معركة نهاية المستعصم
يقول إبن العبري أن الدويدار سمع أن التتار قد توجهوا نحو الأنبار. فسار إليهم و لقي عسكر سونجاق نوين و كسرهم و هزمهم و في هزيمتهم التقاهم بايجو نوين فردهم و هجموا جميعاً على عسكر الدويدار فاقتتلوا قتالاً شديداً و انجلت الحرب عن كسرة الدويدار فقتل أكثر عسكره و نجا هو في نفر قليل من أصحابه و دخل بغداد.
أما في ( الفخري في الآداب السلطانية ) فيذكر الطقطقي انه لما وصل العسكر السلطاني إلى دجيل، وهو يزيد على ثلاثين ألف فارس، خرج إليه عسكر الخليفة صحبة مقدم الجيوش مجاهد الدين أيبك الدويدار، وكان عسكراً في غاية القلة، فالتقوا بالجانب الغربي من بغداد قريباً من البلد، فكانت الغلبة في أول الأمر لعسكر الخليفة، ثم كانت الكرة للعسكر السلطاني فأبادوهم قتلاً وأسراً وأعانهم على ذلك نهر فتحوه في طول الليل، فكثرت الوحول في طريق المنهزمين فلم ينج منهم إلا من رمى نفسه في الماء أو من دخل البرية ومضى على وجهه إلى الشام. ونجا الدويدار في جمعية من عسكره ووصل إلى بغداد.
و ذكر إبن العبري أنه في منتصف شهر المحرم من سنة ست و خمسين وستمائة نزل هولاكو بنفسه على باب بغداد و في يوم و ليلة بنى المغول بالجانب الشرقي سيباً، أي سوراً عالياً، و بنى بوقاتيمور و سونجاق نوين و بايجو نوين بالجانب الغربي كذلك و حفروا خندقاً عميقاً داخل السيبا و نصبوا المنجنيقات بإزاء سور
بغداد من جميع الجوانب و رتبوا العرادات و آلات النفط. و كان بدء القتال ثاني و عشرين محرم.
و يذكر الطقطقي: وساق باجو حتى دخل البلد من جانبه الغربي، ووقف بعساكره محاذي التاج، وجاست عساكره خلال الديار، وأقام محاذي التاج أياماً. وأما حال العسكر السلطاني فإنه في يوم الخميس رابع محرم من سنة ست وخمسين وستمائة ثارت غبرة عظيمة شرقي بغداد على درب بعقوبا بحيث عمت البلد، فانزعج الناس من ذلك وصعدوا إلى أعالي السطوح والمنائر يتشوفون، فانكشفت الغبرة عن عساكر السلطان وخيوله ولفيفه وكراعه وقد طبق وجه الأرض وأحاط ببغداد من جميع جهاتها. ثم شرعوا في استعمال أسباب الحصار، وشرع العسكر الخليفي في المدافعة والمقاومة إلى اليوم التاسع عشر من محرم. فلم يشعر الناس إلا ورايات المغول ظاهرة على سور بغداد من برج يسمى برج العجمي من ناحية باب من أبواب بغداد يقال له باب كلواذى. وكان هذا البرج أقصر أبراج السور، وتقحم العسكر السلطاني هجوماً ودخولاً، جرى من القتل الذريع والنهب العظيم والتمثيل البليغ ما يعظم سماعه جملة، فما الظن بتفاصيله.
بعد خراب البصرة
يقول إبن العبري أنه لما عاين الخليفة المستعصم العجز في نفسه و الخذلان من أصحابه أرسل صاحب ديوانه و ابن درنوش إلى خدمة هولاكو و معهم تحف نزرة. قالوا: إن سيَّرنا الكثير يقول: قد هلعوا و جزعوا كثيراً. فقال هولاكو: لم ما جاء الدويدار و سليمان شاه. فسير الخليفة الوزير العلقمي و قال: أنت طلبت أحد الثلاثة و ها أنا قد سيرت إليك الوزير و هو أكبرهم. فأجاب هولاكو: إنني لما كنت مقيماً بنواحي همذان طلبت أحد الثلاثة و الآن لم أقنع بواحد.
و جدَّ المغول بالقتال بإزاء برج العجمي وبوقاتيمور من الجانب الغربي حيث المبقلة، و سونجاق نوين و بايجو نوين من جانب البيمارستان العضدي.
و أمر هولاكو البتيكتجية ليكتبوا على السهام بالعربية: ان الاركاونية و العلويين و الداذنشمدية و بالجملة كل من لم يقاتل فهو آمن على نفسه و حريمه و أمواله. و كانوا يرمونها إلى المدينة.
و اشتد القتال على بغداد من جميع الجوانب إلى اليوم السادس و العشرين من محرم. ثم ملك المغول الأسوار و كان الابتداء من برج العجمي.
و احتفظ المغول الشط ليلاً و نهاراً مستيقظين لئلا ينحدر فيه أحد.
و أمر هولاكو أن يخرج إليه الدويدار و سليمان شاه و أما الخليفة إن اختار الخروج فليخرج و إلا فليلزم مكانه. فخرج الدويدار و سليمان شاه و معهما جماعة من الأكابر. ثم عاد الدويدار من الطريق بحجة أنه يرجع و يمنع المقاتلين الكامنين بالدروب و الأزقة لئلا يقتلوا أحداً من المغول فرجع و خرج من الغد و قتل.
إن إبن العبري لم يذكر هل استطاع الدويدار منع المقاتلين أم لا؟ و هل رجع برجليه أم أرجعوه ؟ وكيف قتل؟ الا أن إبن تغري يذكر في (المنهل) أن الدويدار مات مقتولا صبرا.
و إبن خلدون يذكر في تاريخه أنه عندما نزل هولاكو بغداد و خرج اليه الوزير بن العلقمي فاستأمن لنفسه و رجع بالأمان الى المستعصم و أنه -أي هولاكو- يبقيه على خلافته كما فعل بملك بلد الروم.
و لم يذكر إبن خلدون عن إبن العلقمي هل أنه أخذ الأمان بمراسلاته مع هولاكو سابقا و جاء الأمان الأخير مؤكدا و تجديدا لذلك، أم أن هذا الأمان هو الأول الذي يأخذه إبن العلقمي.
أما الدميري فيذكر في (حياة الحيوان الكبرى) أن الوزير إبن العلقمي أشار على الخليفة أن يخرج الى هولاكو في تقرير الصلح، فخرج الكلب -هكذا يقول الدميري عن إبن العلقمي- و توثق لنفسه، ثم رجع فقال: إن هولاكو رغب في أن يزوج إبنته بإبنك، و أن تكون الطاعة له كالملوك السلجوقية، و يرحل عنك. فخرج الخليفة في أكابر الوقت و أعيان دولته ليحضروا العقد، فضربوا رقاب الجميع، و قتل الخليفة.
و هنا يخالف الدميري ماذكره إبن العبري بأن المستعصم هو الذي سيَّـر إبن العلقمي، ولم يسير الدويدار و لا سلمان شاه..
قبل إستسلام المستعصم (إنت فين و الحب فين)
يذكر إبن كثير في البداية و النهاية أن التتار أحاطت بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كل جانب حتى أصيبت جارية تلعب بين يدي الخليفة و تضحكه، و كانت من جملة حظاياه. وكانت مولدة تسمى عرفة، جاءها سهم من بعض الشبابيك فقتلها، و هي ترقص بين يدي الخليفة، فانزعج الخليفة من ذلك، و فزع فزعا شديدا، و أحضر السهم الذي أصابها بين يديه، فإذا عليه مكتوب: إذا أراد الله إنفاذ قضائه و قدره، أذهب من ذوي العقول عقولهم، فأمر الخليفة عند ذلك بزيادة الإحتراز و كثرت الستائر على دار الخلافة.
و هنا اختلف المستعصم، آخر خلفاء العباسيين في بغداد, عن مروان الحمار، آخر خلفاء بني أمية في دمشق، إذ أن الخليفة الأموي قد أقسم على نفسه الا يختلط بإمرأة ما دامت خلافته مهددة بالإنتهاء، إذ يقول المسعودي في (مروج الذهب) أن مروان أقام أكثر أيامه لا يدنو من النساء إلى أن قتل، وبرزت له جارية من جواريه، فقال لها واللّه لادنوت منك، ولا حَللَتُ لك عقدة، وخراسَانُ ترجُفُ وتتضرم.
و يقول المسعودي أن مروان كان مع ما هو فيه يُدِيم قراءة سير الملوك، وأخبارها في حروبها، من الفرس وغيرها من ملوك الأمم.
وَعَذَله بعضُ أوليائه ممن كان يأنس إليه في ترك النساء والطيب وغير ذلك من اللذات، فقال له مروان: يمنعني منهن ما منع أمير المؤمنين عبد الملِك، فقال له الرجل: وما ذاك يا أمير المؤمنين ؟ قال: حَمَل صاحب إفريقية إليه جارية ذات بهاء وكمال، تامة المحاسن، شهية للمتأمِّل، فلما وقَفَتْ بين يديه تأمل حسنها وبيده كتاب ورد من الحجاج وهو بدير الجماجم مُوَاقعاً لابن الأشْعَثِ، فرمى بالكتاب عن يده، وقال لها: أنت واللهّ منية النفس، فقالت الجارية: ما يمنعك يا أمير المؤمنين إذ كنتُ بهذا الوصف ؟ قال: يمنعني واللّه منك بَيْتٌ قاله الأخطل:
قوم إذا حَارَبُوا شدوا مَآزِرَهُم دونَ النساءِ ولو بَاتَتْ بأطْهَار
أ ألتذ بالعيش وابن الأشعث مُصَافٌّ لأبي محمد وقد هلكَتْ فيه زعماء العرب؟ ثم أمر بصيانتها، فلما قتل ابن الأشعث كانت أول جارية خلا بها.
بعد الإحتلال و التسليم
و ذكر إبن العبري أن عامة أهل بغداد أرسلوا شرف الدين المراغي و شهاب الدين الزنكاني ليأخذ لهم الأمان. و لما رأى الخليفة أن لا بد من الخروج أراد استأذان هولاكو بأن يحضر بين يديه فأذن له و خرج رابع صفر و معه أولاده و أهله. فتقدم هولاكو أن ينزلوه بباب كلواذ و شرع العساكر في نهب بغداد و دخل بنفسه إلى بغداد ليشاهد دار الخليفة و تقدم بإحضار الخليفة فأحضروه و مثل بين يديه و قدم جواهر نفيسة و لآلئ و دررا معبأة في أطباق ففرق هولاكو جميعها على الأمراء و عند المساء خرج إلى منزله و أمر الخليفة أن يفرز جميع النساء التي باشرهن هو و بنوه و يعزلهن عن غيرهن ففعل فكن سبعمائة امرأة فأخرجهن و معهن ثلاثمائة خادم خصي.
يقول الطقطقي: وأمر السلطان بخروج الخليفة ووِلده ونسائه إليه، فخرجوا. فحضر الخليفة بين يدي الدركاه، فيقال: إنه عوتب ووبخ بما معناه نسبة العجز والتفريط والغفول إليه، ثم أوصل إلى إلياسا هو وولداه الأكبر والأوسط، وأما بناته فأسرن.
و يذكر إبن العبري أن النهب بقي يعمل إلى سبعة أيام ثم رفعوا السيف و بطلوا السبي. و في رابع عشر صفر رحل هولاكو من بغداد و في أول مرحلة قتل الخليفة المستعصم و ابنه الأوسط مع ستة نفر من الخصيان بالليل و قتل ابنه الكبير و معه جماعة من الخواص على باب كلواذ .
و يذكر إبن تغري في (المنهل الصافي و المستوفي بعد الوافي) أن هولاكو كان قصد دخول بغداد، و تخلية الخليفة الى حال سبيله، فما تركه العلقمي يفعل ذلك، و قال له: المصلحة قتل الخليفة و إلا ما يصفو لك ملك العراق.
و لم يذكر إبن تغري مصدر خبره هذا عن نوايا هولاكو و ما قاله إبن العلقمي، الاّ أنه ذكر أن أيبك إبن عبد الله الدويدار، كان يقول: لو مكنني الخليفة لقهرت هولاكو.
هذا و قد كتب الأستاذ عبد الإله الصائغ في أوراقه و تحت عنوان - ارفع رأسك ياسيدي العلقمي- أن المغول كانوا يشعلون الحرائق في المراقد والمساجد وقد احرقوا جانبا من مشهد الإمام موسى الكاظم وقتلوا عددا من العلويين كان بينهم السيد شرف الدين بن الصدر العلوي وقتلوا كذلك نقيب العلويين السيد علي بن النقيب الحسن بن المختار ومعه عمر بن عبد الله بن المختار العلوي وقتلوا كذلك نقيب مشهد الإمام الكاظم موسى بن جعفر ......الخ
يتبع