هناك ثلاثة تناقضات في عبارة استراتيجية ضعف عربية: (1) تناقض منطقي بين حدي عبارة استراتيجية وضعف، وسنشير إليه فيما بعد؛ (2) تناقض واقعي بين حدي استراتيجية وعربية، أي افتراض أن العرب فاعل استراتيجي واحد، وهو ما كان دائماً غير صحيح، وما بات اليوم كلاماً غير ذي موضوع؛ (3) تناقض تحليلي مصدره الافتراض الضمنى بأن استحالة وضع استراتيجية قوة لهذه الدولة العربية أو تلك يعني أن استراتيجية الضعف ممكنة، أي أن الفرصة متاحة لوضع طقم من الخطوات المنسقة التي يفترض أن تفضي إلى نتائج لا تمتنع على حد تقريبي من التحديد والتوقع، وأن عسرنا الاستراتيجي مصدره مراهنتنا على نتائج كبيرة و"قوية"، وأنه يكفي لحل هذه المشكلة خفض سقف التوقعات ووضع أهداف أكثر "اعتدالاً".
لكن تقبل تناقضات فكرة استراتيجية ضعف قد يكون أمراً مرغوباً في مراحل متناقضة "تقلق" فيها كل الأفكار المستقرة كحال أفكارنا بعد سقوط بغداد.
وما يشجع على الإقامة في التناقضات أن سقوط بغداد طرح تناقضاً لا يقبل التقليص: حين يكون العدو على الأبواب فإن الجيوش تتبخر أو تنهار، ولا تتماسك الجيوش إلا حين لا نكون في حالة حرب. وليس هناك غير واحد من حلين لهذا التناقض: فإما حل الجيوش وطي صفحتها، أو الانقلاب على أنفسنا والالتحاق بـ "العدو". فلن تكون أي جيوش نشكلها بعد اليوم أكثر من قوات مرتزقة في جند الامبراطورية أو مفارز مسلحة لحراسة لثغورها أو طلائع للحروب الوحيدة الممكنة: حروبها ضد "البرابرة"، أي "الحرب ضد الإرهاب". وهذا يقود إلى تناقض أكبر أيضاً: الحرب غير ممكنة ضد العدو، وحيث تكون الحرب ممكنة فإنها ليست ضد العدو بل تحت رايته. وهكذا فإن الجيوش تحولت من أدوات للتحرير إلى إدوات للالتحاق الدوني بالمعسكر الغالب، لكنها والحق يقال مرت بمرحلة وسيطة: الدفاع عن أنظمة تتحدث عن التحرير وتلتحق بالغالبين.
ولا يفيد حل الجيوش الراهنة إلا إذا جاء في سياق رؤية أشمل تتسع لنزع عسكرة الدولة (التخلص من دولة الأمن وتفكيك آلة عبادة الفرد) والثقافة (التخلص من العقائدية ومن "ثقافة الطوارئ"، أي من فكرة الحصار والحرب دائمة) والمجتمع (تفكيك الحزب الواحد وملحقاته الشعبوية). وهو ما يعني عمليا طي صفحة "الوطنية العسكرية".
والترجمة الأبسط والأكثر مباشرة لعملية نزع العسكرة هي أن تكف الدول العربية عن استيراد الأسلحة تماماً. وهذا لأن (أ) محاولاتها في هذا المجال ستتعرض للعرقلة من قبل الولايات المتحدة ما لم تكن هذه هي مورد السلاح، وعندئذ فلن يكون سلاحاً للقوة ولا لمواجهة العدو؛ (ب) ولأن صفقات الأسلحة وعمولاتها الضخمة (والميزانيات العسكرية السخية) هي المصدر الأول لفساد الجيوش والحكومات لدينا؛ (ج) ولأن تلك الميزانيات والصفقات دافع قوي لعسكرة المجتمع والسياسة عبر الحاجة الدائمة إلى تبريرها بمخاطر خارجية داهمة تحتاج إلى مخصصات أكبر وأسلحة أحدث تدر عمولات أكبر (والتجربة العربية الحديثة تشير إلى أن عسكرة المجتمع تترافق عادة مع تسييس الجيش وخصخصة الدولة، وتالياً تخريبها جميعا بإخراجها عن منطقها ووظائفها النوعية)؛ والأهم (د) لأن القوة لا تستورد ولا تشترى، وإذا لم تعكس جماع قدرة المجتمع أو الأمة فإنها تنقلب إلى ضعف وعبء وتبديد أحمق للموارد كحال نظام صدام حسين وجيوشه المتعددة. هذه الحقيقة كانت صحيحة دائماً، ولم تغط عليها "تحويلات القوة" أيام الحرب الباردة إلا لتعاود الانكشاف بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، ثم بصورة دراماتيكية بعد سقوط بغداد.
وبدورها تتجاوز عملية نزع العسكرة تحجيم الجيوش والتوقف عن استيراد السلاح لتندرج في "استراتيجية" أوسع هي التي نسميها استراتيجية الضعف. وهي استراتيجية لا تستهدف مطابقة صورتنا أمام أنفسنا وأمام العالم مع الأصل الذي هو الضعف ورقة الحال بقدر ما تريد أن تؤسس على ذلك انطلاقا جديدا وأفقا جديدا للحياة السياسية والمعنوية في العالم العربي. ولما كان هذا التأسيس مستحيلا في ظل الأنظمة العربية الحالية فإن استراتيجية الضعف لا تستقيم إلا بقدر ما تنضوي هي الأخرى في إطار عملية التجاوز التاريخي للنظام العربي الراهن. ولا جدوى من التذرع بالواقعية للتشكيك في هذا التجاوز. إذ لم يعد هناك حلول واقعية أو تكيفية للمشكلات التي يثيرها الواقع الراهن، بل إن الإصلاح الجذري لهذا الواقع بات ضرورة ملحة من أجل التكيف ذاته. إن الشيء الواقعي الوحدي بعد سقوط بغداد هو تغيير الواقع. وبالعكس فإن دوام الحال سيجعل السقوط السريالي لبغداد بداية لمسلسل سقوط لا يعرف مداه.
ما المقصود عملياً باستراتيجية الضعف؟
أولاً الكف التام عن تبديد الموارد الشحيحة على استيراد الأسلحة والإنفاق العسكري.
ثانياً أن تنص الدول العربية في دساتيرها على تحريم العنف في حل النزاعات الداخلية.
ثالثاً فك الارتباط بين البناء الداخلي، السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، وبين الصراع العربي الإسرائيلي. وهو ما يعني أن تلتفت الدول العربية منذ الآن لإصلاح بناها الداخلية المخربة وعدم رهن حياة مواطنيها بحل الصراع. فقد خسرنا كل ترابنا الوطني لأشكال عاتية وفاجرة من الاستعمار الداخلي باسم تحرير بعض ترابنا الذي يحتله استعمار خارجي. وعلى كل حال لا يمكن أن ينحل صراعنا مع "إسرائيل" إلا بتحجيم المشروع الإسرائيلي ورده على أعقابه. وهذا ما لا نملك في الأفق الراهن أية إمكانية لتحقيقه. لكن إن لم نستطع أن نستعيد حقوقنا ونفرض احترامنا بالقوة، فقد نستطيع أن نكون ضعفاء ينالون احترام أنفسهم وعطف العالم ومودته بتبني استراتيجية تواضع أو ضعف - دون عسكر ودون نياشين ودون جلبة وظواهر صوتية.
على أنه يجب أن لا نتوهم أن "إسرائيل" ستترك لنا فرصة تبني أية استراتيجية من أي نوع. فهذه الدولة العنصرية المتعصبة لا تقبل بأي تكافؤ بين العرب واليهود، وتشعر أن اقتراب العرب من الحياة العصرية هو تهديد وجودي لها. هذا يعني أن استراتيجية الضعف ليست البديل الميسور عن استراتيجية قوة صعبة. بل هي في الحقيقة أصعب لأنها تحتاج إلى مفهوم السياسة المدنية وإلى منح أولوية كبرى لبناء إجماع داخلي وتدبير تناقضات يسهل عادة على إيديولوجية استراتيجية القوة أن تغطيها أو تتلاعب بها.
أما المضمون الإيجابي الممكن لهذه الاستراتيجية فلا يمكنه أن يكون إلا تحويل الجهود والموارد نحو النمو الاقتصادي والانتقال الديمقراطي. وقد يكون هذا هو الطريق نحو أشكال من التعاون والاتحاد العربي. فالدول العربية الحالية أصغر بكثير من حدودها. وإذا لم تكبر بإنتاج الثروة والحرية فلن تنهار حدودها إلا نحو الداخل (و"الاستعمار" وحده هو ما يحول دون هذا الانهيار حالياً). لكنها إذا تمكنت من التوجه بصورة منسجمة نحو الديمقراطية و"التنمية الإنسانية" فلن تحتاج إلى بسمارك عربي من ماركة صدام حسين لأن النمو سيقلل من قيمة الحدود وقد يدفعها نحو التقشر والسقوط كما ينسلخ عن الأفعى جلدها الضيق.
إعادة تأسيس
تحتاج استراتيجية الضعف إلى قيادات قوية تستطيع إقصاء أو تحجيم دعاة القوة الذين يصونون مواقعهم وامتيازاتهم بهذه الدعوة (وهذا سبب إضافي لعدم مخاطبة الأنظمة الحالية أو التعويل عليها بشيء). لكنها تحتاج قبل ذلك إلى جهد ثقافي وقيمي هائل بالفعل. ذلك أن ثقافتنا العربية تعلي من شأن القوة، ولم يساعدها النظام العالمي الحديث (وهو يقوم على القوة) ولا تجاربنا التاريخية الحديثة (هزائم أمام الأقوياء) ولا مصالح النخب السياسية في الحكم وخارجه (تحوز السلطة بالقوة وتبقى فيها بالقوة وقلما تتغير بغير القوة)، لم تساعدها على إعادة هيكلة مفهوم القوة باتجاه إبراز مضامين أقل تركزاً حول الحرب والعنف والإكراه فيه. وقد دفعت جملة الظروف المذكورة أيضاً كل المطالبات بالتغيير في المجتمعات العربية إلى تسويغ نفسها بمردودها المأمول على صعيد القوة والصمود في وجه التحديات الخارجية ومقاومة العدوان الأجنبي.
وبقدر ما احتلت الديمقراطية اليوم أفق كل المطالبات التغييرية في العالم العربي فإن من الضروري أن نتساءل عما إذا كان المنظور الراهن إلى الديمقراطية، وهو مبني على دورها المفترض في علاج ضعفنا أمام العدو الخارجي، لن يضعف فيها الوزن النسبي لفكرة حقوق الإنسان ويردها إلى شعار تعبوي معاد للاختلاف والتعدد. ومن المشروع التساؤل أيضاً عما إذا كان تسويغ الديمقراطية بطلب القوة يفيد أم يضر في مواجهة الدكتاتوريات الحاكمة في العالم العربي، وعما إذا لم يكن هاجس القوة واحداً من العوائق الكبيرة أمام حضور المطلب الديمقراطي والثقافة الديمقراطية في مجتمعاتنا.
صحيح أن مفهومنا للديمقراطية لا بد أن يستجيب لنوعية شكاوينا ومطالبنا، ومنها شكوانا من الضعف وحاجتنا إلى القوة، وإلا كان بلا قيمة. لكننا نميل إلى أن هناك مناخاً أمثل لتفتح المطلب الديمقراطي: مناخ التوافق بين الحق والحاجة أو المطلب. وهذا يقتضي إعادة التفكير بمفهوم الديمقراطية بحيث لا يبقى أسير الإشكالية العلاجية التي تجعل منه ترياقاً لأمراضنا كأمة أو كبلدان بل ينفتح على إشكالية الحق، أي على تصور للديمقراطية كعنوان لحقوقنا الفردية التي لا تحتاج إلى تبرير من أي مصدر "أعلى".
تفكير "غير متواز"
يخترق مفهوم استراتيجية الضعف تناقض ذاتي عميق: فمفهوم الاستراتيجية منغرس في سياسات القوة وثقافة القوة أولاً، ثم أن الفاعل الاستراتيجي، أي الدولة، أكثر انغراساً بعد في ديناميات بناء ومراكمة القوة. وهذا الواقع يدفع الدولة الحديثة إلى التفكير بضعفها كأنه عار سياسي يمس "عرضها" ويشوب جوهرها، ويجعل الهدف الوحيد لهذه الدولة الضعيفة اكتساب القوة لغسل عارها.
لكننا نميل إلى أننا دخلنا بعد نهاية الحرب الباردة، وأكثر بعد أيلول 2001، وأكثر وأكثر بعد سقوط بغداد، في مرحلة جديدة تماما لم تعد أنساق التفكير النظامية تساعد في فهمها أو تخيل مخارج ممكنة منها. نحتاج اليوم إلى تفكير "غير متوازٍ" - إذا حاكينا اللغة الأمريكية - يستجيب للأوضاع "غير المتوازية" التالية لسقوط بغداد، ويرد على تداعي الوظائف النظرية التفسيرية والعملية التغييرية لنظم فكرنا المتوازية.
وعلى كل حال هناك اليوم سلطة إمبراطورية، ولم تعد أية دولة في العالم تستطيع أن تكون قوية إلا بقدر ما توالي الامبراطورية أو تنضوي تحت لوائها، أي إلا بقدر ما تتخلى عن استقلالها. ولم تعد ثمة دولة قوية أو يمكن أن تكون قوية إذا وقفت في وجه الامبراطورية. وفي هذا السياق الاستراتيجي العالمي الجديد تستطيع بولندة أن تكون أقوى من روسيا، وتايوان أن تصمد أمام الصين. أما المثال الأقدم الذي سار على هديه نظام القوة الامبراطوري فهو العلاقة الأمريكية الإسرائيلية التي جعلت إسرائيل، منذ أكثر من ثلاثة عقود، أقوى من العرب مجتمعين.
ثم أن البديل عن فكرة استراتيجية الضعف ليس في أحوالنا الراهنة استراتيجية قوة مستحيلة بل هو حالة من الشلل تزيد من هشاشة النخب السياسية وتقلل من عقلانية سياسة الدول وتضعف استقرار مجتمعاتنا وتخدم في محصلتها العامة القوى المعادية للديمقراطية. وطوال العقود الماضية قاد التناقض غير المحلول بين الحاجة إلى استراتيجية قوة والعجز عن وضعها وتطبيقها إلى العجز عن بلورة أية استراتيجية. وهذا العجز يصب لمصلحة مركزة السلطة وخلق المناخ الملائم لنمو الدكتاتوريات.
13 حزيران 2003