تشوه الدكتاتورية المجتمع وتطبعه على صورة الدكتاتور وهي صورة وحش ينهض من قبو تاريخ مضطرب وثقافة تعاني من عجز عقلي في بناء مساحة جديدة للأمل.
وكما تشوه المجتمع تشوه معه الفرد الذي يعيش كل لحظة نتائج وتجليات القمع وتزرعه بالعقد التي تتفاوت في الشدة والقوة حسب الأفراد والفترة والثقافة والموقع، لكن من المؤكد أن النجاة صعبة خاصة في حال طول المدة.
وأول العقد الكريهة التي تزرعها الفاشية والاستبداد، هي عقدة( الشعور بالعار) في نفوس الضحايا، وحتى في نفوس الجلادين أحيانا: من معطف هذه العقدة خرج الدكتاتور، وقد نغصت عليه عيشه، وحياته، ودمرت توازنه النفسي والسلوكي لذلك حاول( تعميم) هذا الشعور على ضحاياه: اغتصاب الناس في السجون، تلويث نساء أسر شريفة، إجبار الآخرين على سلوك غير مقبول بالقوة في السجون أو الإغواء، التشفي برؤية الناس يركعون عند قدمي الدكتاتور من اجل مساعدتهم...الخ... أفعال الخسة الكثيرة والمعروفة.
وفي هذه الحلقة سنحاول أن نستفيد( بترك اللغة السياسية الميتة!) من النتائج الدقيقة والحكيمة والعلمية التي توصل إليها علم النفس وعلم النفس الاجتماعي وبصورة خاصة الكتاب القيم للدكتور مصطفى حجازي( التخلف الاجتماعي: سيكولوجيا الإنسان المقهور) وكتاب عالم النفس الفرنسي الشهير بيير داكو( الانتصارات المذهلة لعلم النفس الحديث) فيما يتعلق بالطريقة التي يولد فيها القمع عقدة الشعور بالعار والطرق الملتوية( السياسية، والثقافية، والإصلاحية!) التي تظهر فيها على نحو مخادع ومراوغ، كما سنعتمد كذلك على نتائج التأملات العميقة والطويلة للتجربة اليومية واستحضار لنماذج حاضرة في الذهن وفي حقل الممارسة اليومية كظواهر مرضية تظهر في لباس مموه. والتمويه خاصية معروفة لعقدة الشعور بالعار.
يعرف الأستاذ مصطفى حجازي هذه العقدة على أنها:( التتمة الطبيعية لعقدة النقص. الإنسان المقهور يخجل من ذاته، يعيش وضعه كعار وجودي يصعب احتماله.إنه في حالة دفاع دائم ضد افتضاح أمره، افتضاح عجزه وبؤسه.ولذلك فالسترة هي إحدى هواجسه الأساسية.إنه الكائن المعرض ويخشى أن ينكشف باستمرار، يخشى أن لا يقوى على الصمود. يتمسك بشدة بالمظاهر التي تشكل سترا واقيا لبؤسه الداخلي. هاجس الفضيحة يخيم عليه. حساسيته مفرطة جدا لكل ما يهدد المظهر الخارجي الذي يحاول أن يقدم نفسه من خلاله للآخرين. لذلك فإن جدلية ما يخفي وما يعلن، تجعله يعيش في حالة امتحان دائم، وتهديد دائم بفقدان توازنه من خلال فقدان دفاعاته، وتعري حياته الحميمة التي يجتر مأساتها بصمت. نظرة الآخرين، تعليقاتهم،تكسب قوة شديدة الوطأة على نفسه، تهدد مكانته الركيكة، واعتباره الذاتي الذي يحافظ عليه بمشقة بالغة. لذلك فان العزة والكرامة تحتل مكانة أساسية في خطاب الإنسان المقهور:بقاء الرأس مرفوعا، الاحتماء من كلام الناس.. قضايا مصيرية بالنسبة إليه. يستطيع الإنسان أن يعيش بدون خبز لكنه يفقد كيانه الإنساني إذا فقد كرامته وظل عاريا أمام عاره. تلك النقطة التي تنهار معها الطاقة على احتمال مأساة القهر والبؤس).
إذن يمكن تحديد حركة سلوك صاحب عقدة الشعور بالعار وحسب الوصف السابق الذي تدعمه التجربة الحياتية للمقهورين بقوة كما يلي:
ـ يخجل من وجوده كعار ـ يراوغ ويهرب من هذه العقدة ببناء دفاعات وترسانة قوية دفاعية لأتفه الأسباب لأنه قلق وغير واثق وغير آمن وهش ومعطوب من الداخل. يلجأ "للسترة" والاندفاعية لكي لا تنهار الواجهة الخارجية ولو بكلمة أو دبوس ويكرر دفاعه في كل مرة حتى على سقوط ريشة من السماء كأن السماء أطبقت على الأرض كما حصل لكتكوت في حكاية للأطفال حين دخل المدينة زاعقا من سقوط ورقة من شجرة ـ يعذبه الخوف من الانكشاف وثقب "الواجهة الخارجية" التي يبرع في صنعها ولكي لا يعرف الآخرون أن الواجهة لا تتناسب مع حجم الطاقات الحقيقية ـ التمسك بشدة بالمظاهر ـ حساس جدا إزاء أي عطب يصيب الواجهة الخارجية ، نقد مثلا ـ يعيش في هوس ما يقال أو لا يقال عنه لأن هذا يشكل تهديدا لكيانه الركيك، ويقرأ رسائل سرية مشفرة في أكثر الأفعال والأقوال براءة لأن" التهديد" الداخلي يقرع جرس الإنذار ما أن يقترب أحد ما، صدفة، من حقل العقد أو الألغام ـ وتحويل الأخطاء البشرية العادية للآخرين إلى جرائم لأن جهاز الرؤية عاطل ومشوش والذات متصدعة و ملغية ومحذوفة لصالح شعور كريه بالعار صار يرى ويفكر "بالإنابة" عن ذات مطمورة تحت ركام من العقد الصفراء. وفي هذه الحالة تنعدم مساحة الوضوح أو تضيق ويصبح "التركيز" قويا، وينعدم "التأمل" الذي هو خاصية مهمة للرؤية الواسعة الواضحة الهادئة كالنعاس اللذيذ اليقظ الشبيه بحلم كثيف وشفاف وعذب.
والمشكلة هي أن هذه المشاعر لا تظهر في صورتها الأصلية كمشاعر مرضية، بل تتقنع بأردية وألبسة للغش وتبدو للعيان على نحو مخالف، بل معاكس لصورتها الحقيقية: تظهر، في سلوك النخب السياسية والثقافية والدينية مثلا، في صورة خطاب إصلاحي، توبيخي، تحقيري، تشهيري، شعاره الإصلاح الاجتماعي والأخلاقي، وباطنه نفي مشاعر القلق وأزاحتها بعيدا بعد تلبيس الآخرين بها أو ما يسمى "الإسقاط" أي ترحيل عقدة أو مجموعة عقد على آخرين في سلوك اجتنابي هروبي من مواجهة عار شخصي ودفعه نحو عدو حقيقي أو متخيل أو مصنوع على عجل تلبية لحاجة نفسية ملحة.
والغريب أن سيكولوجيا المصاب بعقدة الشعور بالعار تتسم بالجبن والضعف والرعب الداخلي الذي يعبر عن نفسه في صورة سلوك اندفاعي أهوج جرئ لكي يهرب من صورة داخلية مهزوزة واخزة.
حسب بيير داكو فإن( الاندفاعية مرتبطة بصورة خاصة بحب الذات وقابلية التأثر. إنها استجابة سيكولوجية اجتماعية) وهذه الاندفاعية هي شكل من أشكال الانهيار النفسي الذي يبدو في غير صورته على شكل قوة: وفي مجتمعنا، وهنا الطامة الكبرى، لا نميز بين الصفاقة وبين الجرأة، لأن الجرأة عذبة، سهلة، عفوية، باسطة، جميلة، يقظة هادئة، لا تجرح، رقيقة، في حين ان الصفاقة خدش وجرح للكرامة بل هي سلوك قنفذي كريه مموه في غير صورته الحقيقية: كل استعراض علني أو ثقافي أو جسدي أو نفسي يخفي في العمق جبن داخلي وضعف مخجل وهشاشة فظيعة.
ويصبح وجود هذا الكائن رهينة بيد الآخرين. ولكي يحافظ على ( الواجهة الخارجية) من الثقوب والنقد يلجأ، كجزء من أسلوب مرائي مخادع، إلى تقنيات في غاية المكر مثل الظهور بمظهر العفة أو المثالية أو صاحب "اليد الممدودة" في وقت الضيق أو الكرم المبالغ فيه... الخ.. الأفعال الخيرة التي تدخل في نطاق صناعة واجهة متينة من الخارج للتمويه على عار داخلي. وحسب ما يقول أحد علماء النفس بأن البشرية قد تعرف يوما أن أفعال خير كثيرة قام بها أشخاص مرضى ومعقدون لأهداف لا صلة للخير فيها بل للتغطية على عار داخلي أو لإذلال الآخرين كشخص مغرم بولائم لأصدقاء دون أن يتمتع هو نفسه، وكل متعته تتجسد في رؤية هؤلاء يأكلون على مائدته أو شرفه وهو يتعلق في نهاية الحفل بنظرة إعجاب أو كلمة ثناء تعوض عليه كل الخسارة المادية. وفي مشهد عملاق من مشاهد مسرحية لشكسبير لا يحضرني اسمها مع الأسف يموت قتلا أحد شخوص المسرحية دفاعا عن شخص يكرهه لكي يهينه ويثبت له أنه أكثر شجاعة منه: هذه هي صورة "المرائي" الذي يلبس ثوب الفضيلة!
بهذا الشكل تظهر عقدة الشعور بالعار في مظاهر وتجليات كثيرة مموهة ومقنّعة( قناع) حتى يصعب في حالات محددة تمييزها لخبير محترف في علم النفس وكما يقول بيير داكو: في حوزة هؤلاء أقنعة مختلفة.فكم من الأشخاص الذين يخفون حاجتهم للسيطرة تحت قناع من" الطيبة" المفرطة، علما بأنها حاجة لا شعورية للسيطرة؟وهؤلاء هم تشكيلة من المتسلطين، المستبدين، المهووسين، المتشددين بمغالاة، المدققين، الحردين، الغيورين، النزقين، الحقودين.... الخ السلالة.
ونزعة " السيطرة" كل نزعة سيطرة بلا استثناء، تنبع من عقدة الشعور بالعار( السلطوي عدواني لكنه ضعيف) .إنه عصاب للهرب والتعويض عن مشاعر عار كريهة بالظهور في مظهر قوة خادعة هربا من جبن داخلي.
والغريب، حسب المفكر فرانز فانون، ان الضحية المصابة بعقدة الشعور بالعار لا تقترب من ضحية قوية لكي تمارس ضدها مشاعر قهر للتنفيس لأن جلادها الأول زرع في داخلها الرعب من القوة والقوي لذلك تلجأ( في أقذر سلوك انتقائي عرفته البشرية) للبحث عن ضحية هالكة ومشرفة على الموت كي تنفس عن قهرها من خلالها في سلوك يتسم بالجبن والدناءة والحقارة وهذه من نتائج القمع: تشويه المخلوقات وتشويه الحياة.
هؤلاء يسميهم بيير داكو( مستنزفي الطاقة) لأنهم يقضون حياتهم في تلميع الواجهة الخارجية على حساب البناء الداخلي، بل على حساب العيش السوي والممتع والعفوي لأن عقدة الشعور بالعار أو عقدة الشعور بالدونية تعيش كمسمار داخلي في صميم العضوية الشخصية وتصدعها وتجرحها كل لحظة وأمام أشد الأفعال والأقوال براءة وعفوية.
لذلك يمكن القول بكل ثقة وطمأنينة بأن نهاية الدكتاتور الحقيقية ليست في الحل السياسي أو العسكري فحسب، ليست في موته، ليست في القبض عليه، بل في إعادة بناء الإنسان المخرب وهذه ليست مهمة رجال السياسة الذين يعانون من هذا التخريب والجروح النفسية العميقة، بل هي مهمة النخب الفكرية والثقافية الناجية من العاهة، مهمة الفرقة الوحيدة الناجية التي لم تلوثها أصابع العار الطويلة والتي احتمت من عواصف التشوه داخل براءتها وطفولتها كما يحتمي ثعلب قطبي داخل مغارة ثلجية!