حسن جميل الحريس
الحوار المتمدن-العدد: 2235 - 2008 / 3 / 29 - 08:39
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
اعتمدت ماسونية ما قبل الميلاد على طرح أفكارها الوثنية بإيجاد مادة عقائدية روحية تتملك ذات الفرد كاملة عبر اختراقات مادية متداولة لشخصيات أسطورية مختلفة منها البشرية والحيوانية والكونية بسلسلة روايات محكية حاكتها بشكل دراماتيكي معلن , ولكنها فقدت مخزونها حين أغفلت في عقدتها الباطنية نقطتين أساسيتين :
1 – أنها لم تحدد زمن تلك الشخصيات بدقة إنما تركته غامضاً مبهماً وغير متسلسل تماماً في جذوره الأولى إذ ربطته بزمن ما قبل الطوفان لدهور عدة ( أي نسبته إلى الزمن الأول للخليقة عامة دون أن تحدد تاريخه فعلياً ) وجعلت تلك الشخصيات على هذه الشاكلة وكأنها مقدسة وغير قابلة للجدل أو التعرض لها , وبذلك نسفت وجود الذات الإلهية المقدسة فجعلت للخالق شركاء وهميين كأبناء له أو كزوجات أو أحفاد أو غير ذلك من الروابط الأسرية المعروفة .
2 – وأنها لم تحدد كذلك أماكن وجود هذه الآلهة المرسومة بنسيجها بل تركتها عامة شملت كافة بقع الكون المادية في السماء والأرض معاً كي تضمن بهذا حتمية وجودها عملياً .
ولقد اهتمت بإبراز نمطها الروحي هذا كي تمتلك القدرة على إقناع شعوبها بأنهم مجرد عبيد لها لتتمكن من حكمهم والاستبداد بهم بظل خوارق مادية وغيبية نسبتها لقدرات تلك الآلهة الوهمية العابثة , وبذلك استطاعت أن تنسب كل القيم الأخلاقية الخاصة بالخالق الحقيقي كالمودة والخير والشر والانتقام والوفاء والإخلاص والانتماء واللعنة والعذاب وغيرها لتصبح بمتناول يد تلك الشخصيات الخرافية الفوضوية الخارقة وكأنها بهذا فرضت على شعوبها الطاعة العمياء لها ( فمن أحبه ذاك الإله استطاع أن يضمن رضاه وعفوه وبالتالي أسعده في الدنيا والآخرة ) , إنها نمطية الاستعباد والاستبداد المنظمة بصورة رسخت لعملية مدروسة هدفها تفريغ ذات الفرد وحشوه بتلك الماديات الخارقة على هيئة أحداث مقدسة دائمة , وقد سارت عقيدتها بتلك الفترة على هذه الشاكلة إنما اختلفت في كيفية تطبيقها عملياً من زاوية الصلاحيات الإلهية الممنوحة لها بشخصيات أسطورية أخرى إذ كانت كل القيم الأخلاقية من صلاحيات الآلهة الكونية المقدسة ولكنها انتقلت فيما بعد لتصبح تلك القيم الأخلاقية بيد آلهة بشرية مقدسة أي أنها أدخلت نمطاً جديداً للعبودية فجعلت إله الإنسان على هيئة بشر ذكرتهم في رواياتها كورثة أو أقارب أو أبناء غير شرعيين لآلهة كونية مقدسة وبهذا ذللت مصاعب كانت تعترضها لتضمن ديمومة نهجها الاستبدادي الموّجه ( أي ما كان يعرف بصلاحيات خالق الكون صار من حق وصلاحيات آلهة بشرية مقدسة ) وللوقوف على تلك الأساطير والروايات الخرافية المدروسة والمنظمة لابد من تحديد زاوية تمكننا من رؤية أهدافها التي أفرزتها لتصانيف عدة , على أن نراعي في رؤية مرادها مسألة تتعلق بتسلسل زمن طرحها الفكري الذي قسم أساطيرها الملحمية الهزلية لأنماط خمسة وهي :
1 - أسطورة القمة وهي التي حوت في سيرتها حوادث وأفعال آلهة كونية مقدسة , وفيها بيان واضح يظهر وظائف تلك الآلهة وخصائصها المفعمة بكل القيم الأخلاقية التي تفوق قدرات الإنسان القديم في زمنها وهي أساطير اعتمدت على وحيها الذي ألهمه يقيناً بأنها من إرادة وأفعال آلهته المقدسة كأسطورة الطوفان وغيرها والتي شرحت وبشكل مدغم وغامض عن كيفية نشأة الإنسان فبينت له نشأة الخلق الأول من الكاووس ( أي من العدم الساكن فراغياً أو الخواء أو الناموس الذهني المبهم ) وكانت هذه الأسطورة عامة لكافة الشعوب والأماكن الكونية وهي بذات الوقت ممنوعة من التعرض لها أو المساس بقدسيتها لأنها حق شرعي للآلهة الكونية المقدسة لوحدها فقط .
2 - أسطورة الرقبة : وهي نشأة جديدة مكملة للأسطورة الأولى وترتبط معها بشكل وثيق مما يصعب الفصل بينهما , ولكنها بذات الوقت هي أقل درجة واحدة من التي سبقتها ولذلك تعتبر هذه الأسطورة منسوبة لإرادة الأسطورة الأولى إنما اختلفت عنها بأنها سلبت من الأولى كل القيم الأخلاقية المقدسة وأصبحت ملكاً لها , وهي خارقة على نمط الأولى مثل سيرة هرقل الذي تناولته أسطورته بأنه ارتحل شرقاً وغرباً ليناصر الذي آمن بالآلهة الكونية المقدسة وأعاد إليه حقوقه كاملة بل وأسعده وأغراه بضمان الدنيا والآخرة معاً , فظهر لنا هرقل بأنه أخضع لملكه الدنيا كلها وأرسى فيها عدلاً ومحبة وسلاماً من شهامته وفزعته لإغاثة الملهوف وما إلى ذلك من تكهنات خارقة أرادها كاتب هذه الأسطورة , وذلك كله لأنه كان الابن الغير شرعي للإله الكوني زوس من أمه البشرية , وتتميز نمطية هذه الأساطير بأنها خاصة وليست عامة إذ كانت تخص شعباً بعينه أو مكاناً معيناً لإقامة معابد خاصة تضمن لها خلودها روحياً كمعبد أفروديت على ساحل البحر الأبيض المتوسط , ونلاحظ في أسطورة هرقل كيف تم أخذه من واقع شعبه إذ كان في بدايتها فقيراً مشرداً يعصف به عتاة وهميين من أصحاب السلطة والمناصب العليا ثم ما لبث أن أسعده حظه وظهرت عليه بركات أبيه الإله الكوني زوس فتقلد زمام الثورة الإلهية المبشرة كوحي سماوي دفعه ليتبوأ مكانة مقدسة بنظر شعبه الذي عبده بعد تلك الملحمة , أي صار إلهاً بشرياً مقدساً ملك كل القيم الإلهية المقدسة .
3 - الحدث الأسطوري وهو الذي يخبرنا عن أفعال الآلهة بغض النظر عن شخصية البطل الأسطوري سواءً كان إلهاً كونياً أو بشراً مقدساً , وهذا النمط من الأسطورة يرسخ لمبادئ هدامة تريد من المؤمن بها أن يأخذها بحياته كمثل إلهي مقدس يقتدي به ويمشي على حيثياته المستهدفة , وكمثال عليه فقد أراد هوميروس إخبارنا في الإلياذة بأن ما فعله الإله المقدس الأمير باريس ( الأعزب ) عندما أحب الإلهة هيلين ( المتزوجة وهي لا زالت في عصمة زوجها ) هو فعل مبرر يقتدى به لأنه من سلالة الآلهة المقدسة وعليه فقد وضع هوميروس بين يدي من آمن بتلك الآلهة أن يفعل مثلها كمبرر وحجة أن فعلته تلك هي من أفعال الآلهة المقدسة , ومن هنا نتبين أن القصد من الخبر الأسطوري هو قص الحوادث التاريخية ذاتها وليس هدفها ذكر شخصيات أبطالها .
4 – الأسطورة المختلطة : وهي أسطورة مدمجة من منهلين أولهما فاعل إلهي كوني وثانيهما يعلل وظائفه المختلفة , وهي تمجد مكاناً أو تمثالاً أو بناءً أو معبداً أو تحولاً خلقياً أو تضحية لتفسر ظاهرة طبيعية أحاطت بمن آمن بها , فانتشار الزراعة ونموها ووفرتها لا يمكن لها أن تتحقق إلا على يد الإله الكوني ( ديمترا ) وكذلك مثلها كروم العنب والخمرة التي لن تأتي إلا من بركات الإله الكوني ( ديونيزوس ) وأن مضيق جبل طارق هو خالد ومبارك أبدياً لأن فيه أعمدة بناها الإله البشري المقدس هرقل , وأن تمثال ( آنا كساريتا ) مبارك أيضاً لأنه من نتاج مادي حي دلّ على أسطورة فتاة قاسية القلب تسببت بانتحار حبيبها وقد تحّجرت بعدما قامت على جنازته ببرودة متناهية , وأن مدينة ( ألب لا لونغ ) مقدسة لأن بطلها وإلهها الأسطوري ( إينيبياس ) ضحّى من أجلها بخنزيرته البيضاء عند تأسيسها , وهنا ذات المسألة بعينها فتأثير هذا النمط من الأسطورة هو تقديس مكان الإله المادي الذي نزل إلى الدنيا وباركها .
5 – أساطير ضائعة : وهي أساطير خلت من مدلولها الأخلاقي أو الكوني وكانت شخوص أبطالها غامضين أومن الذين باركتهم الآلهة فأوحت لهم بأنهم مخولون بفعل أي شيء بموافقتها وقد اعتمدت على سرد أقصوصة ما لإثارة الحماسة أو الضحك أو المواساة أو الطرفة أو غيرها .
ونجد مما سبق أن كتبة تلك الروايات والأساطير من كهنة التنوير المقربين من الحاكم البشري قد جعلوها زاخرة بمواد حية وغذوها بحوادث وأفعال لتصبح متطورة زمنياً كي تأتي على أهدافها المرجوة منها إذ حشروها بكل القيم الأخلاقية التي يريدونها من شعوبهم المستعبدة ليبقوا تحت سيطرتهم كعميان ليس إلا , وقد سوروا أساطيرهم تلك بقانون إلهي رادع وحازم دعوه ( بقدسية التابو أو اللا مساس ) إذ كان محرّماً على شعوبهم المساس بها أو حتى تعديلها أو مجرد ذكرها على غير هيئتها المقدسة فضمنوا بذلك نفوذاً ذهنياً مستبداً رسّخ لهم نظاماً عقائدياً منظماً وموّجهاً ادعوا في بطانته أنه نظام يؤسس لمعاني حياتية عميقة سوف يسير بهم إلى أسمى مبادئ الإنسانية العليا المرغوبة لديهم .
فالماسونية والبوذية والعلمانية وأربابها جعلوا مسألة الخلود حكراً بيد الآلهة المادية البشرية أو الكونية المقدسة ولم ينسبوا لتلك الآلهة أية معان تشير إلى كمالهم الأخلاقي أو قيمهم المفروضة بأن تكون ملكاً لهم بل نسبوا كل القيم الأخلاقية للمخلص الحالي القوي الذي سيذهب حيث سيصبح في حياته الأبدية مخلصّها المستقبلي وما رواج تلك الأفكار المتداولة في الأساطير والروايات الخرافية إلا لأنها امتنعت عن محاسبة مريديها بمنطق الحلال والحرام فنالت منهم أكثر مما نالت من شخصيات تلك الأساطير ذاتها ، وجعلت عبادات مريديها كرهن مشروط يستقون طقوسها من محراب الفن فقط كأساطير ملاحم وشعر وموسيقى ورسم وغيرها ، وأهملت عن عمد وعن سابق إصرار عن جعل عباداتهم خالصة بمحراب الصلاة لله وحده عبر إخضاع مريديها لحكم اجتماعي واقتصادي وسياسي منظم وهادف يرسخ لقانون الطاعة العمياء للمخلص الحالي الذي يتمثل بالإله البشري الحاكم المقدس ...........
متى نصحو من أوهام أساطير خرافية لا زال البعض يتباهى بها ويحفظها كأنها مراجع فكرية بل ويرددها هكذا دون معرفة واعية لأهدافها العاصية المجحفة ، حتى في محافل العلم والأدب لازال البعض يتشدق وبفخر بها وبأنه يعمل في ظلها ، لا زلت أذكر حفل تخرجي من كلية الطب وبعد أداء القسم انبرى إلي زميلي وقال لي بفخر وعزة في نفسه بأننا أقسمنا على نمط قسم أبقراط اليوناني أبي الطب وتشدق بهذا وكأنه امتلك لدنيا من كل جوانبها !!!!!!! ..................... يتبع
#حسن_جميل_الحريس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟