كانت صيغة مجلس الحكم طوال الشهور الماضية هي الصيغة الأنجع لمعالجة اختلال التوازن مع وجود قوات أجنبية في البلاد لها مصالحها الخاصة ومن ثمَّ سياساتها ومستهدفاتها وأولوياتها؛ ومع كون الواقع العراقي في حالة من الارتباك في ظرف انهيار أرضية مؤسسات الدولة من جهة وتجاه اضطراب الميادين الاقتصادية والسياسية في عاصفة من المتغيِّرات الهائلة..
فكان على القوى السياسية الوطنية الخروج من كارثية مخلّفات هزيمة دولة الدكتاتور بصيغة مناسبة تعالج فيها حاجات المجتمع العراقي الآنية الخطيرة في ظرف أسوأ من أيِّ ظرفِ ِ من ظروف الطوارئ الإنسانية المعروفة.. ولقد نجحت تلك القيادات في معالجة أولويات الوضع فأنشأت المؤسسات التي استجابت للحاجات الإنسانية الحياتية المباشرة التي لم يكن ممكناَ َ تأجيلها لأيِّ سبب كان أو إخراجحها من أولوية العمل والتحرك الآني...
كما يمكن تسجيل نجاحات كثيرة أخرى عبر مسار المجلس وخطوات إيجابية في العلاقة (والتعاطي) مع سلطة قوات التحالف (قوات الاحتلال) ونجحت في اختراق العزلة الدولية والإقليمية ليس بمقاومة تيار دبلوماسي عربي وإقليمي ودولي ظلَّ يعزف على وتر شرعية الحكم ومؤسساته حسبْ بل في وقف ذاك التيار نهائيا وإقامة حوار العلاقات الدبلوماسية التي تستجيب لأولويات الواقع العراقي الجديد...
فكانت الزيارات المتبادلة مع أجهزة الجامعة العربية ومع الدول الرئيسة المؤثّرة في المنطقة فضلا عن احتلال الموقع الطبيعي لممثلية العراق في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية وما يلحق بها من مؤسسات ما ساعد على إنجاح المرحلة التأسيسية, مرحلة إنقاذ شعبنا من كارثة بشعة أعدَّ لها النظام المقبور في حال هزيمته التي وقعت بالفعل..
وفي مجال آلية العمل الدبلوماسي كان عمل المجلس مميَّزاَ َ وموفّقاَ َ في إدارة أولويات المستهدفات السياسية من جهة وفي إنجاح آليات تعامله الدبلوماسي بخطوطه العريضة.. وكانت تصريحات المسؤولين ومنهم بالتحديد وزير الخارجية العراقية مرسومة رسماَ َ مهنياَ َ موفقاَ َ ومميّزاَ َ فيما يخص السيد زيباري وتمثيل المصالح الوطنية العليا للبلاد..
وأبرز نجاح كان في وقف الادعاء بسطوة جهة حزبية أو قومية أو تيار بعينه على مؤسسات الدولة العراقية الذي أكّدته الخارجية العراقية عبر التعاطي مع العلاقات الدبلوماسية انطلاقا من التمثيل الوطني العام من جهة واستناداَ َ إلى الروح المهني الحِرَفي للعمل البلوماسي. فأخرست القوى التي حاولت طعن التجربة العراقية وشقّ الصفوف من داخلها.. ونحن هنا نعوّلُ على تعزيز هذا المسار الوطني المسؤول وإبراز وجه الدبلوماسية العراقية الإيجابي الجديد المميَّز بحنكته وتأثيره في خدمة قضايا الوطن وتبادل المصالح المشتركة مع الآخر..
ومن هذا المنطلق فقط لا غير نحاول هنا تسجيل بعض الملاحظات التي طفت على سطح تلك المسيرة القصيرة في عمرها (وهذا المدى القصير زمنيا) يبرّر حصول أخطاء رصدناها ونجد تأثيراتها السلبية واضحة للعيان ولكنّها لا تخيفنا في وقت يمكننا تلافيها إذا ما جرى تصحيح المسار وتقويمه في الوقت المناسب..
لقد جاءت تركيبة مجلس الحكم ممثلة لطبيعة التركيب السياسي الوطني العراقي. وتمَّت آلية العمل توافقياَ َ على أساس البيان الذي أصدره بوصفه برنامج عمل السلطة العراقية الجديدة. ولكنَّ المتابع يمكنه قراءة عدد من التصريحات التي عبَّرت عن تعدد الاجتهادات وتنوع تصورات القوى المكوّنة للمجلس في معالجة ما يعترضه من مشكلات وقضايا بل الاختلاف والتقاطع أحيانا..
وهذه الظاهرة جدّ طبيعية في الحياة السياسية بل نسعى لتأصيل التعددية وممارستها في الحياة العراقية العامة الجديدة. لكنَّ الأمر عندما يتعلّق بالصلات الدبلوماسية والتأثير فيها وعليها يحتاج لوقفة دراسة متأنية.. فليس من الطبيعي ولا نجد منطقا صائبا اليوم أنْ يستغل أحد الأطراف تصدّره المسؤولية الجماعية أو وجوده في أعلى هيكل السلطة ليجعل من ميوله السياسية وبرامجه الحزبية الخاصة معبِّرا عن سياسة البلاد كاملة أو عن تمثيل رؤى الشعب كافة واختزالها في تصورات تياره أو حزبه أو وجهة نظره الخاصة...
فإذا كنّا وقفنا داعمين لصيغة المجلس كونها صيغة مرحلة طوارئ إنقاذية, فإنَّ ذلك لا يعني التسليم المطلق لكلّ ما يصدر عن أعضاء المجلس منفردين حتى إذا كان ذاك العضو من تيار سياسي نتواضع معه على برنامجه وفلسفته, لأنَّنا هنا بصدد معالجة قضايا وطنية شاملة تخص موقفا كليا يمثل الشعب بكامله والوطن بكليته الموَّحدة..
وعليه فلا يجوز لي أو لأي طرف سياسي عندما أصرِّح فيما يخص علاقات العراق الدبلوماسية أنْ أنطلق من محدودية برنامجي السياسي الخاص وتصوراتي ومعالجتي المخصوصة لحالة بعينها بل يجب ويتحتم على جميع الأطراف هنا أنْ تنطلق من القواسم المشتركة الممثلة للاجماع الوطني أو لما يُصطَلَح عليه المصلحة الوطنية العليا..
وللأمثلة التفصيلية أُذكِّرُ هنا بعمل متصل دائب للمسؤولين العراقيين من أجل أعفاء العراق من ديونه ومن تعويضات الحروب التي ورّط الطاغية بلادنا ودول المنطقة والعالم بها. فهل كان صائبا لرئيس المجلس الموقر السيد عبدالعزيز الحكيم أنْ يدلي بتصريحاته بشأن تعويضات الحرب بين قوات الدكتاتور والجارة إيران التي يتبرّع بها من دون ضغوط من أحد أو من دون سياق سابق الحديث بالخصوص معلنا وجوب التزام بلادنا بدفع تلك الأموال الطائلة التي لم يكن لشعبنا فيها لا ناقة ولا جمل[ إذ لم يكن القرار السياسي باعتراف داخلي ودولي بيد الشعب بل بيد الطاغية وعدوانيته وما ارتكب من جرائم حرب بحق البشرية جمعاء, وسؤالنا في السياق: وشعبنا مَنْ سيعوّضه؟!!!] ... وفي السياق أيضا الإشارة إلى مشاركة قوى معلومة من الجارة إيران في التسبب في تلك الحرب وما نجم عنها من خسائر..
والحقيقة فإنَّ تلك التصريحات تشير إلى برامج تيار أو حركة أو حزب وفلسفته أو شخصية بعينها وتصوراتها الخاصة؛ ولكنَّ تلك الشخصية يجب أنْ تُساءل عن تصريحاتها وتضع تصحيحا لها كونها تمسّ المصالح الوطنية العليا ولا ينبغي السكوت أو تمرير تلك الأقوال لأنَّها تمثل وثيقة غير مكتوبة [من شخصية سيادية لمرحلة جديدة] تحمِّل العراق مسؤوليات وتضع على كاهله ما يرتّب واجبات غير موضوعية التوجه.. كما أنّه إذا اعتقد أحد المسؤولين بأنّ تحسين العلاقات سيأتي من تلك [الاعترافات] غير الصحيحة فإنَّه يخسر مقابلها وضعه الداخلي ويضعنا في مشكلات أكبر من دبلوماسية حاضرا ومستقبلا...
إنَّ هذا المثال السياسي وإخضاع الدبلوماسي للمواقف الشخصية أو الحزبية حصل أحيانا مع تصريحات أخرى من مثل بيع مؤسسات الدولة بالكامل على أساس من الفلسفة الشخصية لصاحب التصريح ولكنَّ الأمر جرى تصحيحه وتدقيق الموقف بإحالته إلى صلاحية الحكومة الانتقالية المنتخبة القادمة. ومثله تصريحات في العلاقات العربية والإقليمية وهكذا ...
لكنَّ المبدأ الجوهري الرئيس لمعالجة الأمر ووقف تداعيات تصريحات بعض المسؤولين واستثمارهم مواقعهم السيادية اليوم يكمن في وضع المصلحة الوطنية العليا في مقدمة ما يُلزِم الجميع في تصريحاتهم ومواقفهم من جهة ومنع تقديم المواقف الحزبية أو الشخصية في معالجة القضايا الكبرى بل تأجيل إعلان موقف محدَّد تجاه القضايا المُختَلَف عليها حتى تقوم الحكومة الوطنية المنتخبة وبرلمانها الذي يمتلك حق التشريع وتحديد السياسات التي يتوافق عليها الاجماع الوطني...
وسيكون من الجرائم الخطيرة التي ترتكبها الشخصيات السياديةِ المسؤولية أنْ تطلق التصريحات على وفق معالجتها الخاصة لا على وفق الاجماع أو على وفق المصالح الوطنية العليا في المنظور البعيد قبل القريب .. بمعنى عدم التصرّف فيما لا صلاحية لتلك الشخصيات الافتاء به في اللحظة الراهنة ومن ذلك تلك القضايا التي تحتاج للتداول والمعالجة بعد حوار وطني موسّع وبعد وضع البرامج الانتخابية التي يقرّها التصويت الشعبي وليس غير..
إنَّ مثال التعويضات يجب ألا يمرّ بغير مراجعة من المجلس وتصويبه في الموقف المعلن وعلى المجلس اليوم الذي يدخل مرحلة جديدة أنْ يحيل المسائل العقدية الكبرى إلى مرحلة استتباب الوضع واستقراره واللجوء إلى الاستفتاء في مثل هكذا أمور وعلى القوى السياسية الوطنية المخلصة للديموقراطية ولمؤسساتها وفكرها أنْ تعلن التخلي عن المواقف الفوقية والوصاية في التمثيل والتعبير عن آراء الجماعات والقوى وأنْ تعلن الالتزام بعهد وميثاق جديدين يعودان بهما إلى التصويت والحوار والاستماع إلى منطق العقل حيث استشارة المتخصصين والتكنوقراط والأكاديميين المعنيين والاستناد إلى الدراسات الموضوعية في مختلف الشؤون وعدم الخضوع للأهواء والميول السياسية أو المذهبية الدينية وما إليها...
إنَّ أكثر ما أضرَّ بشعبنا هو تلك الآليات التقليدية التي يطلق فيها المسؤول لنفسه العنان كي يصرّح بالطريقة التي يشاء بها وما يشاء الشعب ومؤسساته إلا أنْ يشاء ذاك المسؤول وتصوراته كونه المرجع السياسي أو الديني الأعلى.. ولكنَّ الناس لم تعد تقدّس هذا الحكيم المستبد (العادل) ولكنّها تبحث عن الممثل المعبر عن إجماعها والمنفّذ بإبداع لرؤاها وتصوراتها وقواسمها المشتركة..
وعليه كان لزاما اليوم لكلّ تصريح سياسي مؤثر على حياة شعبنا في حاضره أو مستقبله أو كليهما أنْ يأخذ بعين الاحترام مصالح الشعب والوطن ومسارات القواسم المشتركة وأنْ يراجع بل يتراجع عن أيّ موقف شخصي أو معالجة خاصة لا تنسجم مع هذه الحقيقة التي لا مناص من إلزام الجميع بها ..
إنَّنا في عهد يجب ألا نسمح فيه بالتجاوز على مصالح البلاد الوطنية العليا حتى لو كان من طرف منتخب بأغلبية ولكنّه انحرف أو أخطأ في قراءة رؤى المجموع بجوهرها وشكلها الصائب. فإذا استعجل المعني في معالجة مسألة كقضية التعويضات فإنَّنا يمكن أنْ نقول إنَّ إلغاءها سيكون من مصلحة طرفي القضية العراقي والآخر .. لماذا؟ لأنَّ دوران عجلة الاقتصاد العراقي بشكل طبيعي صحيح سيوفر ليس لاقتصاد العراق بل للدول المجاورة وللمنطقة وللعالم إمكانات سوق وحركة تنمية دافعة حتى لاقتصاد كل دولة تتعامل وتتعاطى معنا بخلاف مسألة التعويضات التي لن توقف اقتصادنا حسب بل ستخلق مشكلات معقدة إقليميا ودوليا..
ومع ذلك فإنَّنا أيها السيد الكريم لا نستبق القرار ولا نصرّح بما ليس لنا صلاحية به .. وحين نترك بعض القضايا الكبرى للحظتها المناسبة فإنَّما لنمنع تعقيداتها وإدخال بلادنا فيما ليس صحيحا من المشاكل مولِّدين لبلادنا مسبّقا تعقيدات في علاقاتها من جهة وفي عملية إعادة إعمارها المقبلة بل قد نخلق شرخا في صميم الوحدة الوطنية عندما نلاحظ أنّ تصريح التعويضات خصّ دولة دون أخرى مع ما يمكن تأويله عند عامّة الناس مثل هذا الأمر تأويلا سلبيا خطيرا [طائفيا ضيقا: ألا ينبغي التفكير بردود الفعل الشعبية؟] ..
وبعامة ينتهي مقالنا بالقول إنَّ مسؤولية ممثلي الأحزاب والحركات تكمن بالعودة إلى عمل برامجي من جهة وإلى خبرات المتخصصين الموجودين معهم في حركاتهم السياسية وإلى خبراء ولجان تخصصية ملحقة بعمل مجلس الحكم والإدارات الحكومية بمعنى التحول إلى العمل المؤسساتي الحقيقي والابتعاد عن العمل الفردي وآلياته التي تمَّ القضاء عليها في نموذجها المثالي الطاغية المهزوم وهو أمر ضروري للتحول الديموقراطي المنشود وانتهاء عهد الانقسامات عهد المؤسسات السابقة لوجود المجتمع المدني ومؤسساته.. ولاقناع الجمهور برؤى الجهات والشخصيات المعنية بكونها الأصدق في تمثيل المصلحة الوطنية العليا...
www.rezgar.com
www.geocities.com/modern_somerian_slates