|
إيران بعد خمس سنوات من احتلال العراق
مصطفى اللباد
الحوار المتمدن-العدد: 2233 - 2008 / 3 / 27 - 11:01
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
مرت خمس سنوات على حرب احتلال العراق التي تغيرت فيها توازنات المنطقة كما لم تتغير من قبل، وفقد مليون عراقي حياتهم في عملية "تحرير العراق"، في حين تشتت أكثر من أربعة ملايين لاجئ داخل بلادهم وخارجها. غزت أميركا العراق بغرض السطو المسلح على ثروته النفطية، ولكنها وفي غمار اندفاعها غيرت التوازنات القائمة في المنطقة جذرياً لكون العراق أحد أكثر البلدان تأثيراً في جيوبوليتيكا المنطقة، وهو الذي يجاور ستة بلدان لكل منها أهميته الفائقة. وأعلنت إدارة بوش بتسرع ورعونة "انتصارها" في العراق منذ صيف 2003، في حين بدأت عمليات المقاومة تتصاعد من ذلك الحين لتضع واشنطن في ورطة تشبه من بلع شفرة الحلاقة. وإذ يسود توافق دولي على أن الحرب كانت خطأ سياسياً كبيراً، وأن تنفيذ العمليات العسكرية والسياسية التي تلتها يعد كارثة، فإن المفارقة تحضر بشدة عندما نعرف أن انسحاب قوات الاحتلال من العراق غير مطلوب الآن من أي طرف إقليمي، سوى إيران. أتى احتلال العراق على البقية الباقية من حضور "محور الاعتدال" بقيادة السعودية ومصر في المنطقة، وهو المحور الفاقد للإرادة والخيال السياسيين والمتقوقع في موقع الدفاع بسبب الضغوط الأميركية المتوالية عليه. وبسبب غياب المشروع الإقليمي عن "محور الاعتدال" بالتوازي مع تآكل مشروعيته السياسية بمرور الوقت وتوالي الإخفاقات، فقد لاح حل سياسي وحيد أمام الأميركيين للخروج من الورطة العراقية يتلخص في التفاهم مع إيران. صار الطرفان الأميركي والإيراني الأقويين على الساحة العراقية، فالأول يحتل العراق عسكرياً والثاني يتحكم من طريق الحلفاء بمقدرات السلطة في بغداد. كلاهما لا يستطيع إزاحة الآخر، طهران لا تملك الأدوات العسكرية لذلك، أما واشنطن وإن سيطرت عسكرياً فإنها تعاني مأزقاً مستحكماً متمثلاً في تصاعد عمليات المقاومة، فضلاً عن عدم قدرتها على إزاحة حلفاء إيران من المشهد السياسي. ولم يكتف حلفاء إيران بتصدر واجهة المشهد السياسي في العراق في ظل الاحتلال الأميركي، بل تحولت ميليشياتهم العسكرية إلى نواة للتشكيلات النظامية العراقية في وزارتي الداخلية والدفاع. ولا يغيب عن الملاحظة أن التيارات السياسية الشيعية بالعراق، مجلس الثورة الإسلامية وحزب الدعوة وحزب الفضيلة والتيار الصدري، تبدو كتنويعات على لحن واحد تمسك إيران بخيوطه في السر والعلن. الدور الإقليمي الإيراني في العراق كان الدور الإقليمي، وما زال، هاجساً يسكن قلوب حكام إيران منذ تأسيس دولتها الحديثة، ومثلت محاولات مد النفوذ إلى العراق عبر التاريخ ترمومتراً لقياس قدرات طهران الإقليمية. لذلك عقدت الدولتان الصفوية والقاجارية في إيران اتفاقات متوالية مع الدولة العثمانية التي كانت الألوية الثلاثة المشكِّلة للعراق (الموصل وبغداد والبصرة) جزءا منها حتى الاستقلال في عام 1921. وأعطت هذه الاتفاقات إيران - في ما أعطت - حق الإشراف على الأماكن الشيعية المقدسة في النجف الأشرف وكربلاء. وللتأكيد على هذا النفوذ فقد سافر الشاه عباس الصفوي في بدايات القرن السادس عشر الميلادي من عاصمة ملكه أصفهان حتى العتبات المقدسة في النجف الأشرف مشياً على القدمين ليكنس قبر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ويلقب نفسه على العملة الرسمية بلقب "كلب عتبة علي". وهكذا حفر الشاه عباس – ولو بالمكنسة والعملة المعدنية - طموح بلاده التاريخي في جنوب العراق وتوقها الأزلي للعب دور إقليمي، كان النفوذ في العراق ومازال شرطه الأساس. وتتضح أهمية العراق في المخيلة السياسية الإيرانية إذا علمنا أن إيران أبرمت مع السلطنة العثمانية 14 معاهدة خلال ثلاثة قرون ذات مساس بالحدود العراقية، مثل معاهدة أماسية (1554) ومعاهدة الأمير (1562)، ومعاهدة سراو (1618) ومعاهدة زهاب (1639) ومعاهدة شيروان (1736) ومعاهدة أرضروم .(1823) فتح الاحتلال الأميركي للعراق الباب واسعاً أمام إيران لتتمدد في بلاد الرافدين كما لم تفعل من قبل، وهي التي لا تنقصها البراعة في استثمار جوارها الجغرافي الممتد وتداخلها الديموغرافي العميق مع سكان العراق، فضلاً عن قدراتها التسليحية والمالية المتعاظمة. وتضافرت عوامل الانسحاب العربي عن الفعل السياسي في المنطقة مع تخبط إدارة بوش في إدارة العملية السياسية، لتزيد من قدرات إيران على التحكم بعراق الاحتلال. وهكذا استطاعت إيران لأول مرة في تاريخها الحديث تثبيت سيطرتها السياسية على العراق. فالسلطنة العثمانية الأقوى عسكرياً منعتها من ذلك لقرون طويلة. ومثلت الحرب العراقية - الإيرانية التي بدأها نظام صدام حسين ذروة التناقضات بين كل من العراق بتركيبته الطائفية والعقائدية المعلومة، وطهران التي استنفرت شيعيتها في مواجهته. وانتهت الحرب العبثية بين الطرفين دون أن يتمكن أحدهما من الآخر، ولكن طهران شرعت في تدعيم مواقع الحلفاء داخل العراق وخارجه انتظاراً للحظة بدت مستحيلة. ولكن هذا المستحيل بالتحديد قدمه بوش للإيرانيين على طبق من فضة، بسبب قصور إدارته عن رؤية التوازنات في المنطقة وموقع العراق المحوري في قلبها. دوافع طهران في المفاوضات يمثل الحوار الأميركي - الإيراني حول العراق حلقة في سلسلة الصراع الممتد بينهما، ولكنها حلقة من نوع جديد، تختلف فيه الساحات وتتنوع الأدوات، في حين يظل المضمون الصراعي ثابتاً. دخل كل طرف الحوار ولديه أجندته الخاصة به، واشنطن تريد الاستمرار بالضغط على إيران في ملفها النووي وإعادة تشكيل المشهد السياسي العراقي وفقاً لمصالحها. وفي المقابل دخلت طهران الحوار للمحافظة على نفوذها في العراق وعينها على ملفها النووي، والحال أن طهران لم تقدم مساعدة لواشنطن في العراق دون مقابل وهو ما لا يتساوق مع تجاربها التاريخية. وجعل تضارب الأجندات والأولويات الحوار ساحة لجس النبض والمقايضة، طهران أرادت التفاوض مباشرة مع غريمها اللدود الذي يحرك المؤسسات الدولية ضدها ويحاصرها سياسياً واقتصادياً منذ أكثر من ربع قرن. ولا يخفى أن المفاوضات الإيرانية مع دول الترويكا الأوروبية، ألمانيا وفرنسا وإنكلترا، حول ملفها النووي قد فشلت لسبب أساسي هو عدم قدرة الطرف الأوروبي على دفع الثمن المطلوب إيرانياً من أجل التوقف عن تخصيب الاورانيوم. والثمن المطلوب هو ضمان بقاء النظام والسماح له بدور إقليمي معترف به دولياً، وهو ثمن لا تستطيع تقديمه في النظام الدولي الراهن سوى الولايات المتحدة الأميركية. لا تحتاج إيران في الحقيقة إلى واشنطن لبسط نفوذها في العراق، فهي قامت بذلك في ظل وجود عسكري أميركي كثيف ودون موافقة أميركية، وبالرغم من ذلك لا يمكن إيران أن تلعب دوراً إقليمياً معترف به دولياً دون الضوء الأخضر الأميركي. صحيح أن أوراق إيران الإقليمية الممتازة في العراق وخارجه تمكنها من عرقلة المشاريع الأميركية، وهو ما تثبته طهران يومياً على طول المنطقة الجغرافية الممتدة من غرب إيران وحتى الأراضي الفلسطينية المحتلة، بخليط مدهش من استثمار التخبط الأميركي والمداورة الإستراتيجية والدهاء الإيراني. ولكن وبالرغم من كل ذلك فإن صانع القرار في طهران الطامح دوماً إلى لعب دور إقليمي، يعلم قبل غيره حدود القوة الكونية التي تحبس طموحه التاريخي تحت أسقف معينة. ربما تكفي الأوراق الإقليمية الممتازة لعرقلة الأهداف الأميركية في المنطقة، ولكنها لا تكفي للمحاصصة الإقليمية دون تفاهم مع واشنطن، كما أن ذلك النفوذ الإقليمي لن يجد ترجمته إلى مصالح إقليمية معترف بها إلا ضمن إطار تفاهم واسع المدى معها. وإذ لم تستطع واشنطن الوصول إلى "الانتصار" في العراق بعد خمس سنوات من الاحتلال بسبب مجموعة من العوامل تتصدرها العرقلة الإيرانية، فإن طهران لا تملك الوسيلة لإجبار واشنطن على الانسحاب بدون شروط لتهيمن هي على العراق. الإيديولوجيا والمصالح يتجسد الخط الأحمر الأميركي اليوم في ضمان عدم سقوط العراق تحت النفوذ الإيراني تماماً، أما الخط الأحمر الإيراني فيتلخص في عدم تحول العراق إلى كيان معاد بهيمنة عسكرية وطائفية سنية تحت المظلة الأميركية، وهو ما قد يقود إلى قيام حرب جديدة بين البلدين. ويبدو الطموح الأقصى أميركياً ظاهراً في تنصيب حكومة موالية تطرد النفوذ الإيراني من العراق وتحاصر طهران إقليمياً، وفي المقابل يتلخص طموح طهران الأقصى في إتمام الانسحاب الأميركي من العراق دون تفاهمات معها لتهيمن هي عليه بالنهاية. ولا يخفى أنه في حال تحقيق أي طرف طموحه الأقصى سيكون الصراع على العراق قد تم حسمه لمصلحة طرف وعلى حساب الآخر. وبالرغم من تعديل إدارة بوش تكتيكاتها التفاوضية مع إيران في الشهور الأخيرة، إلا أن حظوظها السياسية تبقى متدنية بسبب افتقارها للخيال السياسي والدراية بتوازنات المنطقة. ويتمثل التعديل المذكور في لعبة مزدوجة قوامها الأساسي جمع تناقضين، يتلخص الأول في فرز المعسكر السني بين جهاديين غير عراقيين وعراقيين سنة عززت مواقعهم ضد الشيعة العراقيين، ويتمثل الثاني في تهدئة موقتة مع إيران عبر تقدير وكالة الاستخبارات الوطنية الأميركية الذي سحب من التداول خيار توجيه ضربة عسكرية خارج إطار مجلس الأمن. أدى احتلال العراق إلى تداعيات كثيرة عليه وعلى التوازنات في المنطقة، وأهم هذه التداعيات من المنظار الإيراني تعديل نتيجة الحرب العراقية-الإيرانية من نصف انتصار للعراق عام 1988 إلى انتصار سياسي كامل لطهران ومن دون أن تضطر حتى لإطلاق رصاصة واحدة. ولم يكن متوقعاً بعد أنهار الدم التي جرت بين البلدين أن تحجم طهران عن التدخل في بلاد الرافدين، فإيران كانت ومازالت دولة إقليمية لها مصالحها في العراق. الدرس الأول الذي لم تستطع إدارة بوش استيعابه حتى الآن هو أنها بالفعل استطاعت اختيار توقيت الحرب؛ ولكنها لا تستطيع مع ذلك تحديد موعد نهايتها كما تقول كلاسيكيات الإستراتيجية. أما الدرس الثاني والأهم فهو أن محاولات بوش لحبس إيران داخل حدود إيديولوجية مآلها إلى الفشل. ومرد ذلك أن إيران تستطيع بسهولة المجاهرة بقيادتها لمحور "الممانعة" ضد المشروع الأميركي - الصهيوني في لبنان وفلسطين، ولكنها تستطيع أيضاً عندما تقتضي الضرورة التفاوضية التذكير بصفتها الثانية الفائقة الأهمية: "عراب" حكومة الاحتلال في العراق بعد خمس سنوات من حرب بوش الكارثية عليه. باحث مصري - رئيس تحرير مجلة "شرق نامة"المتخصصة في الشؤون الإيرانية والتركية عاد مؤخراً من رحلة عمل الى طهران
#مصطفى_اللباد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
روبرت كينيدي في تصريحات سابقة: ترامب يشبه هتلر لكن بدون خطة.
...
-
مجلس محافظي وكالة الطاقة الذرية يصدر قرارا ضد إيران
-
مشروع قرار في مجلس الشيوخ الأمريكي لتعليق مبيعات الأسلحة للإ
...
-
من معرض للأسلحة.. زعيم كوريا الشمالية يوجه انتقادات لأمريكا
...
-
ترامب يعلن بام بوندي مرشحة جديدة لمنصب وزيرة العدل بعد انسحا
...
-
قرار واشنطن بإرسال ألغام إلى أوكرانيا يمثل -تطورا صادما ومدم
...
-
مسؤول لبناني: 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية عل
...
-
وزيرة خارجية النمسا السابقة تؤكد عجز الولايات المتحدة والغرب
...
-
واشنطن تهدد بفرض عقوبات على المؤسسات المالية الأجنبية المرتب
...
-
مصدر دفاعي كبير يؤيد قرار نتنياهو مهاجمة إسرائيل البرنامج ال
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|