الكلام لا يتوقف عن "خونة الثقافة" ، أو المثقفين الذين باعوا ضمائرهم و تحولوا إلي شهود زور و فقهاء للسلاطين.
و رغم أن هؤلاء ليسوا أكثر من أقلية فإن الحديث عنهم يحتل مساحة الأغلبية، ربما بسبب داء التعميم الخاطئ و أخذ "السايب" بجريرة "المربوط" ، و ربما بسبب القاعدة القائلة أنه إذا عض كلب إنسانا فإن هذا أمر عادي لا يستحق الذكر، أما إذا عض إنسان كلبا.. فإن هذا هو الخبر الذى تقوم له الدنيا و لا تقعد.
و بهذا المعني الأخير فإن "خونة الثقافة" هم الكلاب التى تعقر البشر !
لكن أيا كان مدي نصيب هذا المنطق من الصحة، فإن الظلم يحيق بالأغلبية الساحقة من المثقفين ، و هي أغلبية شريفة و كادحة و محترمة، و مع ذلك فإننا نمر مرور الكرام علي مواقفها النبيلة و إسهاماتها الرائعة.
من هؤلاء .. و في مقدمتهم.. كمال القلش الذي ودعناه الوداع الأخير يوم الثلاثاء الماضي.
فكمال القلش نموذج للمثقف المحترم بكل ما في الكلمة من معني.
و صفة الاحترام هذه ليست مجرد كلمة مجازية أو أخلاقية، بل هي تعبير عن موقف سياسي وإجتماعي و فكري تم إتخاذه و امتحانه علي مدار سبعين عاما متصلة، تصدي خلالها "كمال" - و كوكبة من أشرف أبناء هذا الوطن _ للإحتلال البريطاني، و فساد القصر الملكي قبل 1952.
و بعد خروج الاستعمار الإنجليزي و سقوط النظام الملكي واصل كمال القلش – هو و الجزء الناطق من الأمة – النضال من أجل الديمقراطية و العدل الاجتماعي و تحديث مصر و وضعها علي طريق التقدم الحضاري.
ورغم تعاقب ثلاث جمهوريات منذ رحيل أسرة محمد علي فإن آخر شيئ فعله كمال القلش و هو يطرق أبواب العام الثاني و السبعين من العمر هو المطالبة بإلغاء حالة الطوارئ كمدخل أساسي للإصلاح الديموقراطي و السياسي.
وعندما أقول أن هذا كان آخر شئ فعله.. فإني أعنى ما أقول حرفيا، حيث استضافه عميدنا وأستاذنا الجليل محمد عودة في "صالون" القناة الفضائية المصرية الأولي، هو والزميلة أمل الشاذلي، وكاتب هذه السطور، واستمرت المناقشة لمدة ساعة أصر فيها "كمال" علي إعطاء الأولوية لهذه المسألة الحيوية. ولم يكتف بذلك بل أنه كتب ورقة شديدة التركيز عن أهمية قيادة نقابة الصحفيين لهذا التحرك الديموقراطي الذى لا يقبل التأجيل أو التسويف وسلمها بيده إلي الزميل الأستاذ جلال عارف نقيب الصحفيين، و لم ينس أن يسلم نسخة منها إلي كل عضو من أعضاء مجلس النقابة و كأنها كانت وصيته الأخيرة.. فقد دخل بعدها مباشرة إلي الغيبوبة الأبدية، و بعد صراع قصير و يائس في غرفة العناية المركزة، لفظ أنفاسه الأخيرة.
وبين المطالبة بالاستقلال التام أو الموت الزؤام في خمسينيات القرن الماضي، و بين المناداة بإلغاء حالة الطوارئ في مطلع القرن الحالى.. دخل "كمال القلش" مئات المعارك السياسية والفكرية.
وفي كل هذه المعارك ظل قابضا علي شرف الكلمة حتى عندما كان القابض عليها كالقابض علي الجمر. فلم تكن مواقفه "طق حنك" كما يقول أشقاؤنا الشوام، أو استعراضات مجانية، بل دفع ثمنها تشريدا و مطاردة و فصلا من العمل و تقتيرا في الرزق و تنكيلا و تعذيبا وإعتقالا في سجون غير آدمية لمدة سبع سنوات، و الأنكي أن مصادرة حريته كانت في نفس العصر الذي ظل "كمال" يدافع عنه معتبرا أن تناقضاته معه ثانوية ، و وصل في بعض الأحوال إلي وصفه بأنه "إشتراكي" أيضا !
الفـرســان الثـلاثـة
فها هو يكتب في مقدمة كتاب "إنسان السد العالي" – الذي ألفه بالاشتراك مع صنع الله إبراهيم و رءوف مسعد: "كيف يمكن لإبن مصر الإشتراكية أن يغمس قلمه في المداد دون أن يدشنه أولا بهرم مصر".. يقصد السد العالي الذي يمثل بناءه – بنص تعبيره – "معركة الإنسان المصري البسيط الذي يبني و لا يتململ.. و ينحت الصخر، و يهزم الجبل، و يهد الدنيا ويبني عصرا جديدا لمصر جديدة، تحت لواء زعامة رائعة و عبقرية" .
هذا الكلام "المتفائل" كتبه "كمال" في مقدمة الكتاب الذي كان مغامرة صحفية عجيبة قام بها مع "صنع الله " و "رءوف" بعد شهور قليلة من خروجهم من معتقل الواحات الذي كان أشبه ما يكون بالمنفي. و مع ذلك فإن جراح هذا الاعتقال الطويل لم تمنع "الفرسان الثلاثة" من القيام بمغامرة معايشة تجربة بناء سد مصر العالي، و هي مغامرة استمرت بين يونية وسبتمبر 1965 . أي أنها حدثت في أكثر الشهور قيظا. و كان سبب اختيار هذا الموعد القاتل أن "صنع الله" صمم علي مشاهدة آخر فيضان سيصل إلي مصر، و صمم علي أن يري العمل في ذروة الإجهاد و الحرارة "و إلا فكيف سنكتب" ! و كاد رءوف مسعد أن يفقد حياته في تلك الأثناء من جراء ضربة شمس مميتة نجا منها بمعجزة.
و لعل هذا التحقيق الصحفي الميداني الذي كتبه ثلاثة من أهم أدباء مصر أن يكون درسا للصحفيين الشبان الذين أدمنوا كتابة التحقيقات الصحفية بالتليفون ( و يمكنهم – بالمناسبة – معايشة هذه التجربة في كتاب "إنسان السد العالي" الصادر عن سلسلة "من الشرق و الغرب" دار الكتاب العربي للطباعة و النشر بالقاهرة- العدد 201 – في 10 يناير 1967.. و الثمن عشرون قرشا فقط لا غير )
صـــدمـــة الـهـــزيـمـــة
لكن هذا التفاؤل المتعجل الذي عبر عنه كمال القلش في مقدمة "إنسان السد العالي" سرعان ما أطاحت به هزيمة 5 يونيه 1967 الموجعة.
وربما كانت هذه الهزيمة القاسية و المهينة هي الخلفية الخفية الكامنة وراء "صدمة طائر غريب"
وهذه الرواية هي درة كمال القلش، و تحفته الأدبية، فهي عمل رائد، يشق مسارا جديدا علي خريطة الرواية العربية.
وفي رأي الناشر (دار الثقافة الجديدة) فأنها "رحلة العصر".. بدأت علي باخرة بيروت.. وامتدت إلي أوربا عبر أنقرة، و صوفيا, و بلجراد، و فيينا، و برلين.. ثم براغ و سالزبورج وفينيسيا والإسكندرية و طريق القاهرة الذي شهد صدمة الطائر الغريب.
إنها قصة تجريبية – وقت صدورها – تمتزج فيها ثلاثة أزمنة، منها زمن الكتابة، تتقارب حتى تلتقي في زمن واحد هو زمن المأساة.. كتبت بأسلوب حى منطلق، ينتمي إلي مدرسة الكتابة التلقائية التى رفع لواءها الكاتب الأمريكي "جاك كيرواك".
و بصرف النظر عن تقييم الناشر لهذه الرواية المدهشة، فإنها إلي جانب قيمتها الأدبية الرائدة التى لم يتم إلقاء الضوء عليها بصورة كافية بعد- تكشف عن بعض الجوانب المهمة لشخصية الكاتب نفسه.
فمن الناحية الفكرية نجد ومضات في "صدمة طائر غريب" التى صدرت قبل سقوط النموذج السوفييتي بعقدين كاملين من الزمان – تشهد لكمال القلش ببعد النظر و معاداة الجمود الفكري الذي كان مستشريا بصورة وبائية في فترة من الفترات. فنجد في ثنايا "صدمة طائر" انتقادات لجوانب من الحياة في مجتمعات النموذج السوفييتي التى مرت بها رحلة الرواية.
مـحـكمـــة التفتـيــش
و اذكر بهذه المناسبة أن كمال القلش ، عندما ذهب للعمل فترة في إحدي المجلات التى تصدر باللغة العربية في برلين الشرقية، استقبله بعض الزملاء المصريين، بمحاكمة استمرت ست ساعات اختتموها بمطالبته بتقديم نقد ذاتي مكتوب عن إساءته لسور برلين !!!
أما هذه "الإساءة" فليست أكثر من إشارتين في سياق أحداث رواية "صدمة طائر غريب" .
الإشارة الأولي (صفحة 70) حيث يقول" انطلقت العربة نحو سور برلين، دخلت حجرة الحدود أنا و عمر فقط، أعطيناهم الباسبور، كتبنا الأوراق لنعبر إلي برلين الغربية، نقف في طرقة مبني صغير، مفتوحة من الجانبين، الصمت شامل، تصبح رقما، و ينادي الضابط، سرنا خطوة، أخذنا أوراقنا، عبرنا حتى نهاية الطرقة ثلاث خطوات، خرجنا من الباب، وجدنا أنفسنا في فناء صغير ينتهي ببوابة صغيرة، وقفنا أمامها، سلمنا أوراقنا للضابط، رآها و حيانا، تفتح البوابة و تقفل، وجدنا أنفسنا في برلين الغربية".
أما الإشارة الثانية (صفحة 72) فتقول"سار عمر بالعربة وحيدا، بجوار سور برلين الذي يفصل و يقسم المدينة، السور الصلب الرقيق الحاد كالسكين، المغروز في الأرض، و الذي لا يرتفع أبعد من قامة الإنسان بقليل و لكن أحدا لا يجرؤ علي اجتيازه و إلا صعقته نيران الحراس. في ليلة واحدة نام الناس ككل ليلة في بيوتهم، و في قلب الليل كان رجال الحزب وشبابه قد سوروا المدينة البرلينية الغربية، وصحا الناس ليجدوا أنفسهم في مواجهة السور، و انقلبت الدنيا، و قامت وقعدت، و ظل السور قائما و به فتحات محسوبة، و علي كل إنسان أيا كانت جنسيته أن يبرز أوراقه و أن يحصل علي إذن محدود لكي يخرج أو يعود إلي المدينة، و عاش السور، و هو يكاد لا يفصل شيئا عن شيئ في حقائق الأمور الطبيعية، فالشوارع ممتدة كما هي و لم يتغير شيء طبيعي علي جانبي قسم الشوارع، البيوت والدكاكين و خطوط الترام و كل شيء أصبح جزأين، الشرق و الغرب، و لكنه أيضا ظل ممتدا و حقيقيا .. !"
هذا ما جعل بعض الرفاق الطيبين- لكن المصابين بمرض الجمود الفكري- يرغون و يزبدون ويحاكمون كمال القلش و يطالبونه بنقد ذاتي.. مكتوب !!
أليست هذه العقلية هي ذاتها التى أدت إلي إنهيار حائط برلين و سقوط التجربة السوفييتية بأسرها؟!
بـرديــة المقــاومــة
و مع سقوط التجربة السوفييتية سقط الكثيرون و انقلبوا علي أعقابهم – ومنهم بعض من امسكوا بتلابيب أديبنا لتطاوله على سور برلين -، لكن كمال القلش لم يكن من هؤلاء، فقد ظل متمسكا بأحلام العدالة و الحرية، و متشبثا بجدوي المقاومة لقوى الشر و الإمبريالية. و فاجأ الكثيرين عام 1996 – أي في ذروة أوقات الجزر الثوري و هيمنة القوي الأكثر يمينية علي قيادة النظام العالمي بأسره – بكتابه البديع "بورسعيد.. أيام المقاومة".
و قصة هذا الكتاب ليست أقل أهمية منه هو نفسه. و يحكي القلش هذه القصة بقوله: "في بداية الستينيات تعرفت علي الصديق إبراهيم هاجوج. كان شابا صغير السن آنذاك، و كانت تجربته هو و زملاؤه في المقاومة الشعبية في بورسعيد 1956 ما تزال حية و متقدة في داخله.
وفي سجن الواحات – حيث تزاملنا – اتفقنا علي أن أتولي تسجيل تجربته. كنا نقضي ساعات كل يوم معا، و علي مدي شهور أمطرته بمئات الأسئلة و هو يجيب بطريقته عما حدث، و سجلت هذا كله في كراس صغير احتفظت به، و نجحنا في تهريبه خارج السجن. وعندما حلت ذكري أربعين عاما علي العدوان الثلاثي علي بلادنا و علي المقاومة الباسلة لشعب بورسعيد عدت إلي الكراس الصغير فوجدت ما فيه مذهلا، و بدت الأحداث والمقاومة وأساليبها حية كأنما حدثت بالأمس"
هذه هي قصة الكتاب، و هي قصة مفعمة بالدلالات و زاخرة بالتساؤلات خاصة إذا أمعنا النظر في هذا الموقف العبثي. زعماء المقاومة الشعبية يروون تفاصيل المقاومة الوطنية و يتم كتابتها سرا و تهريبها في ظل النظام الذي احتضن هذه المقاومة من قبل !، أما الكتاب نفسه فإن أفضل وصف له هو ذلك الذي أسبغه عليه الأستاذ محمد عودة عندما قال أنه "بردية" تعيد الاعتبار لمرحلة مهمة من تاريخ مصر الحديث. و لكن كمال القلش لم يكن يستهدف فقط كتابة "التاريخ الشعبي" أو " التاريخ المقاوم" لفترة العدوان الثلاثي. صحيح أنه يقول أن كتابه "يسجل فقط ما حدث في الصفحة الأخيرة من المعركة النهائية التي هزم فيها الاستعمار القديم و يرصد و يسجل دور شعب بورسعيد و مقاومته الباسلة منذ لحظة احتلال المدينة، بل و قبل احتلالها حتى انسحاب المحتلين في 23 ديسمبر 1956" ، لكنه صحيح أيضا أنه كان ينظر إلي هذا الجهد علي أنه حلقة في سلسلة إعادة الاعتبار إلي فكرة الثورة و المقاومة، حيث يقول بصريح العبارة في مقدمة "بورسعيد" – الصادر عن سلسلة كتاب الأهالي- أن "الأمور أصبحت اليوم أكثر وضوحا أمام حركات التحرر الوطني في العالم الثالث، و عليها تقع مسئولية إعادة تقييم برامجها من جديد وصياغة تحالفاتها، كما أن التيارات الاشتراكية في العالم كله تفحص من جديد توجهاتها وتكتشف مثالبها وهي تعيد ترتيب أوراقها و أفكارها وقواها لتبدأ حقبة جديدة من النضال من أجل حياة إنسانية أفضل."
هذه هي جوهرة القلش الذي لم يتزعزع إيمانه بقضية "النضال من أجل حياة إنسانية أفضل" في أكثر اللحظات ظلاما.
مشـــاغــبات لنـــدن
حتى عندما اشتكي قلبه و رافقته إلي لندن لإجراء جراحة صعبة لتغيير الشرايين التى شكت من الإجهاد و تعب السنين، استضافنا الشاعر العراقي الكبير صادق الصائغ و هو أحد رموز اليسار المعارض لنظام صدام حسين. و مع "صادق" جاء العديد من زعماء"المعارضة" العراقية (وقتها) و كانت الإدارة الأمريكية في ذلك الحين تدق طبول الحرب علي العراق- و كان معظم أقطاب المعارضة العراقية الموجودة في أوربا يؤيدون هذه الحرب التى يلوح بها الرئيس بوش.
و أتذكر اليوم المناقشات الحامية التى خاضها القلش – رغم حرج حالة قلبه – مع زعماء المعارضة العراقية، و التى حرص خلالها علي تحذيرهم من عواقب التحالف مع الأمريكان، أو دخول بغداد علي دبابات الإحتلال الأمريكي.
و صدقت هذه التحذيرات التى تجاهلها أقطاب المعارضة بسياساتهم الميكيافيلية التى استباحت كل "الوسائل" من أجل الوصول إلي "غاية" الإطاحة بنظام صدام حسين.
ربــاعيـــة القلـــش
و علي أي حال فإن الكتب الثلاثة التى أشرنا إليها بسرعة – رواية صدمة طائر غريب وتحقيق "إنسان السد العالي" و بردية "بورسعيد" بالإضافة إلي المجموعة القصصية التى صدرت عام 1965 بعنوان "المراهق" – لا تلخص حياة كمال القلش، و لا تفيه حقه. فقيمته أكبر كثيرا من هذه الكتب المهمة و الرائدة.
لكن ندرة الإنتاج الإبداعي و الفكري لكمال القلش- مقارنة بأبناء جيله عموما ورفيقى مسيرته صنع الله إبراهيم و رءوف مسعد خصوصا – تطرح سؤالا عن سبب ما يمكن أن نسميه "إحجام" القلش عن الكتابة رغم قدرته الفائقة عليها و رغم أنه كان لديه الكثير الذي يقوله؟
ليس السبب هو فقط سنوات الاعتقال الطويلة.. بدليل أن صنع الله و رءوف – و غيرهما- شاركوه هذه التجربة.
و ليس السبب هو نقص في الموهبة.. بدليل أن "صدمة طائر غريب" تنطق في كل سطر من سطورها بالإبداع الخلاق و الموهبة المتدفقة، الأمر الذي دفع عددا من الباحثين لجعلها موضوعا لرسائل الماجستير و الدكتوراه بعد مرور كل هذه السنوات منذ صدورها..
و ليس السبب هو نضوب الإبداع.. بدليل أن القلش كان حتى أخر لحظة في حياته بئر أفكار، و ما من جلسة شارك فيها إلا طرح فكرة مبتكرة أو أثار قضية مهمة.
و ليس السبب هو اعتلال صحته في الأعوام الأخيرة.. بدليل أننا و نحن نتحدث في غرفته بمستشفي "لندن بريدج" علي ضفاف نهر التيمز إثر جراحة القلب المفتوح التى أجراها قال لي، أنا و رءوف مسعد الذي جاء إلينا من أمستردام للوقوف إلي جانبه أثناء هذه التجربة المروعة، أن لديه مشروعا روائيا هائلا إلي جانب عدد من الإشكاليات الثقافية التى يعتزم الانتهاء من الكتابة عنها بعد العودة إلي القاهرة، و وعدنا بالتخلي عن الكسل لإنجاز كل ذلك.
هناك في رأيي أكثر من سبب
السبب الأول هو أن الموهبة الأكبر لكمال القلش هي موهبة حب البشر و الحياة. و علي عكس المثل القائل "ما عدوك إلي إبن كارك" ، الذي نجد له تجليات كارثية في الوسط الثقافي حيث الكراهية و الضغائن و المناورات و الضرب تحت الحزام هي قواعد التعامل الأساسية بين كثير من الأدباء و الفنانين،.. علي عكس ذلك نجد القلش يطير فرحا باكتشاف الكتابة الجميلة أو الأدباء الحقيقيين. بل إني أزعم أن سعادته بالإبداع المتميز للغير كان لا يقل عن سعادته بإبداعه هو نفسه. و أذكر – مثلا – أنه كان يوقظني من أحلي نوم ليقول لي بسعادة طفولية إنه انتهي من قراءة مخطوطة رواية صنع الله إبراهيم الأخيرة قبل أن يدفع بها الى المطبعة ، و أن هذه رواية رائعة.. و فيها كيت و كيت.. و يظل يتحدث عنها بسعادة لأكثر من ساعة. و هو ما لا يفعله مع كتاباته هو شخصيا.
و تكرر هذا مع مسودات روايات رءوف .. كما تكرر كثيرا مع كثير من الأعمال الأدبية الجديدة فور صدورها، مثل روايات بهاء طاهر و محمد السباطي وعلاء الديب و محمد ناجي و إبراهيم عبد المجيد .. الخ.
و كثيرا ما كان يقول: إن فلانا أغناني عن الكتابة في هذه المنطقة!!
عــذاب الكتـــابـة
السبب الثاني أن الكتابة لم تكن بالنسبة للقلش مصدر متعة، بقدر ما كانت مصدر معاناة رهيبة. و ربما كان هو شخصيا أفضل من عبر عن ذلك علي لسان بطل روايته الرائعة "صدمة طائر غريب" حين قال: "لا أرغب في مواصلة الكتابة.. و لا يهمني أن أكتب أو أن يقرأ أحد ما أكتبه.. إنهار العالم كله، لماذا يحدث هذا، أين الخطأ و أين الصواب، أرفض أن تكون الحياة هكذا، الحياة بلا معنى، مفرغة من الداخل، مشحونة باللاجدوي، مكتظة باللامعقول، قوانينها ليست شريفة و لا مستقيمة، لماذا هذه المعاناة السخيفة المتكررة وسط طوفان من الأمراض والأوبئة و الفتك، و في ظل كل هذا علي أن أعيش و أكتب و أقاوم.. "
فقد كان كمال القلش رجلا صادقا، بحق و حقيق، لا يدعي احتكار الحكمة أو الحقيقة المطلقة، و لا يعترف بالشعارات الجاهزة أو العبارات المصكوكة سابقة التجهيز، و لذلك فإن أسئلته كانت أكثر من إجاباته، و حيرته كانت أكبر من شعوره باليقين. و لأنه لم يتعود أن يقول"أي كلام" فإنه كان يؤثر الصمت عن الكلام الفارغ.. و هذا أحد أسباب ندرة كتاباته و عمق كتاباته النادرة.
المهنــة .. صــديـــق
السبب الثالث: أنه كان ينظر إلي نفسه باعتباره أديبا "هاويا" و يمارس الحياة علي أنه صديق "محترف". فالصداقة بالنسبة له كانت هي الحياة في أرقي مراحلها و صورها. و من أجل الصداقة و الأصدقاء أنفق كمال القلش جزءا كبيرا من عواطفه و تفكيره و عمره.
و كل قصة من قصص هذه الصداقات الكثيرة و المتنوعة تكاد أن تكون في حد ذاتها عملا إبداعيا بكل ما في الكلمة من معنى، خاصة تلك المتعلقة منها بأدباء- بعضهم كبار جدا- يدينون بالفضل لكمال القلش الذي استعاض عن تحقيق ذاته برعاية براعم و مواهب كثيرة، ومؤازرة زملاء صغار وكبار.. بدون تعالم أو أستاذية.. رغم أنه كان أستاذا حقيقيا و قامة شامخة.. تحاول الاختفاء خلف إبتسامة ساحرة و ساخرة لم تفارقه أبدا.. حتى في أحلك الظروف.
وهى كلها صفات و خصال نادرة و منقرضة.. حتى أننا كنا نتصوره في كثير من الأحيان طائرا غريبا.. و جميلا. استمتعت أنا شخصيا بشرف زمالته و صداقته لسنوات في جريدة "الجمهورية" ثم ثلاثة عشر عاما متصلة في جريدة "العالم اليوم".. نلتقي كل صباح في الجريدة وقبل أن نفترق نتفق علي اللقاء في المساء.. و يستحسن أن يكون في شرق القاهرة إذا كان لدي محمد عوده ارتباطات أخري.
فكيف يكون العالم بدونك يا كمال؟
أوليس الإمام الشافعي هو القائل: "إذا مات أصدقاء الرجل..ذل"؟!
العزاء .. أنك مثل الأشجار الشامخة التى لا تموت إلا واقفة.. ودعت الحياة و أنت رافع الرأس إلي عنان السماء، اجتهدت دائما.. أصبت حينا و أخطأت أحياناً لكنك لم تفرط يوما في شرف الكلمة، مؤكدا بالمثل و النموذج أن المثقف المحترم هو القاعدة و أن خونة الثقافة هم الاستثناء.. وأن الإنسان الذي يعض كلبا، أو حتى إنسانا، ليس وحدة القياس.
و طبت حيا و ميتا.. يا صديق العمر.