أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - تقي الوزان - ذكريات لها رائحة الورد















المزيد.....


ذكريات لها رائحة الورد


تقي الوزان

الحوار المتمدن-العدد: 2227 - 2008 / 3 / 21 - 11:20
المحور: سيرة ذاتية
    


تعرفت عليه وقد تجاوز الاربعين . وفي حياة البيشمركة الفقيرة , تكون احدى التسليات محاولة تصغير العمر , وبالنسبة للنصيرات لم تتجاوز اية واحدة منهن التاسعة والعشرين عاماً , حتى وهي تتحدث عن مشاركتها في ثورة العشرين . كانت مفارز الشيوعيين فقط عندها نصيرات , وكن موضع اعجاب وترحيب وبعض الاحيان اندهاش من العوائل الكردية . وتصادف ان تكون مع المفرزة رفيقة واحدة , وعندما تستضيفنا بيوت القرية كانت العوائل تريد ان تكون النصيرة ومن معها عندهم , وكنا نتسابق ان نكون مع احدى النصيرات , وهذا يعني ليس الترحيب الجيد فقط , بل ووجبة طعام جيدة ايضاً .

انشغلت الرفيقة مع ابناء البيت , وبعض النساء والاطفال من بيوت اخرى جاءوا يرحبون بها , ويتمتعون بقربها وقد وضعت الكلاشنكوف بجانبها , وهي تحدثهم عن الثورة والحزب وضرورة الوقوف بوجه النظام البعثي الفاشي . وتنصحهم ببعض الملاحظات الطبية , وتقدم بعض الادوية المتوفرة في ( عليجتها ) لمساعدة بعض المرضى . في هذه الفسحة التي منحتها لنا انشغالات الرفيقة سألني ابو سالار عن قصيدة لاحد الرفاق سمعّنا اياها في الليلة السابقة , واجبته : لايوجد فيها اكثر من بيت شعري واحد , وقد نظم قبله عدة ابيات , وبعده عدة ابيات وسماها قصيدة . وهو يعتقد انه ما دام نصيراً يمكن ان تكون كل اعماله جيدة , ويعتقد ان الروايات التي تتحدث عن عظمة الانصار هي كل ما كتب عنهم , وليس هناك الكثير من التجارب الفاشلة , او التي اريد لها ان تفشل .

كان يتهيب ملاحظاتي حول الشعر , وبعد ان عدنا من سهل شهرزور الى المقر الذي يبعد ثمان ساعات سيراً على الاقدام , ونعبر خلاله احد الشوارع الرئيسية , ويكون عبورنا في فترة الغروب او بعده , لعدم تمكن مفارز السلطة من مراقبة الطريق بعد الساعة الرابعة عصراً . وجدته متريثاً في رغبته اسماعي احدى قصائده – كان شاعراً شعبياً - , واخذ يشرح لي القصيدة قبل ان يسمعني اياها . ابو سالار امين وصادق لايعرف الكذب , وحتى في بعض الحالات التي يريد بها تطمين صديق اورفيق ب( كذب ابيض ) سرعان ما ينكشف . انعكست هذه الصفات في شعره , كان يمتلك تلقائية في توارد الصور الشعرية تطغي عل المكونات الاخرى للقصيدة , وتكون قصيدته متعثرة لو حاول ان يكملها بعد التدفق الاول , الذي يأتي في هبّة تمنح القصيدة خصوصيتها وجمالها, وهو اهم ما يمتلكه في قدرته الشعرية . وعليه ان ينمو في داخل هذه البراءة , ويبتعد عن تحميل القصيدة ما يشي بثقافته , لانها ستكون اشبه ب( الكذب الابيض ) .

في البيشمركة تقليد , وهو عندما نأتي الى المقر نأخذ استراحة من الواجبات لمدة ثلاثة ايام , الا اننا في اليوم الثاني كلفنا معاً بنقطة حراسة تقع فوق ( هزارستون ) وهو اسم المقر , وهي قمة متوسطة من بين عدة قمم قبل سلسلة الجبال التي تشكل الحدود بين ايران والعراق وبين امتداد سهل شهرزور . " هزارستون " تعني بالكردية الف عمود , وهو في الحقيقة شكوت ( مغارة ) ترتفع لما يقرب عشرين متراً , وفيها عدة اعمدة , وتمتد الى نهايات متعرجة , يتحول بعضها الى دهاليز دائرية قاسية لانعرف نهاياتها . كانت المغارة باردة في الصيف , وفي الشتاء تتمتع بدفئ نسبي . كانت مستوطنة للعضايات والافاعي , وآلاف الخفافيش التي تتدلى بسيقانها عند الغروب من سقف الشكوت بانتظار حلول الظلام لتنطلق . كان على جانب المغارة الكبيرة بعض المغارات الصغيرة , استخدمت احداها كمخبز ووضع فيه التنور , والأخريات سكنت فيها بعض عوائل الرفاق , كشقق كنا نحسدهم عليها .

كانت واجهة المغارة باتجاه الجنوب الشرقي , وهذا ما حرم الجيش العراقي من اصابته بالمدفعية . ويفصله عن الجبل الذي يقابله وادي حاد الانحدار , يضيق عند المدخل ليصل الى عشرين متراً . كنا نأخذ الماء من العين في الجبل المقابل بعد ان وضعنا " الصوندة " على حبل يربط بين الجانبين . كان عرض العمود الوسطي في واجهة المقر متراً ونصف المتر , ويكاد ان يكون مستوياً . تمكن احد الرفاق الرسامين من صنع سلم بدائي ورسم شعار المنجل والجاكوج في منتصفه , أي على ارتفاع عشرة امتار . وعندما استولى الجيش العراقي على المقر , وضع صورة الخميني تحت المنجل والجاكوج , وعرضها في التلفزيون العراقي كدليل على عمالة الحزب الشيوعي العراقي للنظام الايراني .

الحراسة في البيشمركة ساعة واحدة , والساعتان الاوليتان بعد الغروب التي قضيناها سوية انا وابو سالارفي النقطة التي فوق المقر , وبعدها تنسحب الحراسة الى نقطة لاتبعد اكثر من خمسة عشر متراً من المقر . ابو سالار اداري فصيل هزارستون , والفصيل لايعرف عدد محدود , ولكنه لايقل عن عشرة رفاق وصبحة , وصبحة حمارة اخذت اسمها من اسم والدة صدام . كان ابو سالار حريصاً في توزيعه للمواد الغذائية , وفي كيفية الحصول عليها , وايجاد الطرق الصحيحة لخزنها وانقاذها من التلف . حدثني عن ضرورة خزن الرز في اكياس تكون مرتفعة اكثر عن باقي المواد مثل العدس والحمص , لتحاشي اكله من قبل الفئران . سألته : وكيف عرفت ان الفئران تحب الرز ؟! اجاب : من الضروك . لأن لونها ابيض , وفيها رائحة عنبر .
اجبرنا في احد المرات ان نعمل اربعة مستطيلات صغيرة مستوية في انحدار الوادي ليزرعها بالخضراوات التي تنقصنا , وكان موفقاً في ذلك . وزرع احد هذه المستطيلات ببذور الخيار , وفرض علينا مداراته اكثر من غيره. وحرم علينا الغسيل في داخل المقر لقلة الماء الذي يأتي في " الصوندة " , وضرورة سقي الخيار يومياً. ومع دفئ الجو نبعت بذور الخيار , وبعد اسبوع اخذت تكبر بشكل جنوني , واوراقها اصبحت اكبر من ورق التين . وتبين انها " يقطين " وليس خيار , والبذور كانت تتشابه . لم نكتفي بشماتة اليقطين , في اليوم الثاني زرعنا زوجين من الاحذية السوداء النايلون ( سمسون ) لغاية القيطان , واخبرناه : بأننا سنحتاج في الشتاء الى ( جزمات ) , ونستطيع ان نقطفها حسب الاحجام التي نحتاجها عند نموها . استمع الينا لغاية ما اكملنا , ثم ثار واراد ان يقلع كل ما موجود في المزرعة لولا توسلنا الذي تمكن اخيراً من تهدئته .

عند عودتنا من نقطة الحراسة استمر حديثنا في الغرفة المصنوعة من النايلون لتحمينا من الافاعي والقوارض, كانت تكفي لعشرة اشخاص , يزدادون الى عشرين عند الضرورة . فهمت منه وهي المرّة الاولى وقد مضى على علاقتنا سنتين , لانه لايحب الحديث عن نفسه اولا , وثانيا ضرورة اخفاء المعلومات الشخصية لسلامته وسلامة عائلته : كان معلماً ناجحاً , ومساهماً في اغلب الفعاليات الثقافية والانسانية في مدينته , وترك اربعة اطفال وزوجة وام واب وثلاثة اخوات واخوين , الاول معوق , والثاني اغتيل بحالة تسمم من قبل السلطة , تركهم هو واخوه المهندس والتحقا بحركة الانصار دفاعاً عن شرفهم وشرف حزبهم وشرف مدينتهم ووطنهم المنتهك من قطعان البعث المجرم .

استيقضنا صباح اليوم الثاني على صوت صياح ومشاجرة بين رفيقين , الاول من اهل بعقوبة يدعى صباح , ويشبه في شكله الشخصية الرئيسية في الجريمة والعقاب لدستوفسكي حتى في لون شعره الاصفر , وكان قد امضى فترة طويلة سجين في زنزانات الامن , وخرج وهو يحمل آثار التعذيب , رعشة في جسده وخاصة في رقبته , والآخر كان يعمل معاون آمر سرية . وسبب الشجار : ان الاول استلم الحراسة من الثاني في النقطة القريبة من المقر , وقد شم رائحة كريهة , واتهم الثاني بأنه خاف من الذهاب الى ( المرافق الصحية ) التي لاتبعد اكثر من عشر خطوات أخرى . والثاني انتفض لهذا الاتهام واعاده اليه . وبين الانفعال, والسباب , والحجز بين الطرفين , ومحاولة تهدئتهم . صرخت بهم : بأني سأعرف الحقيقية خلال خمسة دقائق , واعرف من الذي فعلها . سكت الجميع , وتفاجئوا , ووجوههم تضج بالسؤال , كيف ؟! ... انتظرت لحظات , وطلبت من ابو سالار ان نذهب لمعاينة مكان ( الجريمة ) , ومثلما ميز اكل الرز من قبل الفئران , سيعرف من فعلها .... تحول الموقف بلحظات . وبدل الحجز بين الاثنين . شاط ابو سالار , وقذفني بنظرات نارية , واخذ يدمدم بكلمات متلاحقة لا احد فهم شيئاً منها ... لحظات , وتناول بندقيته بسرعة كبيرة , ووجهها الي واطلق طلقة واحدة وسط ذهول الجميع , كان صدى صوتها في المغارة اكبر من صوت قنبلة .. استعدنا وعينا , وانا لااعرف هل جرحت ام لا , الجميع ينظرون الى جانبي , التفت , وجدت افعى كبيرة وقد تمزق رأسها . . ذهبت اليه , قبلته , استعاد الجميع الهدوء بعد هذه اللحظات الصاخبة . . واخبرته : هل تعرف اني كنت خائفاً منذ رفعت بندقيتك ووجهتها الي , وانا افكر ماذا سيكتب عني في الرثاء ؟! فكرت اسرع من سرعة الطلقة, في هذه المحنة , استشهدت في عملية انصار , ام في الداخل على ايدي القتلة من البعثيين , ام ماذا ؟! ... ضحك وكأنه لم يضحك في حياته من قبل .. وانشغل الجميع بالتعليق عن ماذا سيوصف ( استشهادي ) . ولكنه قبل بمعاينة مكان الجريمة , وعرفنا ان صبحة هي التي فعلتها . وصاحبنا ضعفت عنده الحواس , بسبب بقاءه الطويل في الامن , والتبس عليه الامر .

ابو سالار ( يحيى عزيز الحميدي ) اعدم من قبل النظام البعثي الفاشي , بعد ان وشى به احد الخونة المندسين , عندما نزل من كردستان واخذ يعمل في اعادة تنظيمات الحزب في مدن الجنوب , وباستشهاده رفع اسم مدينته عالياً , المدينة التي نعتبرها احدى الثروات الوطنية , التي رفدت الحركة الثورية العراقية بخيرة ابنائها وشبابها , انها السماوة البطلة .



#تقي_الوزان (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تهويمات تحققت بعد عشرين عاماً
- المرجعية الوحيدة القادرة على إنقاذ العراق
- العراق بين غياب المشروع الوطني وصراع الآخرين
- الأستحقاقات المبيتة للفشل
- خطوة جيدة في كل الأحوال
- الدوران في الفشل
- إستمرار الصلاة في محراب المحاصصة نهايتها جهنم
- ألصكوك بلا رصيد
- بين المأزق والمشاريع السياسية
- زوبعة علاوي ومكامن الخطر على وحدة العراق
- الرباعية العراقية وأمل الخروج من المأزق
- تآكل المشروع الوطني وضع العراقيين بين النارين
- وأخيراً سقطت الأقنعة
- التخبط لايفي بالغرض
- موضوع بحاجة الى عنوان
- لا تزال الديوك فوق مزابلها
- من الذي يقرر مصلحة العراق ؟!
- الكفيل الهزيل ومشاريع لمنع الأنفجار
- المالكي وخراب البوصلة
- هاوية الأمل


المزيد.....




- عثمان الخميس يشعل ضجة بما قاله عن حماس ومحمود الحسنات يرد
- ستارمر يقدّم دعماً كاملاً لزيلينسكي خلال استقبال حار بلندن
- شاهد.. روبوتات خدمة توصيل الطعام تعرقل حركة المرور في موسكو ...
- Lenovo تعلن عن أول حاسب محمول مزود بكاميرا مدمجة في الشاشة
- دراسة جدلية.. مسكن ألم شائع قد يؤثر على نمو دماغ الجنين
- هدوء في جرمانا بعد اشتباكات بين الأمن السوري ومسلحين
- رئيس البرازيل: شجار ترامب وزيلينسكي -مشهد بشع-
- وزير الداخلية الكويتي يكشف أسباب سحب الجنسية
- روبيو يسرع تسليم مساعدات عسكرية أميركية لإسرائيل
- -إعلان تسريع- أميركي لتسليم إسرائيل حزمة سلاح ضخمة


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - تقي الوزان - ذكريات لها رائحة الورد