هايل نصر
الحوار المتمدن-العدد: 2234 - 2008 / 3 / 28 - 10:40
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ليس لدينا أي وهم, ونحن نتعرض في مقالات عديدة للديمقراطية, ودولة القانون والمؤسسات, وحقوق الإنسان, والحريات المدنية والسياسية, بان الكثير الكثير من القراء, أو العابرين بطرف العين على العناوين الجادة ــ وحتى بعض الناشرين ممن يميلون لجمع القراء وتلبية رغباتهم ــ يرون أنها كتابات في غير وقتها أو مكانها, أو أنها أقرب إلى الترف الفكري منها إلى الاحتياجات والهموم اليومية. فمنهم من يريد الخلاص من واقعه المرير الأليم, ولا يهم ما يأتي بعده.
لا يلام المواطن المقهور الموعود من عقود وعقود بالرفاه المادي, وبالحرية التي لا مثيل لها في مشارق الأرض أو مغاربها, حرية أصيلة تليق به كفرد متميز, كما وصفوه, وأحد مكونات خير امة أخرجت للعالمين ــ رغم سعيه الدائب, المذل أحيانا, للبحث عن لقمة العيش, المخطوفة, ليس في أوطان هذه الأمة, وإنما في أوطان الأمم الأخرى, الأدنى قيما وسموا ــ. والموعود بدولة منيعة ــ قبل قيام الساعة على ابعد تقدير ــ تمتد عزتها وسطوتها من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر.
مواطن محبط تمس كرامته وحريته, بمناسبة وغير مناسبة, ولا يسلم حتى شرفه, بمفهومه الشرقي, الذي كان يقدم روحه دفاعا عنه. وفي يأسه ينجو بنفسه و يلجأ لحماية كل ما يفتقده خارج وطنه, الصغير والكبير, في ديار الكفر!!! التي كانت وما زالت سبب فقره المدقع, فقره هو وحده دون حكامه وتابعيهم!!!. وبمقدار الوعود الكاذبة والمظللة يكون عمق ومرارة الاحباط.
كما أن السياسيين, والمسيسين بسياساتهم, لا يعيرون اهتما لأية أفكار ومواضيع من هذا القبيل ــ فهي نظرية, ودخيلة, وتمس المقدسات, وتحارب الموروث. يعاقب عليها القانون والشرائع ــ تساهم في بناء الدولة, بإدخالها القرن الواحد والعشرين, على أسس الحق, والقانون, والحريات, وحقوق الإنسان.
ولا يرون فيها خطرا حالا ومحدقا, طالما هي تحت الرقابة وقابلة للسحق بالقوة مع حامليها والمبشرين بها, عند الاقتراب من الخطوط ما قبل الصفراء التي تحيط المنطقة المحمية المتسعة أرجاؤها لتشمل الوطن بأكمله, والممتدة إلى خارجه, لأن قانون الدولة يتبع المواطن خارج حدود دولته ليقهره وليس ليحميه.
فهم مطمئنون لديمومة أنظمتهم لنجاحها في كامل المنطقة العربية, عبر عقود وعقود, في إقامة حاجز منيع من الجهل والتخلف والأمية والفقر لا تخترقه الأفكار الحديثة. فهناك أكثر من 90 مليون أمي مطبق الأمية, حسب وثائق المنظمات الدولية المتخصصة, وبعددهم أميون مع بعض بصيص رؤية ــ يضاف إليهم أنصاف المتعلمين ومثقفي السلطة ومفكريها وعلمائها, وهم مجهولو العدد, وخارج كل إحصاء, لوقوعهم بين منطقتي الجهل الكامل وبعض بصيص العلم الممزوج بفنون الرياء ــ من اصل ما يقارب أو يزيد على 300 مليون مواطن ــ أو بالأصح, عنصر سلبي في رعية تُساق قهرا.
فأين إذن تجد الأفكار مكانا لها؟. وكيف يمكنها الانتشار؟. ولما ملاحقتها؟ وعلى من تشكل الكلمة خطرا؟. ولما يُجيش المخبرون؟. ولمن أدواة القمع والقهر؟ يتساءل ببراءة الإنسان العادي, دون أن يدري أن الحس الأمني المرهف المتمرس بالاستشعار بالخطر عن بعد, يرى الخطر في كل متحرك, ويرصده ولو كان تحت رماد كثيف قرني التراكم.
يغيب عن سياساتهم الأمنية أن الفكرة, والكلمة التي تحملها, يمكن أن تُقهر, و تُبعد, وتُسجن, لكنها لا تضمحل, ولا تموت ولا تفنى. جلادو الفكرة والكلمة, كما يُعلّم التاريخ وعبر العصور, هم الفانون. والأفكار عابرة للزمن, رغم الأنوف المرهفة, تتوارثها الأجيال, وإلا لبقي الغرب في ظلام عصوره الوسطى, ولبقي الطغاة يُسيّرون التاريخ حسب مشيئتهم والى الأبد, و لماتت فينا الآمال بالخروج من عصر انحطاطنا الحديث.
وعليه, نرى, مع الاحترام الكبير للقارئ, أو عابر العناوين الجادة بطرف العين, انه الآن زمان ومكان الإشارة إلى الخطوات الأولى والأساسية في الطريق الطويل لخلاصنا, وليس أي خلاص. الآن, وبعد ضياع عقود من حياة الوطن والمواطن, وقت العمل على إعادة بناء أنفسنا, وبناء الدولة, المخطوفة, التي لم تبن منذ حصول بلداننا على الاستقلال والى اليوم. الدولة الديمقراطية, دولة القانون والمؤسسات. دولة المواطن السيد الذي يختار بإرادته الحرة حكامه, ويعرف كيف ومتى يخضع لهم باعتبارهم مفوضين من قبله وليسوا سادته, وكيف ومتى يسرحهم خير تسريح, وبالإرادة الحرة, وطبقا للقانون. دولة عصرية تحل محل دولة الشعارات, والغوغائية, والإيديولوجيات المتهافتة, والغيبيات, والفساد والإفساد, والجهل والتجهيل, دولة الفرد الملهم, والحاكم بأمره, دولة رئيس العشيرة, أو القبيلة, أو الطائفة, أو العائلة, الدولة الشمولية القمعية بنسخها العربية المتخلفة.
ليست هذه أحلام يقظة, إنها حقيقة, وان لم تكن ناصعة دوما, أو كاملة, لكنها موجودة في عالم اليوم. نراها لو نظرنا حولنا نظرة الواثق بنفسه, نظرة من يعيش قرنه, نظرة من لا ينتقص من قيمة نفسه بنفسه, أو يسمح لغيره الانتقاص من قيمته كانسان. نراها ليس فقط في الغرب, شرقه وغربه, وإنما كذلك, وبدرجات مختلفة, في دول من العالم الثالث, استطاعت أقامة أنظمة ديمقراطية, أو قريبة منها, بعضها استقل بعدنا ولم توفر لها الطبيعة من الثروات والمصادر الطبيعية ما وفرته لنا, ولكن إنسانها وفر ما يفوق هبات الطبيعة.
والسؤال, لماذا نصدق ما يُزّين لنا إننا لا نستطيعه نحن, لماذا نصدق ما ينسبوه لنا من خصائص مميزة !!!, ساهمت في إحكام عُقدنا, وتكاد أن تخرجنا من دائرة الإنسانية لتوهمنا بأننا إنسانية أخرى؟. إنسانية لها في الدنيا نصيب الأسد, حين تصحو, وستصحو إنشاء الله إذا أطاعت مسؤوليها و أولياء الأمر فيها. ولها الآخرة كاملة دون غيرها من الأمم . ولماذا لا نصدق إننا مثل الآخرين, ويمكن أن نعيش مثل الآخرين. ونقيم أنظمة ديمقراطية مثل الآخرين, ونساهم في بناء الحضارة الإنسانية مع الآخرين. وبان الآخرين سيجدون لنا مكانا ملائما بينهم دون عقد نقص أو استعلاء. لماذا لا نريد فهم واقعنا, وواقع من يحيط بنا حتى يمكننا إن نخطو الخطوة الأولى في طريق البناء الصحيح.
ومنه, تحدونا الإرادة إلى متابعة, مع الآخرين, ما يمكن أن يُكتب في مجال بناء الدولة, دون خشية من عدم اهتمام القارئ, وتحفظ الناشر, وعدم وصول الفكرة, أو إجهاد وإغضاب الرقيب, فهو وُجد لذلك وفي ذلك وحده لقمة عيشه ورغدها.
بينا في المقال السابق, دون ادعاء الإحاطة أو الإلمام, بعض أوجه الحريات في الديمقراطية. وأشرنا إلى عدم إمكانية فصل الحريات عن المساواة ــ رغم ما بينهما من تعارض أحيانا ليس هنا مجال الإشارة إليه ــ إلا لتسهيل الحديث وتبسيط الطرح.
والواقع أن مسألة طموح الديمقراطيات, متعددة المفاهيم والتطبيق, إلى تقريب المفهوم النظري للمساواة من الواقع هي في صميم الاهتمامات الأساسية لهذه الديمقراطيات. فتعمل جاهدة على إيجاد الوسائل اللازمة لذلك في مجتمعات دائمة التطور, والآليات القابلة ليس فقط للتكيف مع هذا التطور, وإنما كذلك للمساهمة الفعالة فيه. الديمقراطية لا توصل إلى المساواة, غير المتفق على أبعادها ومضامينها, تلقائيا وبسحر ساحر. وإنما تساهم في ذلك نوعية ودرجة التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي.. للمجتمعات الديمقراطية .
ليست الطروحات الأخلاقية المجردة, والعضات, والتبشير, والوعود والأمنيات, والخطاب السياسي المتخشب, هو ما يوصل إلى المساواة, أو يقرب منها. فهذه الأخيرة خرجت في الدولة الديمقراطية من دائرة الأخلاقي الصرف لتدخل الدائرة القانونية بالزامها. نصت عليها الدساتير, وتحميها القوانين. كما تثقف على مبادئها مؤسسات التربية والتعليم, وجمعيات المجتمع المدني, ودخلت الأسرة بتكوينها وعلاقاتها.
و ليس هدف الديمقراطية وطموحها هو فقط خلق المؤسسات الديمقراطية, وإنما وبالدرجة الأولى خلق الإنسان الديمقراطي ــ الذي هو روح المؤسسات, وان انفصلت هذه عنه لتقوم بذاتها ككيان مستقل له مكوناته وخصائصه, وتُرضخه , كفرد, لقوانينها وأنظمتها ــ المتشبع بقيم الديمقراطية, فعنها يصدر سلوكه وتصرفاته وأنماط تفكيره. ولم تدع أية ديمقراطية ,أي كان شكلها وعمقها, أنها بلغت, وبشكل كاف, هذا الهدف.
خلال القرون ارتبطت الديمقراطية بتحرير الإنسان من الجهل والتبعية والتقاليد البالية والقوانين الجائرة التي تنسب لنفسها القدسية. وبفضل تطور العلم, والنمو الاقتصادي, والاجتماعي والثقافي, تحرر الفكر من الأوهام المتعلقة بالدولة ونشأتها وأصولها, وأصول وشرعية ومهام حكامها. ومازال كل هذا مرتبط بها.
وخلال القرون ارتبط مبدأ المساواة بالديمقراطية, كانت في بداياتها, زمن الإغريق, وفي مراحل طويلة في عهد الرومان, نوع من المساواة بين المواطنين الأسياد, مستبعدة منها العبيد والنساء والأجانب.
وعبر تطور أنضجته القرون اخذ مفهوم المساواة يعرف أبعادا جديدة بحيث لم يعد فقط مطالبات بالمساواة بين البشر دون النظر إلى العرق واللون والدين والجنس, لتصبح حق تأكيد القيمة المتساوية لكل البشر في كل المجالات. مساواة في الإنسانية وفي الكرامة ( مصطلح الكرامة الإنسانية حديث الاستعمال نسبيا انتقل, من القانون الدولي إلى القانون الداخلي).
لا نريد الدخول في فلسفة المساواة والنظريات التي تربطها بهذا المبدأ أو ذاك, فليس مفهوم المساواة موضوع هذه الإشارة الوجيزة. وإنما سعي الديمقراطية الدائب لربطها بواقع المجتمع في اللحظة المعاشة, مع النظر للمستقبل, واستمرار السعي لإيصالها بقدر المستطاع إلى مجالات قد تبدو عصية عليها, في أنظمة اقتصادية يفرض فيها اقتصاد السوق نفسه على كل شيء, بما فيها المبادئ والقواعد القانونية.. دون وهم بان المساواة المطلقة فكرة مثالية غير قابلة للتطبيق, في عالم اليوم على الأقل, المساواة تتحقق على مستوى تطبيق مبدأ تكافؤ الفرص أمام الجميع. و بتقليص مجالات عدم المساواة, وفي والمساواة أمام القانون. وهي أهداف قابلة للتطبيق وبدرجات مختلفة.
فالسعي في المجال القانوني لتطبيق مبدأ المساواة, يتجسد واقعا في مراقبة المحاكم لانتهاك هذا المبدأ. فالقانون الجزائي مثلا يُجرّم الأفعال,التي تنتهك المبدأ المذكور, ونشير هنا, على سبيل المثال, إلى المواد: 225 ـ1 , 225ـ2 و 432ـ7. من القانون الجزائي الفرنسي. فالمادة 225ـ1 تعتبر تمييزا: كل فعل يميز بين الأشخاص الطبيعيين بسبب أصولهم, أو جنسهم, أو وضعهم العائلي, أو مظاهرهم الجسدية, أو ألقابهم, أو أحوالهم الصحية, أو عاهاتهم, أو عاداتهم الأخلاقية, وتوجهاتهم الجنسية, أو أعمارهم, أو أرائهم السياسية, أو نشاطاتهم النقابية, أو انتماءاتهم إلى عرق معين, أو إلى أمة معينة, أو دين معين.
و على سبيل المثال أيضا, ذهبت الغرفة الجنائية لمحكمة النقض الفرنسية إلى اعتبار منح مكافأة مالية للأم الفرنسية عند الولادة (دون أن يشمل ذلك كل الأمهات المقيمات في فرنسا, ولا يحملن الجنسية الفرنسية) تمييزا قائما على عدم الانتماء إلى الأمة.( crim. 17 déc.2002. Bull.n° 227).
كما أن قانون العمل في مواده: L.123-1 , L.140-2 وما يتبعها, تجرم التمييز القائم على الأصل والجنس والمظاهر الجسدية, أو الإعاقة .. وان القانون بهذا يهدف إلى "مكافحة السلوك غير المنسجم مع القيم الأخلاقية للمجتمع الفرنسي". فالمساواة في حق العمل والأجر المتساوي لممارسي نفس العمل تطبق على الفرنسيين والأجانب دون تمييز, الاستثناء الوحيد عليه هو عدم شموله للأجانب غير شرعيي الإقامة. وتجد هذه النصوص مبرراتها في مبدأ المساواة نفسه الذي يعلنها.
و في مجال المساواة بين الرجل والمرأة في الأنظمة الديمقراطية.
أكدت المادة 13 من اتفاقية الجماعة الأوروبية لعام 1999 المبدأ العام للكفاح ضد كل أنواع التمييز القائم على الجنس والعرق أو الأصل ألاثني أو الدين أو المعتقد أو الإعاقة أو السن.
و نصت المادة 2 من معاهدة الاتحاد الأوروبي على القيم المشتركة للاتحاد, وبان المساواة بين النساء والرجال صفة أساسية من صفات المجتمع الأوروبي. فالاتحاد يعمل ويشجع العمل على المساواة بين الرجال والنساء (المادة 3). وفي " كل المجالات يعمل الاتحاد على رفض كل أنواع اللامساواة. ويعمل على تشجيع تحقيق المساواة بين الرجال والنساء.( المادة 8),
ميثاق الحقوق الأساسية يعلن في مادته 33 " يجب تأمين المساواة بين الرجال والنساء في كل الميادين" بما فيها مجال العمل والأجور.
ولإخراج هذه النصوص من مجال الإعلانات السياسية غير الملزمة أُعطيت لأحكام الميثاق القيمة القانونية المعترف بها للمعاهدات. وتحت رقابة القاضي.
الاهتمام والسعي الدائب في الأنظمة الديمقراطية بمسألة المساواة, كما في مسألة الحريات وغيرها من المبادئ الديمقراطية, اهتمام يشارك فيه جميع المواطنين, فهو غير مقتصر على فعل ومنظور السلطة السياسية وحدها, وإنما هو نتيجة جهود متضافرة, ومشاركات مجتمعات بأكملها: بأحزابها السياسية, وجمعيات المجتمع المدني, التي تعد بالآلاف في كل دولة, والحركات النقابية, والمفكرين والمثقفين بأنواعهم, والمتخصصين, كل في مجاله, وحتى الفاعليات الروحية. كما أن للمؤثرات الخارجية, المتداخلة والمتفاعلة, للمجتمعات الديمقراطية التي تحمل نفس القيم, دور دفع وتطوير وتعميق في هذا المجال.
وبكلمة, المساواة والحريات وكل القيم الديمقراطية هي نتاج حركة لم تنقطع لمجتمعات ــ كانت تسعى عبر التاريخ لامتلاك مصيرها وتقريره بنفسها, فامتلكته , بدرجة أو بأخرى , وليست على استعداد للتراخي أو التفريط فيه, ولها في التاريخ دروس وعبر ــ تسعى, عن طريق المشاركة والشراكة في الوطن وشؤون المجتمع والدولة, لتحقيق مواطنية كاملة وغير منقوصة.
فينتمي عندها المواطن, وبفخر وصدق, للوطن. ويتساوى الجميع في الانتماء. وتصبح محبة الأوطان من الإيمان بالله وبالإنسان. د. هايل نصر
#هايل_نصر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟