شهدت الأيام الأخيرة حالة تراجع عربي غير مسبوق على المستوى الرسمي . فقد
سارعت دمشق بالإعراب عن حسن نواياها – تجاه الاحتلال الأمريكي للعراق -
باستقبال مبعوثي ما يسمى مجلس الحكم المحلي العراقي الذي أنشأه الأمريكيون
،
كما أرسلت الجامعة العربية وفدا لها إلي بغداد ليؤكد على " دور الجامعة
وعروبة
العراق " ! وكان بوسعه أن يؤكد على ذلك بإرسال الأسلحة للمقاومة العراقية
،
وعدم الاعتراف بمجلس حكم عميل . وانتهت قمة مجلس التعاون الخليجي ببيان
مؤسف
تدعو فيه لمكافحة الإرهاب ، دون أن تحدد أي إرهاب تقصده ، وهل هو الإرهاب
الأمريكي الذي غمر وجه العالم أم أشكال المقاومة المستميتة لأمريكا .
وجاءت
الطامة الكبرى من ناحية ليبيا التي أعلنت – لوجه الله – دون مقابل سياسي
أو
اقتصادي عن تخليها عن برامج أسلحة الدمار (!) لتلصق بنفسها تهمة " الإرهاب
الدولي " ، دون أن تربط ذلك التخلي بعمل مماثل من الجانب الإسرائيلي ، أو
بأي
مكسب دبلوماسي . وتحولت ليبيا فجأة إلي داعية سلام تنصح إيران وسوريا
وكوريا
بنبذ التسلح . كما تحولت من قبل من مركز للدعوة إلي القومية العربية إلي
مركز
للدعوة إلي اتحاد أفريقيا ، الذي لا تربطه علاقة بقضية فلسطين . موجة
التراجع
المخزية هذه ، كانت إحدى ثمار ضرب العراق ، واعتقال صدام حسين . هذا كان
الدرس
، وقد استوعبه الجميع ممن يحرصون على مقاعدهم كزعماء من ورق أكثر من حرصهم
على
مصالح شعوبهم أو كرامتها . وفي مواجهة الغزو الأمريكي للعراق ، واستمرار
إسرائيل في عملية الإبادة المنظمة اليومية للشعب الفلسطيني ، لم تجد دول
مجلس
التعاون ، وليبيا ، والجامعة العربية ، ودول الخليج ، سوى المزيد من
التراجع
أمام أمريكا حلا لكل المشكلات أو اتقاء لكل المشكلات . أما عن الدور
المصري ،
فلم يكن هناك أبلغ – في تقييمه – من ضرب وزير الخارجية المصري داخل المسجد
الأقصى ، في تعبير عن تفاهة الدور الذي لا يتجاوز حجم أدوار السماسرة ،
ومقاولي
العمليات السياسية . وفي السودان تأخذ عملية " مفاوضات السلام " مداها ،
لتصل
إلي اتفاق لتقسيم الثروة تمهيدا لعزل الجنوب وإقامة دولة منفصلة هناك ،
وهو نفس
المخطط الذي يدبر لعراق " فيدرالي " !
يمضي المرء في حقول التراجع هذه ، الحقول الخراب ، ويبحث بعينيه عن شئ
يحرك
الأمل ، فلا يجد سوى زهور قليلة متناثرة : عمليات المقاومة العراقية ،
والمقاومة الفلسطينية ، يجمع تلك الزهور في قبضته ، ويمضي إلي الأمام ،
قائلا
لنفسه : ربما تكون هذه الزهور القليلة هي حقول المستقبل ، الزهور المروية
بدمائنا ودماء الغزاة ، الزهور الحمراء القانية التي تشربت حتى ارتوت من
الدم
الفلسطيني والعراقي . يمضي المرء ويدعو الله ليل نهار أن تغطي هذه الزهور
وجه
كل الحقول ، ليكون لنا منها غد ، ومستقبل ، وحياة .
***