كان مشهدا يثير النفور.
"لاَ تَفْرَحْ بِسُقُوطِ عَدُوِّكَ وَلاَ يَبْتَهِجْ قَلْبُكَ - إِذَا عَثَرَ لِئَلاَّ يَرَى الرَّبُّ وَيَسُوءَ ذَلِكَ فِي عَيْنَيْهِ فَيَرُدَّ عَنْهُ غَضَبَهُ!" هذا ما توصي به الأخلاق اليهودية (سفر الأمثال، الإصحاح الرابع والعشرون، 17، 18).
كاتب هذا التحذير كان يعرف حق المعرفة، أن كل إنسان يفرح عند سقوط عدوه، ولكنه أراد التنويه إلى أن هذه ميزة سيئة في الطبيعة البشرية، وعلى الإنسان التغلب عليها.
وها هي دولة عظمى تسقط إلى الحضيض، وتعرض مرارا وتكرارا صورة صدام حسين البائس، بينما يقوم جندي أمريكي بتفلية شعره من القمل ويعالج أسنانه.
لو كان من الممكن الشعور بالشفقة على شخص مثل صدام، الذي كان مسئولا عن موت مئات الآلاف، فالأمريكيون قد نجحوا في فعل ذلك. فعند إظهارهم له كشحّاد مخدّر، يتوصلون بذلك إلى نتيجة عكسية من النتيجة التي كانوا يأملون بها. وقد ناشد الفاتيكان بانتهاج الرأفة في التعامل معه. إن الإذلال العلني لزعيم عربي، وليكن رأينا فيه ما يكون، تثير مشاعر قوية من الذل والغضب لدى عشرات الملايين من العرب، وستجد مثل هذه المشاعر تجسيدا عنيفا لها. إنها ستكلف دما، ودما كثير.
(لقد قلبت الولايات المتحدة الدنيا رأسا على عقب عندما عرض الجيش العراقي صورا لبعض الأسرى الأمريكيين).
إن القصص الصبيانية أيضا حول النجاح العظيم للجيش الأمريكي ووكالة الاستخبارات تثير السخرية، فمن الواضح هنا أننا أمام حالة عادية من الوشاية مقابل المال.
كل من يستطيع تحليل المشاهد التلفزيونية يمكنه أن يرى بأن الفرحة "التلقائية" التي ظهرت على الشاشة قد تم إخراجها بشكل قبيح. مجموعة صغيرة تلوح بأعلام الشيوعية. بعض العشرات يقفزون ويصرخون أمام الكاميرات – وهم نفس الذين قفزوا قبل سنة أمام كاميرات صدام. صحفيان عربيان يثوران فرحا في المؤتمر الصحفي الذي عقده وأخرجه جنرال أمريكي. لقد تصرف ونستون تشرتشل بعد نصره، في حرب ضروس، بشكل آخر. ولكن بوش ليس تشرتشل.
لم أكتب عن العراق في هذه الزاوية منذ انتهاء المعارك. فقد تمالكت نفسي لأنني أعرف جيدا بأنه ليس من الحكمة أن أقول: "قلت لكم". ولكن يصعب علي أن أكتب عن العراق دون أن أستخدم هذه الكلمات، لأن كل التنبؤات التي طرحناها في هذه الزاوية قبل الحرب وخلالها تتحقق الواحدة تلو الأخرى. على سبيل المثال:
(?أ) الأمريكيون يجتاحون العراق للبقاء فيها.
لم يأت الاجتياح بسبب "الإرهاب الدولي". ولا بسبب "أسلحة الدمار الشامل". لقد أتى هذا الاجتياح بسبب النفط.
لم يكن هدف الولايات المتحدة هو إسقاط صدام والعودة إلى البيت، بل إقامة قاعدة عسكرية أمريكية ثابتة في قلب الأمة العربية، في دولة عربية لديها ثاني أكبر مخزون نفط في العالم، وتقع على مقربة من كنوز النفط في السعودية وبحر قزوين.
أصبح الآن من الواضح تماما أنه لم تكن هناك أية علاقة بين صدام وأسامة بن لادن. "أسلحة الدمار الشامل" لم تكن موجودة أصلا، فقام الأمريكيون، بعد وقوع الحدث، بتغيير سبب الحرب: القضاء على نظام صدام وتأسيس حكم ديمقراطي في العراق. (فالقاعدة تقول: ابدأ الحرب أولا، ومن ثم جد لها سببا).
جميل جدا. لقد تم القضاء على حكم صدام – أما الأمريكيون فلا يحلمون بالعودة إلى بيوتهم.
من الممكن عقد الانتخابات فورا، ولكن الأمريكيين يرفضون ذلك. إنهم يريدون إبقاء فرقة الدمى التابعة لهم على ما هي عليه، لكي تدعوهم إلى البقاء هناك إلى الأبد.
سيبقى الاحتلال الأمريكي قائما لمدة طويلة جدا، فهو ليس وسيلة، بل هدف.
(ب) لن تنتهي الحرب بسقوط نظام صدام، فما هي إلا البداية.
تتحقق هذه النبوءة الآن بأبشع الأشكال.
ليس هناك أي شعب يوافق على احتلال الأجنبي له، فالاحتلال يولد النضال.
لقد رويت في حينه عن تجربتنا في جنوب لبنان: استقبلوا الإسرائيليين كمحررين لأنهم أبعدوا الفلسطينيين وبعد عدة أشهر أطلقوا عليهم النار من كل حدب وصوب، لأنهم لم ينصرفوا. لقد هربنا بعد 18 سنة وألف قتيل، نتعثر بظلنا.
لا يمكن للأمريكيين أن يعترفوا بمثل هذه الحقيقة البسيطة. إنهم لا يرون في أنفسهم محتلين، بل كمن جاءوا لمساعدة الشعب العراقي. إنهم متأكدون من أن الشعب العراقي يشكرهم على ذلك ويكن لهم المودة. لذلك اخترعوا لنفسهم أسطورة: إن مقاتلي الحرية العراقيين والعرب ليسوا هم الذين يقومون بالعمليات ضد جيش الاحتلال وخدامه، بل مؤيدوا صدام الشرير.
وها هو صدام الشرير يلقى القبض عليه، ويتضح جليا بأنه لم تكن لديه القدرة على قيادة حرب العصابات من الأماكن الحقيرة التي كان يختبئ فيها. لقد وضع إلقاء القبض على صدام حدا لأسطورة مؤيدي صدام الأشرار.
تسود الآن في العراق حالة استعمار كلاسيكية: احتلال أجنبي يأتي لنهب الكنوز الطبيعية المحلية. تهب ضده مجموعات عنيفة يؤيدها قسم كبير من السكان.
قبل 200 سنة قضت مثل هذه المجموعات على نابوليون العظيم في إسبانيا وفي ذلك الحين نشأ مصطلح "غيريلا" (الحرب الصغيرة).
ماذا سيحدث بعد ذلك؟ كل الأمور واضحة مسبقا: سيزيد القمع الوحشي للسكان مقابل العمليات الانتحارية، مما سيزيد من تأييد السكان للمقاتلين، وهكذا دواليك. دائرة مسحورة يعرفها كل إسرائيلي تمام المعرفة. هذا ما حدث في لبنان، هذا ما يحدث الآن في المناطق الفلسطينية المحتلة.
الإذلال العلني للزعيم المهزوم سيزيد من سرعة هذه العملية.
(ج) صدام المهزوم يمكن أن يكون أكثر خطورة من صدام المنتصر.
هذا يطرح السؤال: ماذا سيفعلون بهذا الأسير؟
الأمريكيون قد عبروا عن رأيهم: تسليمه إلى خدامهم العراقيين لإجراء محاكمة عراقية له تكون نهايتها الإعدام.
سيكون ذلك بمثابة عمل إجرامي من الدرجة الأولى.
لن يصدق أحد بأن مثل هذه المحاكمة سوف تكون عادلة. فهي لا يمكن أن تكون عادلة أصلا، لأنها لو كانت كذلك فسوف يستغل صدام المسرح ليتحول إلى المدعي ويتحدث إلى مئات الملايين من العرب والمسلمين الآخرين.
كان من الحكمة أن يتيحوا لصدام الهرب إلى جزر الفيجي، لينهي حياته هناك بهدوء، مثله مثل إيدي أمين في السعودية. لكن جورج بوش يحتاج إلى إذلال صدام بشكل متواصل لكي ينتخب ثانية.
أما الآن فإن أصح الأمور هو نقل صدام إلى هاغ، ففي نظر العالم يستحق صدام نفس المعاملة التي استحقها السفاح الآخر سلوفودان ميلوشفيتش. إذا تعاملوا مع صدام بشكل مختلف فسيستنتج من ذلك كل العالم الإسلامي (وبحق) بأن هناك معايير مزدوجة: أحد هذه المعايير لزعيم أوروبي مسيحي، والآخر لزعيم عربي مسلم.
ولكن بوش لن يهدأ له بال إلا إذا رأى جثة صدام معلقة في إحدى ساحات بغداد – ربما تكون تلك الساحة التي نصب فيها التمثال الذي تم تحطيمه في ذلك الاستعراض في حينه.
(د) الحديث عن إقامة نظام حكم ديمقراطي في العراق هو مداهنة ونفاق.
يحتاج الأمريكيون بهدف استمرار احتلالهم، إلى نظام حكم مؤيد. لو استخدمنا المصطلح الذي ساد في الحرب العالمية الثانية: فإنهم يحتاجون إلى كويسِلنغيين (كويسِلينغ كان ميجر في الجيش النرويجي باع وطنه إبان الحكم النازي في بلاده وألف حكومة صورية برئاسته عام 1940 لدى احتلال أوسلو عاصمة النرويج – المترجم).
عندما حول البريطانيون العراق إلى دولة تحت حمايتهم، توجوا فيها الأمير فيصل ملكا وهو ابن العائلة الهاشمية من مكة. يحتاج الأمريكيون بهدف جعل العراق دولة تحت حمايتهم، إلى تتويج عملاء محليين.
لو أجريت انتخابات ديمقراطية حقيقية، فسيتطاير العملاء الأمريكيون من هناك كريش في مهب الريح – هذا إن لم يقتلوا قبل ذلك، فهو أمر مفروغ منه. لذلك لن تكون هناك أي انتخابات ديمقراطية حقيقية.
بشكل عام، لا يمكن زرع نظام اجتماعي في أرض حضارة أخرى، وكأنه مجرد شجرة، فالشجرة أيضا تحتاج إلى تربة تناسبها.
لقد نمت الديمقراطية الغربية خلال مئات السنين بشكل طبيعي، امتدادا من المجتمع القروي إلى البرلمان الوطني. أما زرعها دفعة واحدة في المجتمع العراقي الذي يرتكز على القبائل والعشائر وعلى مفاهيم وتقاليد مختلفة – فسيكون بمثابة مهمة مستحيلة.
ماذا حدث للديمقراطية الغربية التي زرعت في اليابان بالقوة؟ الشكل الخارجي موجود، ولكن الواقع مختلف تماما. ماذا يحدث الآن للديمقراطية الغربية في روسيا؟ لو سألتم أي روسي سينفجر ضاحكا.
(هـ) سيتفكك العراق.
عندما قلنا ذلك قبل سنة كان يبدو كتكهن أحمق. أما الآن فهو يبدو مشهدا مؤكدا.
إن دكتاتورا قامعا فقط مثل صدام يمكنه أن يبقي هذه الحزمة مترابطة. لقد فعل ذلك المستعمرون البريطانيون قبل ثورة 1958. غير أنه في النظام الديمقراطي لا يمكن لذلك أن يحدث.
حساب بسيط: هناك أغلبية شيعية، وستسيطر هذه الأغلبية في النظام الديمقراطي، ولا يمكن لمثل هذا النظام أن يكون نظاما نيرا، بعد أن كانت السنة قد قمعت الشيعة على مدى أجيال. لا يمكن للسنة، في المناطق الوسطى في العراق، أن يقبلوا بسيادة الشيعة الذين يحتقرونهم. لا يمكن للأكراد في الشمال، الذين يتطلعون إلى الاستقلال منذ الأزل قبول سلطة العرب – أكانوا من الشيعة أو من السنة. فهم بالكاد يتفقون فيما بينهم.
يستطيع الأمريكيون منع هذا التفكك إذا فرضوا نظام الاحتلال فقط، علنيا كان أو خفيا. يمكنهم أيضا إقامة بنية مصطنعة، على شكل فدرالية يتألف العراق فيها من ثلاثة أجزاء لكل منها حكم ذاتي. إلا أن ذلك سيكون في الظاهر فقط.
عند تلاشي دولة العراق الموحدة سينشأ ميزان قوى جديد في المنطقة. على مدى مئات السنين كان العراق يشكل سورا شرقيا يحمي العالم العربي وحاجزا أمام إيران التي تتطلع منذ القدم إلى أن تتحول إلى الجهة الأكثر فعالية في المنطقة كما في عهد كورش. إن إسقاط هذه السور سيغير الوضع الجغرافي-السياسي لجميع الدول في المنطقة، ومن بينها دولة إسرائيل.
تفكيك العراق سيكون بمثابة فاتحة تدهور شامل: سيتحول العالم العربي إلى بركان ثائر وستهدد الأصولية الإسلامية كافة الأتظمة العربية، وستتلاشى الحدود بين تركيا والدولة الكردية-العراقية، وسينشأ توازن ذري مخيف بين إسرائيل وإيران، يمكن له أن يثبت أو أن ينهار، وسيتحول "الإرهاب الدولي" من أسطورة إلى واقع.
كما قلنا ليس من اللائق وليس من الحكمة أن نقول: "قلت لكم". ولذلك لم أقل.