة، علي أسماء وكتابات المدعين دونما أي حرج، فان القارئ أيضاً ليتذكر أسماء كثيرين ممن تسوغ لهم أنفسهم استرخاص الألقاب، والتذرع بها دونما خجل أو حياء، لذلك أجد أن كل الغياري علي طهارة الحرف وقدسية الكلمة مدعوون لقرع أجراس الخطر.. حرصاً علي الإبداع الذي هو بالتأكيد جوهر وروح حضارة أي مجتمع أو أية أمة.. اللهم إني بلغت... اللهم إني بلغت.