غريب عسقلاني
الحوار المتمدن-العدد: 2228 - 2008 / 3 / 22 - 01:34
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
قراءة في رواية عبد الله والمدينة للروائي المصري عبد الفتاح مرسي
في رواية عبد الله والمدينة يطرح الروائي عبد الفتاح مرسي الكثير من القضايا, بالقبض على سيرته الذاتية وسيرة مدينة الإسكندرية، حيث تتداخل السيرتان لدرجة التماهي، ما يجعل من الصعوبة فصل الكائن عن مكانه، وتتوازى السيرتان عند بعض المحطات، فلا يتم التقاطع بينهما إلا عند بعض المفترقات, مع قاطرة التاريخ الذي يمتطيها الراوي/ السارد العليم الذي يسلط الأضواء على تاريخ مصر الحديث منذ الحملة الفرنسية إلى ما بعد ثورة يوليو 1952 التي أدركت المؤلف/ الراوي صبياً في الثانية عشة من عمره، بما يضع المتابع على عتبة التأمل في فضاءات الأسئلة على الدوام.
والكاتب يقدم روايته بطموح الاضافة إلى فن الرواية، وقد تأهل بالمعرفة لاختبار ما يمر في مرجل المدينة. وهو أحد عناصرها.
بطل الرواية عبد الله ابن الأسطى مرعي ابن النجع في عزبة شندويل الساكنة صعيد مصر، أتى المدينة باحثاً عن رزقه, يقيم في حي زعربانة مع أقرانه من الوافدين يشكلون مجتمعاً آخر على هامش المدينة, يراقبون قلب المدينة ولا ينصهرون فيه، وقلب المدينة المكتظ بالعابرين من أتراك وأكراد وإغريق ويهود، وباشوات ووجهاء وأصحاب مصالح ونفوذ، والمدينة غانية لعوب "يحمر وجهها خجلاً عند لقاء الغرباء،إذا لم ينصرفوا عنها على الفور.. تضاجعهم ".ما يدفع إلى مفارقة مذهلة تدفع إلى دهشة التعرف لتبين المسافة بين خفر الخجل وحمأة الشبق الطارئ لدرجة المضاجعة, ولعل ذلك يفسر بدايات الالتباس والحيرة عند الصبي عبد الله بعد رحيل زميل دراسته اليهودي شارلي, وكذا اختفاء أبناء مناحم ليفي أصحاب المصانع والورش، وغياب راشيل ابنة الصائغ الجوال ابراهيم شحاتة. ليعرف أنهم غادروا إلى إسرائيل وأصبحوا من الأعداء. فيتخيل في موضوع التعبير اللقاء بينه وبين شارلي في ساحة المعركة، وأن لا أحد منهم يطلق النار على الآخر.وهذا ما يرفضه معلم اللغة العربية لأن الحرب لا تقبل المصالحة ولابد أن يقتل أحدهما الآخر وإلا اتهم بالعمالة والخيانة..ذلك أول دروس السياسة التي يتلقاها الصبي فيفتح عيونه على الملياردير اليهودي روتشليد الذي حقق حلم الصهيونية بإقامة دولة إسرائيل بسطوة المال على ميدان السياسة الدولية, وقد استشعر اليهود تغير ميزان القوى، وتغير الولاءات فقدموا الخدمات دونما شعور بالدونية. هذا ما فسره معلم التاريخ رأفت شنودة اليساري النزعة, الذي يقرأ التاريخ وفق جدليات توظف دور الاقتصاد في السياسة، وبلورة الشرائح والطبقات الاجتماعية والسياسية، وتفسير سقوط الوزارات وتبادل الأدوار بين الأحزاب. لكن عبد الله/ الراوي يقف مندهشاً من أستاذه الذي أصبح عضواً ناشطاً في هيئة التحرير, وتزيد دهشته عندما يعود المعلم بعد غياب طويل في السجن على خلفية قتل أخاه في نزاع على الميراث. ما جعل عبد الله يعيد التفكير في ذلك المفكر الذي ارتدى جلباب القرية وارتد إلى مواريثه الأولى وغيب منطقة واقترف الجريمة, هذا المفكر الذي يعود إلى المدينة ليفتح دفاتره من جديد..أي مفارقة تقود التلميذ إلى الرجفة؟! لكنها المدينة المأخوذة عنوة من العابرين حكاماً وأصحاب نفوذ وأبناء جاليات وأصحاب امتيازات غيروا وجهها وأخذوها إلى تطور غير متوازن يعكس تناقض المصالح والأمزجة والأهواء والطموحات, ما أوجد حرفة البغاء في شارع جنينه في كوم بكير إلى جانب البورصة ونوادي القمار والحلقات التي تحيط بالملك الشاب الذي يتسلى بحيازة ما في أيدي الآخرين، فيخسروا أمامه على طاولة القمار ليكسبوا أضعاف ذلك من امتيازات وألقاب ورتب ومراتب تمكنهم من الوصول إلى النخب المتحكمة في المجتمع, وتجعل من قصة ولاعة سجائر مدام صيدناوي التي صممت خصيصاً لاستدراج الملك حدثاً اجتماعياً مدهشاً..
المدينة تدهش العابر إذا لم يتعمق سر الحالة ويقف طويلاً عندها, كما بدا للروائي الانجليزي داريل عندما وصف نساء الإسكندرية في إحدى رسائله "نساء الإسكندرية أجمل من نساء باريس وأثينا، أنهن امتزاج هائل من القبط واليهود والسوريين والمصريين والأسبان. فهن ذوات عيون كحيلة لماحة وبشرة زيتونية منمشة وأنوف حادة. ولهن مزاج يشبه البركان"
هذا الانجليزي الذي خايله مزاج ألف ليلة وليلة، لم يدرك الجانب الآخر من الدهشة لدى بنات بحري سليلات الخلطة القوقازية والتركية العربية والمصرية الكردية, ذلك لأنهن معتصمات في بيوتهن يحافظن على بهاء الحياة وتقاليده, وهو ما أدركه مراقب نافذ مثل عبد الله (المؤلف) الذي تماهى مع مدينته واندمج فيها, وتوصل إلى عميق أسرارها على عكس أهل الهامش في زعربانة الذين مازالوا ينظرون إلى العالم خارج حياتهم بارتياب وحذر فبنات المدينة "يتكلمن بالعين والحاجب ويحزقن ملاءاتهن على أردافهن وكأن الواحدة منهن دهنت جسمها بالأسود اللميع ومشت عارية.." ارتياب حذر يخفي الإعجاب والرغبة في حيازة المحرم بدوافع شبق جنسي يصل بصاحبه لدرجة الصراخ، فيتحوصل في جلباب القرية يلوذ بالتقاليد الصارمة. ويقطع وشائج التواصل مع قلب المدينة المضيفة التي تعاشر المغامرين والأفاقين والفقراء والشواذ, يتجاور فيها الناس من كل المشارب ما حبب للشاعر اليوناني كافيس ممارسة جنونه وشذوذه فيها دون رقيب أو حسيب, لا يشاكسه أحد في موقعه الأثير في قهوة البلياردو يكتب على هواه ويتأمل..
"أين يمكنني أن أعيش في مكان أفضل من هذا، الماخور في الطابق الأسفل يلبي عندي ضروباً من التسلية الجسدية، والكنيسة المجاورة تقوم بغفران الخطايا وهناك بالقرب مني المستشفى حيث سأموت حتماً..."
أية خلطة عجيبة هذه الإسكندرية، قلبها مباح ومستباح فيما أطرافها تقبض على الأخلاق لدرجة التناقض والقطيعة، فأصحاب المدينة في أحياء بحري تربوا في حضن البحر، وعشقوا النوات والمواسم، وآمنوا بأقدارهم وحافظوا على بنيتهم وأقاموا أسوارهم في وجه الطارئين, وفي حي زعربانة الفقراء يتكلسون بأعراف التقاليد فيما صبيانهم يسرقون الأزهار من الحدائق التي هجرها الباشوات والأغنياء ويبيعوها بثمن بخس, ويسطون على ديوك من سكن القصور من الحراس بعد هروب أصحابها من تطبيقات التأميمات والإصلاح الثوري, وظهور نخب جديدة. ما يجعل رئيفة الأصيلة أم عبد الله الراوي تتوزع بين المباح والمحرم عندما يأتيها أحد أولادها بديك مسروق. "سامحنا يا رب..نحن لا نستطيع أن نفضح ابننا عند الناس الأكابر إذا استدلوا عليه وجرجرونا في أقسام الشرطة وحبسونا..سامحنا يا رب ونحن نأكل هذا الديك وربنا يكثر من ديوكهم.."
أين عبد الله من مدينته وقد وقع في غواية الأدب والثقافة، وقطع أشواطاً من عمره قارئاً باحثاً عن المعرفة يشكل رأياً ويستمع لمعلمة رأفت شنودة, يحلم بالاشتراكية ويصمت على مضض عن مذبحة العمال غرقاً في ترعة المحمودية, ويتأكد من موت خميس والبقري في المعتقل وموت شهدي عطية فيما بعد. ما يفتح السؤال على مداه حول حرية الرأي ومحاصرة الرؤيا في ظل شرائح نبتت فجأة، وتربعت في غياب الأحزاب ومنابر الرأي الأمر الذي جعل وجه المدينة ينسحب إلى شحوب وصفرة تأكل طلعتها البهية, فلا يجد الشاب المعبأ بالهواجس غير الكتابة سبيلاً ولكن كيف يكون نشر ما يكتب ومن يقرأ، وهو المسفوح المشطور كما مدينته التي غيرت ملابسها وأساورها وأدوات زينتها، وأخذت تبكي خلسة أيام الصبابات، وتبتسم على خواء حتى جاءت النكسة جواباً بليغاً ومصطلحاً يسكن صداعا يقترب من صافرة الموت..
وعلى الجانب الآخر لابد أن يبحث عن شريكة عمره التي تتكامل معه أو على الأقل تستوعب حالاته. ولا بأس لو وقع على من تدهشه فذلك الفوز العظيم، فنراه وقد خدعته النشوة مع سلوى الفتاة الهجين لأب مصري وأم ألمانية رفيقته في رحلة الجامعة إلى البحر الأحمر التي قلبته فأدركه الحب، وعندما صارحها بعواطفه صدته مذكرة إياه أن ما حدث بينها كان لدواعي التسلية واستثمار الرحلة بأقصى متعة ممكنة، وأظهرت امتعاضها من سذاجته وانسياقه وراء عواطفه.
ولم يطل به الوقت حتى تقاطع مع مها الحاجولي الشاعرة الواعدة, فعمل جاهداً على رعايتها، وعندما أقلعت في دنيا الشعر انحازت إلى معيد في الجامعة تاركة إياه يمزق ما كتبه فيها من قصائد، ويصرخ في وجه أبيه الأسطى مرعي الذي يزين له الارتباط بقريبته عواطف لأنها ابنة النجع ولأنها مثل مهرة وشعرها خيلي طويل
- أبي أرجوك أنا لا أعيش في صحراء وأتمنى أن أقتني فرسه.
الشاب المؤرق تصده المدينة الملاوعة, فيعود إلى زعربانة ليجد ضالته في عواطف بنت المنجي عبد اللطيف سائق القطارات وزوجته المنصورية اللذين يتعاليان عن الحارة ويقفان وسطا بين جمعية الصعايدة وجمعية المنابفة. يتجاوز المنجي عن خصومته مع الصعايده وضربة بتحريض من الأسطى مرعي, وتتم الخطبة ويُطلب عبد الله إلى الجيش ليكتشف الأسطى مرعي أن المنجي سبق وأن وشي بعبد الله المتهرب من العسكرية إثر الخصومة القديمة فينتج عن ذلك فسح الخطبة وزواج عواطف من محامي المنايفة بعد أن أصبح أبوها عضواً في جمعية المنايفة, فيكتشف عبد الله أن عواطف كانت تبحث عن الزواج ولا تبحث عن الحب وهو ما فعلته معه فريال المتعلمة المثقفة التي فردت له حبال المودة وسحرته بثقافتها وسعة أفقها ولكنها تزوجت من التاجر السوري ممدوح الناعوري محققة بذلك وحدة القطرين على حسابه.
ما الذي يفعله عبد الله بعد كل الصدمات والنكسات في هذه المدينة التي تسكنه، والتي تظلل كل ساكنيها لا تفتح ذراعيها إلا لمن يتخذها أماً دون غيرها وتخرج لسانها للعابرين بها وتنظر بعين الرحمة إلى من تسكن فيه روح الصبار فأقصى ما يتمناه الصبار أن يكون قادراً على تخطى قسوة الأجواء وقلة ما يصله من ماء، مع ندى الفجر..ليس غير.
***
هل أمسك عبد الفتاح مرسي بسيرته الذاتية (سيرة عبد الله) وسيرة المدينة التي يعشقها, وهل نفض عنه غبار النجع ودخل حالة الأرق الذي يعانيه المثقف في بلد تتقلب على شهوات الغير حتى كادت تغير جلدها، لم يعصمها من التلاشي غير أهل بحري ومن أقاموا السياج في زعربانة يحافظون على الأصول والمنابت الأولى.
في تقديري أن عبد الفتاح مرسي السارد الذكي أختار هذه المرة لغة تركب السخرية السوداء, وتأخذ إلى البكاء الصامت دون صراخ أو عويل، ما يكشف عن الوجع المزمن للإنسان العربي. وبذلك قدم رواية مكان جديرة بالتأمل لأن مدينته الخالدة كما العنقاء تخرج من تحت الرماد لتقلع من جديد، وفي ذات الوقت نثر في دروبها سيرته من خلال تبلور عشيرته التي أصبحت ساكناً أصيلاً قرر عدم الاندماج في المدينة ليحميها ويحمي نفسه، وذلك بامتطاء صهوة التاريخ بوعي حاضر وعميق ليفتش في دروب السياسة بأدوات مفكر له وجهة نظر, ولو أنني تمنيت لو لم يطل في السرد التاريخي لمرحلة ما قبل الثورة لأنه سحب القص إلى فضاء البحث.وهذا لا ينفي أن رواية عبد الله والمدينة مغامرة لافتة تطرح الكثير من القضايا الفكرية والسياسية, كما تطرح أسئلة جوهرية حول الآفاق التي يمكن للرواية أن تقتحمها في قوادم الأيام.
#غريب_عسقلاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟