عندما عرضوا تماثيل ماركس ولينين المحطمة، وقت انهيار الاتحاد السوفيتي، كان الإعلام البرجوازي يهلل: سقطت الماركسية واللينينية. أما الاشتراكيون فكانوا يقولون أن الستالينية هي التي سقطت، فماركس ولينين لم يصنعا لأنفسهما تماثيل، الذي صنعها هو ستالين. والستالينية هي التي حولت الماركسية إلى أيقونة مقدسة، والثورة إلى حدثا استثنائيا. منصور بيومي يكتب لنا عن ثورة أكتوبر .. العادية.
في الشهر أكتوبر كانت الذكرى السادسة والثمانون للثورة الروسية الكبرى (الثورة بدأت في شهر نوفمبر عام 1917 حسب التقويم اليولياني ـ التقويم الميلادي المعروف والمستخدم حاليا ـ لكنها سجلت تاريخيا في شهر أكتوبر لأن التقويم القيصري ـ المعمول به في روسيا في ذلك الوقت ـ كان متأخرا ثلاثة عشر يوما عن التقويم اليولياني، واشتهرت بعد ذلك بثورة أكتوبر) وقد جرت العادة في الحديث عن ثورة أكتوبر على أنها واحدة من أبرز العلامات في تاريخ الإنسانية، ومن بعض وجهات النظر تعتبر أهم أحداث القرن العشرين. وهي بحق ـ على الأقل من وجهة نظر الاشتراكيين والمتعاطفين معهم ـ لعبت ولا زالت دورا محوريا في صنع ما مضى من التاريخ الحديث وما سيأتي منه. لذا فدائما ما يتم تمجيد أحداثها ورموزها، وفي بعض الحالات يصل الأمر إلى حد تقديسها. والحقيقة أن ثورة أكتوبر بقدر ما تستحق من تقدير وإعجاب، إلا أن المبالغة في هذا الأمر دائما ما كان لها أثرا سلبيا. فهي ترسخ انطباعا لدى الأجيال الأحدث الذين يتعرفون على الثورة من قراءة تاريخها ـ والذين هم أكثر بعدا بالضرورة عن زخمها ـ بأنها حدثا شاذا في التاريخ، وأن من قاموا بها أشخاص استثنائيون، وبالتالي يصعب تكرارها.
فهل كانت ثورة أكتوبر العظيمة هي ثورة المتميزين والعباقرة والاستثنائيين في التاريخ، أم أنها ثورة البشر العاديين؟ المؤكد أنهم كانوا من البشر العاديين: هؤلاء الذين تتلاعب بهم أهوائهم، ويقدر أعدائهم على خداعهم والتأثير عليهم؛ هؤلاء الذين يتملكهم الغضب أحيانا، والخوف كثيرا، ودائما ما يرتكبون أخطاء فادحة؛ هؤلاء الذين تدفعهم تجربتهم المحدودة إلى النظرة ضيقة الأفق، وتتسع نظرتهم كلما صقلتهم التجربة؛ هؤلاء الذين تفزعهم المخاطر، ويميلون إلى الحذر والحيطة، ويفضلون الحياة الهادئة؛ هؤلاء الذين تلهيهم ضرورات حياتهم اليومية عن الشأن العام، ويمكن الوقيعة بينهم، ودفعهم إلى الصراع ضد بعضهم البعض. هؤلاء البشر العاديين هم من صنعوا ثورة أكتوبر العظيمة.
فمثلا جموع العمال والفلاحين الروس، الذين انتفضوا وثاروا وأسقطوا حكم القيصر في فبراير 1917، هم أنفسهم كانوا من أيدوه ودعموا نشوب الحرب العالمية الأولى منخدعين بدعاية الحرب قبل ذلك بثلاثة سنوات فقط عام 1914. في ذلك الوقت انفضت الجماهير من حول الاشتراكيين ـ ليس فقط في روسيا، لكن في العديد من البلدان الأوروبية ـ وتراجعت بشدة الحركات العمالية. بل أن الاشتراكيين أنفسهم على مستوى العالم انقسموا بين داعمين ومؤيدين للحرب، وبين معارضين لها وداعين إلى الثورة عليها. أدى ذلك إلى انقسامات حادة في صفوف الاشتراكيين، واعتبر البعض وقتها أن ما يحدث هو نهاية الاشتراكية. ولم يتبق من المناضلين الاشتراكيين المناهضين للحرب، والمتمسكين بالمبادئ الثورية، إلا مجموعات صغيرة محدودة ومتناثرة في بعض الدول من ضمنهم البلاشفة. هؤلاء كانوا، في بداية الحرب، على حالة من العزلة والإحباط الشديدين، ويتعرضون لقمع واضطهاد مستمر. كانت الناس تنظر ساعتها لمن يتحدثون عن ثورة قادمة، على أنهم مخبولين أو ممثلين هزليين في كوميديا سوداء!! وبعد ثلاثة سنوات لم تعد الثورة مجرد حديثا، إنما واقع حي يعيشه الثوريون مع الجماهير.
أما الحزب البلشفي، الذي قاد ثورة أكتوبر إلى الانتصار، فكان هو الآخر أمره عجبا!! لم يكن ـ كما يتصور البعض ـ له أي نفوذ جماهيري (مثلا على غرار الأحزاب الإصلاحية في الغرب، والحركات الإسلامية في بلادنا) في غير لحظات المد الثوري. في عام 1903 (وقت الانقسام ما بين البلاشفة والمناشفة، عندما دارت السجالات السياسية الشهيرة بينهم، وكتب لينين كراساته الشهيرة أيضا: بم نبدأ، وما العمل؟، ..إلخ) كان مجمل الاشتراكيين الديموقراطيين الروس (البلاشفة والمناشفة معا) في كل عموم روسيا والمنفى أقل من أربعمائة شخص!! بعد ذلك بعامين مع اندلاع ثورة 1905 تضاعف عددهم في متوالية هندسية، ليصل البلاشفة وحدهم إلى حوالي ثمانية آلاف شخص في عام 1907. ومع تراجع الصراع الطبقي تدهورت عضويتهم بشكل حاد، ليصل حجمهم عام 1914 وقت نشوب الحرب إلى عدة مئات قليلة في حالة عزلة شديدة. ومع تصاعد الصراع الطبقي من جديد مع تدهور الأحوال بسبب الحرب، عادت أعدادهم إلى التضاعف، ليصلوا إلى عدة آلاف عشية ثورة فبراير 1917. وعلى امتداد الشهور من فبراير إلى أكتوبر عام 1917 تضاعفوا، ليصل عددهم إلى ما يقرب من مائة ألف عشية ثورة أكتوبر. وفي الشهور الأولى من الثورة أصبحوا يقدرون بمئات الآلاف. وبالطبع صاحبت هذه الانعطافات الحادة انعطافات حادة أخرى على مستوى الاستراتيجية والتكتيك، والوقوع في أخطاء كارثية، ثم نقد الأخطاء وتصحيحها عبر صراعات مريرة، وإعادة البناء من الصفر أكثر من مرة.
وعندما انطلقت الثورة في فبراير 1917 اتخذ البلاشفة موقف نقدي في البداية من السوفيتات التي تشكلت بطريقة عفوية، والتي كان يسيطر عليها الإصلاحيون والفوضويون وتضم جمهور واسع من البسطاء الغير مسيسين. وظلوا لفترة مترددين في الانضمام إليها إلى أن اكتشفوا خطأهم، بعدها انخرطوا فيها بشكل واسع لتصبح هي مرتكزهم ومحور دعايتهم.
قادة الثورة أنفسهم عمرت سيرتهم السياسية بالعديد من الأخطاء والانحرافات. أكبر وأهم الأمثلة على ذلك هو لينين، الذي بنى الحزب البلشفي وقاده في خضم الثورة ورأس أول حكومة عمالية ثورية. غير لينين بشكل حاد سياسته في بناء الحزب أكثر من مرة، ولم تكن جميعا بسبب التغيرات التي حدثت في الصراع الطبقي، فالكثير منها كان بسبب التغير في تقديراته وآراءه عبر التجربة. وسنجده كثيرا يدافع بحدة عن أساليب في العمل كان منذ سنوات قليلة يرفضها بضراوة شديدة، والعكس صحيح. أم أهم أخطاؤه، التي نقدها بشدة بعد ذلك، فكان تحليله لطبيعة الثورة المقبلة في روسيا. فلقد تبنى ودافع على امتداد سنوات نضاله عن فكرة أن الثورة المقبلة ستكون بقيادة الطبقة العاملة والفلاحين لكنها ستقتصر فقط على تحقيق المطالب الوطنية الديموقراطية (الديموقراطية السياسية والإصلاح الزراعي والتنمية الرأسمالية) وأن الثورة الاشتراكية ستكون مرحلة تالية على ذلك بسبب الطبيعة المتخلفة لروسيا. ولعب دورا رئيسيا في خلق التماسك داخل الحزب البلشفي حول هذه الاستراتيجية، إلى أن اندلعت الثورة في فبراير 1917. فمع تشكل السوفيتات اكتشف لينين خطأه الفادح، وقام بنقد هذا الخط في إبريل 1917 في كراسته الشهيرة "موضوعات نيسان" (كانت في الأصل تقرير مقدم إلى مؤتمر الحزب) التي دافع فيها عن الأفكار التي طرحها تروتسكي قبل ذلك بعدة سنوات، عن الثورة الدايمة وحالية الثورة الاشتراكية. وعندما رفضت اللجنة المركزية السياسة الجديدة، انسحب منها وعمل على تعبئة قواعد الحزب على مدى شهور، حتى نجح في تغيير خطه السياسي وحرسه القديم.
أما تروتسكي مؤسس الجيش الأحمر وقائده، وأحد أهم المنظرين الاشتراكيين الروس، والرئيس المنتخب لسوفيت سان بطرسبرج (العاصمة وقتها) فحدث عن أخطاؤه ولا حرج. فهو تورط ولعب أدوارا سلبية في الانقسامات التي حدثت وسط الاشتراكيين الديموقراطيين الروس منذ مطلع القرن. وخاض صراعا نظريا حادا ضد لينين والبلاشفة على مدى سنوات، وظل معاديا لأفكار لينين حول التنظيم ومشروع الحزب البلشفي نفسه. ولم يتراجع إلا بعد أن قامت الثورة في فبراير 1917 واكتشف ضرورة وأهمية الحزب اللينيني في انتصار الثورة، بعدها انضم للبلاشفة وأصبح أحد أهم قادتهم.
كامنييف وزينوفييف، وهما من أهم قادة البلاشفة بعد لينين وتروتسكي، أصابهما الذعر بعد أن أقرت اللجنة المركزية الانتفاضة المسلحة ضد حكومة كيرنيسكي في أكتوبر 1917 ودعوة السوفيتات للاستيلاء على السلطة. وسارعا بنشر الخبر في الصحافة، في محاولة للتعبئة من أجل التراجع عن القرار. هذا الأمر الذي اعتبر كشف لأسرار حزبية وتعريض الثورة للخطر. وهكذا، على هذا الحال، من التردد والوقوع في الأخطاء، سنجد جميع القادة البلاشفة. كما أن الحزب البلشفي في العموم لم يكن معقما ولا معصوما، فلقد أظهرت وثائق الأجهزة الأمنية القيصرية التي تم الكشف عنها بعد الثورة، أن الحزب كان يعج بعملاء الأمن، وأنه كان مخترقا في أعلى مستوياته بما فيها لجنته المركزية.
حسنا، هكذا هم الثوريون: هؤلاء البشر الذين يفعلون الصواب بعد الوقوع في أخطاء فادحة؛ الذين يحسمون أمورهم بعد الكثير من التردد؛ الذين يندفعون بجرأة بعد الانهيار فزعا؛ الذين يضحون بأنفسهم بعد التعنت لذواتهم ومصالحهم؛ الذين يملؤهم التفاؤل بعد طول إحباط. وكثيرا ما تنفض الجماهير من حول راية الاشتراكية كما حدث عام 1914، ثم تعود لترفعها وتلتف حولها كما حدث عام 1917.
"إن الأحداث الكبرى في التاريخ قام بها أناس يتصفون بكل صفات البشر" هكذا يلخص تروتسكي القضية في كتابه "تاريخ الثورة الروسية". وهذا ما تعلمه لنا ثورة أكتوبر: الثورة ممكنة، ولا تحتاج إلى العظماء أو القديسين، هي فقط تحتاج إلى البشر العاديين الموجودين في الواقع الحي. هي تحتاج إلى بشر كهؤلاء الذين شاهدناهم في ميدان التحرير يومي 20 و21 مارس الماضيين، أو الذين يمكن أن نجدهم أمام طوابير الخبز أو أبواب المصانع. ثورة أكتوبر كانت ثورة عظيمة بالفعل، وأعظم ما فيها أنها لم تكن حدثا استثنائيا، بل هي قابلة للتكرار وبصورة أفضل لأن الثوريين تعلموا منها الكثير. وعندما ينؤ كاهلنا اليوم بما نعانيه من قمع واضطهاد واستغلال، علينا أن نقول لأنفسنا ببساطة أن ثورة أكتوبر انتصرت رغم ما هو أسوأ من ذلك، وأن ثورات أخرى ستنتصر وسيكون حظها أفضل.