أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - سلام عبود - منابع الديكتاتورية.. صدام نموذجاً هل صنعته الطفولة أم صنعه حزبه وظرفه؟















المزيد.....

منابع الديكتاتورية.. صدام نموذجاً هل صنعته الطفولة أم صنعه حزبه وظرفه؟


سلام عبود

الحوار المتمدن-العدد: 688 - 2003 / 12 / 20 - 09:12
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


هل الدكتاتورية قدر أم حالة تاريخية؟ هل الدكتاتورية نزعة فردية نفسية أم حالة اجتماعية سياسية؟
قبل ان نجيب عن هذه الاسئلة لا بد لنا ان نعود قليلا الى التاريخ: تاريخ الديكتاتوريات وتاريخ صدام الشخصي.
خلافا لما هو شائع عند الناس من ان الديكتاتور هو نقيض الحاكم الديموقراطي دائما وأبداً، لا بد لنا ان نوضح حقيقة تاريخية هامة، هي ان وظيفة الديكتاتور كانت شكلا من اشكال ممارسة السلطة في النظم القديمة. فالديكتاتور هو مفوض مجلس ممثلي الشعب في مرحلة تاريخية محددة طبقا لقوانين الجمهوريات الرومانية القديمة. وقد نصب او اختير أول ديكتاتور في روما عام 501 قبل الميلاد، وفي عام 216 قبل الميلاد اختار الشعب فابيوس ماكسيموس ديكتاتورا إبان حرب هانيبعل، اي كحاكم شرعي في نظر القانون الروماني.
فالديكتاتور كان مجرد ممثل للحكم لفترة خاصة، محدودة، يتم فيها تركيز السلطة بيد فرد او جماعة، لغرض مواجهة خطر عظيم. اي انه صيغة للحكم في زمن الازمة. ومن هذا المنطلق، كان ظهور وصعود هتلر، في نظر البورجوازيات الديموقراطية والليبرالية الاوروبية، شأنا استثنائيا عالميا وداخليا، في مواجهة الازمة الالمانية الداخلية واشتداد نضال الجماعات اليسارية الالمانية وتنامي قوة الاتحاد السوفياتي في الخارج. ولا يختلف الامر مع فرانكو، الذي قام بذبح الجمهورية الاسبانية علنا، على مسمع ومرأى اوروبا الديموقراطية كلها. فقد كان فرانكو في نظرهم حالة خاصة جدا في ظروف ازمة وطنية: تنامي خطر الشيوعيين والفوضويين الإسبان. ومن هنا نرى ان الديكتاتورية تولد في بعض النظم القديمة شرعيا في زمن الازمة، وبشكل خاص عند الحروب والتمردات الداخلية، وفي النظم البرجوازية المعاصرة كخطوة غير اعتيادية، لكنها عابرة في نظرهم، لمواجهة خطر طارئ يهدد المصالح الجوهرية لطبقات اجتماعية ونظم سياسية معينة. فالديكتاتورية الهتلرية، كان من الممكن لها ان تقوم وتظل شرعية وقانونية، حالها حال ديكتاتورية فرانكو، لو انها لم تعد اياديها أبعد مما قدر لها. وهذا الامر ينطبق تماما على نظام حكم صدام حسين، من وجهة نظر الغرب عامة، ومن قبل النظم العربية كافة.
سلالة القتلة
إن عملية تركيز السلطة بيد فرد او جماعة، التي بدأت تاريخيا شرعية، غدت بعد حين صفة سلبية، اقترنت بعملية الاستيلاء غير الشرعي (غير القانوني) على السلطة ومواقع النفوذ السياسية الاساسية.
وأشهر حوادث التاريخ وأكثرها ذيوعا قضية <<اجاثوكليس>> (289361)، حاكم سرقوسة، وأحد زعماء الاغريق والحرب الاهلية <<الديموقراطيينٌّ>>، الذي توج نفسه ديكتاتورا، بطريقة فريدة. وقد سجل <<ميكافللي>> هذه الحادثة في كتابه <<الأمير>> وأشاد ببراعة <<الوسيلة>> التي نصب فيها <<اجاثوكليس>> نفسه ديكتاتورا. فقد استدعى <<اجاثوكليس>> الشعب وزعماءه وممثلي مجالس الشعب كما لو انه يتدوال في شأن عظيم من شؤون الجمهورية. وبإشارة من يده قام حرسه الشخصي بذبح الزعماء المنافسين. وبذلك توج نفسه حاكما وحيدا. ولم يأت هذا التتويج الدموي من غير مبررات توجب قيامه. فقد برر <<اجاثوكليس>> هذا الإجراء بالضرورة التي تمليها عليه مصالح شعبه، في حربه الفاشلة التي شنها ضد الأعداء الخارجيين!.
وإذا كان <<ميكافللي>> قد امتدح صفة الدهاء في خطة الطاغية <<اجاثوكليس>> المحكمة. اي اشادته بالوسيلة التي قادت <<اجاثوكليس>> الى الحكم. فإنه من جانب آخر رأى ان هذه الوسيلة، ربما لا تكون انصع وأنجع وسيلة لاستمرار الحكم. فقد يتمكن الحاكم من شراء ذمم اهل القتلى وإرضائهم بسهولة، لأن بريق الذهب اثبت وأقوى في النفوس من ذكرى دماء الآباء، إلا ان الحاكم قد يخسر شرفه بسبب ذلك. وفي حقيقة الامر قد يخسر الحاكم الطاغية الامرين معا: شرفه وحكمه.
لقد أضحى تعبير ديكتاتورية النقيض المباشر لمصطلح ديموقراطية، بالمفهوم الحديث. وأصبح الديكتاتور مرادفا للطاغية، سواء كان هذا الديكتاتور قائدا ثوريا كماو تسي تونغ وكيم إيل سونغ او حزبيا عسكريا كهتلر وموسوليني أو حزبيا فقط مثل ستالين وشاوشيسكو، او عسكريا محترفا كبنوشيت او من طراز الحكام اليونانيين العسكريين كبابادوبلس. إن شكل الديكتاتورية تحدده عوامل عديدة منها: ظروف النشأة، وقاعدة الحكم، والاهداف. فبعض الديكتاتوريات تكون مجردة من الايديولوجيا، ومحصورة في حب السلطة وملذات المال والبذخ والجنس كديكتاتوريات عيدي امين وموبوتو سيسي سيكو. وقد يأخذ الحكم الديكتاتوري من الحكم الديموقراطي بعض مظاهره كوجود مجلس شعب (برلمان) شكلي، وربما وجدت انتخابات عامة أيضا. بيد ان الجوهر يظل واحداً، هو تركيز القوة والحكم في يد شخص او جماعة محددة.
منابع الديكتاتورية؟
هل يخلق الديكتاتور نفسه بنفسه؟ هل النزوع الى الديكتاتورية صفة نفسية، وراثية، او اجتماعية؟ ام هو محض مصادفة يخلقها عدد من الوقائع المترابطة، يتحقق باجتماعها عنصر الطغيان؟
الذين يتحدثون عن الاستبداد الشرقي ينسبون الظاهرة الى عوامل تاريخية موغلة في القدم، وخلف هذه العوامل توجد اسباب مادية (طبيعية) وعقلية. فالفرات والنيل ويانغ تسي كيانغ تطبع حياة الشرقي بطابع الكلية، وهي التي كانت وراء فكرة الإله الواحد الأعلى، وليس فقط الحاكم الواحد الاعظم.
وتنشر بعض المراجع الاوروبية الديكتاتورية على رقعة جغرافية واسعة تشمل العالم كله عدا شمال وغرب اوروبا، التي لا تنتج الديكتاتورية في نظر هذه المراجع، إلا ان الوقائع التاريخية لا تزكي ذلك الرأي تماما. فلا تنحصر الديكتاتورية في رقعة محددة. فقد عاش الانكليز تجربة الديكتاتورية من خلال حكم اوليفر كرومويل (16581599)، الذي توج نفسه حاكما وحيدا ضد ارادة البرلمان على إثر حرب اهلية. وشهدت بولندا وليتوانيا ويوغسلافيا (قبل الحكم الشيوعي) وألمانيا وإيطاليا واليونان واسبانيا والبرتغال أنواعا متعددة من الديكتاتوريات.
وهناك من يحاول ان ينظر بعيدا الى الوراء، من خلال رد المشروع العنفي الرجعي، بما في ذلك الاستبداد الديكتاتوري الى عوامل سياسية تاريخية متراكمة، وليس عوامل جغرافية ونفسية واجتماعية وسياسية آنية فحسب. فكتاب <<قرن كامل من أجل اللاشيء، الشرق الاوسط العربي من الامبراطورية العثمانية الى الامبراطورية الاميركية>> للمؤلفين جان لاكوتير وغسان تويني وجيرار خوري، يحاول البحث عن الراهن العربي من خلال متابعة عوامل موت مشروع النهضة العربية. ويمهد الكتاب لظهور السؤال الاكثر حيوية: <<كيف أنتج مشروع النهضة العربية اشخاصا من نوع بن لادن والظواهري وصدام حسين>> (هاشم صالح: الشرق الاوسط 1/6/2003).
صدام حسين هنا، حاله كحال ابن لادن، يمكن ان يكون جزءا من نتائج فشل مشروع النهضة العربية، الذي قاد في نظر مؤلفي الكتاب الى اللاشيء. وفي واقع الامر ان <<اللاشيء>> نتيجة ذات قيمة اعلى مما تركته تجربة صدام حسين التدميرية العابثة، الممهورة بالجهل والعنف والصلف.
أما في كتب الأدب والسيرة الشخصية (غير المؤيدة لصدام)، فإن صدام حسين مشروع ديكتاتوري فطري، فقد تم تصويره على انه ديكتاتور جاهز الصنع منذ الطفولة. ففي كتاب <<عالم صدام حسين>> الصادر عن دار الجمل، يظهر لنا الديكتاتور طفلا مهملا، منبوذا، يتسلى بملاعبة العقارب وبالنوم في آبار مظلمة يداعب في حندسها خيوط العناكب. ومثل هذه الصور ظهرت في صفات صدام حسين الطفولية التي رسمها <<كون كولاج>> في كتابه <<صدام... الحياة السرية>>. فقد اظهر صدام طفلا شريرا يتسلى بتسخين قضبان حديدية يبقر بها بطون الحيوانات، ولا يتوانى عن وضع الافاعي في جيوب المعلمين الذين لا يكن لهم الود. ومثل ذلك، ولكن على نحو اقل وحشية، نجده في كتاب المذكرات <<دولة الاذاعة>>، الذي كتبه ابراهيم الزبيدي صديق طفولة صدام. والزبيدي بعثي قديم، يعمل حاليا مع القوات الاميركية في مشروع اعادة الديموقراطية للعراق، رافق جزءا مهما من طفولة صدام وفتوته وشاركه في السراء والضراء، وكان شاهدا على اعمال صدام اليومية الصغيرة: النشل، السرقة، الاعتداء، وصولا الى اول عملية اطلاق نار، ثم اول عملية قتل فعلية تسجل على ذمة صدام، وهي قتل الحاج سعدون الناصري احد القياديين الشيوعيين في تكريت، بتكليف من خاله طلفاح. ورغم ان الصورة التي رسمها الزبيدي لصدام لا تطابق الصور الشائعة عن الولد الانطوائي الغارق في الوحدة والحزن، إلا ان الزبيدي شريك صدام في عبثه وجده الطفولي وصل الى النتيجة ذاتها: صدام حسين ديكتاتور جاهز منذ الطفولة. يقول الزبيدي ان نظرية صدام في الحياة هي <<انه لا يعتبر نفسه خاطئا او معتدى عليه، حتى لو قتله (يتحدث الزبيدي عن معلم كردي اعتدى على صدام بالضرب فأطلق صدام النار على شقيق المعلم) او قتل اخاه البريء بهزاد. إنها خطيئة في نظر السلطة والمحكمة والقانون وحسب، وهذه كلها مؤسسات وضعية مستحدثة من اختراع الانسان، والحقيقة هي ان القدر وضعه في طريقي ودفعني الى قتله او قتل اخيه لحكمة لا يدركها عقل إنسان... وحتى لو سرق احدنا من مال غيره فهو لن يكون مرتكب خطيئة بل ما اخذه هو رزقه الذي أراد القدر ان يأتيه بهذه الطريقة، والدنيا كلها منذ بدء الخليقة تسير بهذه الصيغة، قوي وضعيف، شجاع وجبان، غني وفقير، سادة وعبيد، قادة ورعايا>>. ويصل الزبيدي إلى خلاصة عقلية تقول: <<وحينما كبرنا وحدث ما حدث بدأت ادرك ان تلك الفلسفة المنحرفة هي التي تتحمل وزر الدماء البريئة التي اهرقها ببرودة اعصاب وراحة ضمير، فهي التي صنعت منه ما اصبح عليه>>. أي أن نظريات طلفاح <<المنحرفة>> كانت سببا في صناعة الديكتاتور. وذلك امر لا يخلو من الصحة، لكنه يخفي ويستر قدرا عاليا من بشاعة التاريخ الشخصي لصدام وبشاعة التاريخ السري والعلني للبعث وللبعثيين. ومن هنا نرى ان صدام حسين، في مخيلة العراقيين جميعا، مخلوق ديكتاتوري، صنعته الطبيعة منذ الطفولة.
طلفاح أم العقارب هي السبب؟
وربما تكون طفولة صدام المعقدة وظروف نشأته قد رسمت لنا تلك الصورة ولونتها بألوان ديكتاتورية. إلا ان صفات صدام تلك لم تكن، في نظر علم النفس، ذات قيمة واقعية ما لم تجد تربتها الملائمة التي تتفتق فيها. لذلك يرى البعض ان المشروع البعثي العراقي خاصة بدءا من تجربة مقاومة سلطة عبد الكريم قاسم، ثم مجيء البعث وسقوطه السريع عام 1963، وتعاقب حكومات سريعة هشة، وطابع حزب البعث وظروفه الداخلية الخاصة مهدت لجعل هذا الطفل البائس اللاعب بالعقارب طاغية ميت الضمير. ولهذا السبب أرى شخصيا ان تقييم عبد الامير معله لشخصية روايته <<الأيام الطويلة>>، رغم فساد محتواه، كان اكثر انسجاما، اكثر اخلاصا لشخصية صدام الحقيقية وللمشروع البعثي، مقارنة بتقييم البعثيين الذين خرجوا على صدام وسعوا الى خلق فجوة عقلية وتاريخية بين تكوّن ونشوة الديكتاتور الطفل وخروج الديكتاتور كامل النضج من قمقم البعث. يقول معله عن صدام: <<انه البطل الذي لا ينفصل تاريخه الشخصي عن تاريخ السنوات العشرين الاخيرة من نضالات حزب البعث>> (سيناريو الأيام الطويلة ص 7). اي بوضوح تام، ما كان لصدام الديكتاتور ان يخرج من جسد الطفل اللاعب بالعقارب إلا في ثياب البعث. لقد كان عبد الأمير معله صادقا الى حد بعيد في رسم اكذوبته البطولية!.
ولكن هل كانت طفولة صدام ونشأته هي العامل الحاسم في جعله ديكتاتورا، ام ان العامل السياسي هو الذي خلق من هذا الطفل المنبوذ البائس ظالما، عظيم الطغيان؟
ليس جميع الذين رصدوا حياة صدام حسين وصلوا الى ما وصل إليه الكتّاب الذين عرضتهم سابقا، فالكاتب مارك بادون يرى غير ذلك في كتابه <<قصة طاغية>>. فالكاتب يعتقد بوجود <<تغيير دراماتيكي>> في شخصية صدام حيّر عدداً كبيراً من المراقبين الاجانب، و<<حيرت تصرفات وأفعال الديكتاتور العراقي حتى خبراء علم النفس>>.
بيد اننا لا نجد مثل هذه الحيرة عند العراقيين، سواء كانوا علماء نفس او علماء كلام. إذ يصر حتى العراقيون الذين قابلهم مارك بادون على <<ان الامر لا يتعلق بتحول في شخصيته بقدر ما هو قسوة كانت فيه منذ الطفولة>>. وأمام هذا الاشكال وضع بادون السؤال التالي: هل كانت فترة <<العقلانية>> التي تمتع بها صدام تخفي وراءها شخصية ديكتاتورية لا ترحم، ام انه تغير مع مرور الوقت؟ ويجيب بادون: <<في اعتقادي ان الفرضية الثانية هي الصحيحة، اي ان السلطة هي التي افسدته>>. وطبقا لذلك يرى مارك بادون <<لو لم يستول (صدام) على هذا القدر الهائل من السلطات فلربما ظل رجلا معقولا>>. وبمعني اكثر دقة: إن <<بروز سلطوية صدام وماسوشيته لم يكن حتميا>>. ورغم منطقية محاججات بادون، إلا انها، للاسف الشديد، لا تجيب عن جوهر المسألة: لماذا استولى صدام على هذا القدر الهائل من السلطات؟ وما الذي جعل سلطوية صدام و<<ماسوشيته>>(!) امراً واقعيا في المجتمع العراقي؟.
ان ابرز نقاط الضعف التي رسمها بادون لصدام هي تقديره الايجابي <<لمرحلة العقلانية!>> في حياة صدام. وهي المرحلة الممتدة من قيام ثورة 1958 حتى بداية مرحلة حكم البعث الثانية. حيث يرى بادون <<كثيرين تحدثوا عن اعجابهم بذكاء وانفتاح عقلية صدام في ايام الشباب حينما كان ثوريا اشتراكيا>>. ويضيف راسما صورة خالبة لصدام المثقف، فهو <<قارئ نهم، تشمل قراءاته كل المجالات من الفيزياء الى الرواية وله اهتمامات واسعة وولع خاص بالتاريخ العربي والعسكري>>، اضافة الى ولعه بسيرة حياة القادة. وعند تمحيص هذا الجزء الزائف من شخصية صدام نجد انه رسم بقلم اشخاص معروفين بولائهم السابق للديكتاتور: وفيق السامرائي وسعد البزاز، اضافة إلى عبد الامير معله في رواية <<الأيام الطويلة>> وغيرهم. وهي صورة تطابق تطابقا تاما ما رسمه صلاح عمر العلي لصدام حسين في مذكراته الشخصية. (الحياة 7 آذار/ مارس 2003)، وهي تطابق ايضا المشروع البعثي الجديد، كما تراه الجماعات <<البعثأميركانية>> الآن. اضافة الى ما يعرف ببعث ما بعد صدام، اي البعث، ولكن من دون ديكتاتور اسمه صدام. فعند ضم ملاحظات البعثيين السابقين الى بعضها نجد انهم يجمعون على ان النشأة الاولى لصدام هي التي زرعت بذرة الديكتاتور فيه. فقد كان ديكتاتورا مؤجلا في نظرهم، او في اضعف الاحوال، كان مشروع طغيان، ويشترك في هذا الرأي اولئك الذين جعلوا من صدام ضحية لفلسفة طلفاح <<القدرية>>، <<المخربة>> كإبراهيم الزبيدي، او الذين رأوا فيه ضحية للفقر واليتم والحياة العائلية الصعبة وقتل العقارب وبقر بطون الحيوانات، او ضحية لاغراء السلطة كما يؤكد صلاح عمر العلي. فالجميع هنا يحاول القفز على مرحلة <<العقلانية>> و<<الثورية الاشتراكية>>، اي مرحلته البعثية ودورها في صنع تاريخه الدموي. وهذا هو سر الحيرة التي وقع فيها <<بادون>> وأصدقاؤه علماء النفس الذين ادهشتهم تحولات صدام، والذين افترضوا او توهموا وجود حقبة <<عقلانية>>، <<ثورية اشتراكية>> سبقت خروج صدام على الملأ ديكتاتورا.
وفي حقيقة الامر اضحى صدام مشروعا ديكتاتوريا من خلال مشروع البعث الدموي. ولم تكن هناك تغيرات <<محيرة>> في تطور سلوكه. لكن هناك تغيرات في طريقة سبر المشروع البعثي، الذي حقق صدام به ومن خلاله مشروعه الديكتاتوري الشخصي.
فقد يكون لفترة الطفولة اثر في تكوين صدام اللاحق، بيد ان هذا التكوين ما كان له ان يتحقق ما لم يجد اطاره السياسي والعقلي والاجتماعي الملائم. وقد وجد صدام ذلك الاطار في مشروع البعث العراقي السياسي. إن ديكتاتورية صدام، حالها كحال ديكتاتورية هتلر، جزء من مشروع سياسي، وما من سبيل الى درء مجيء ديكتاتور مماثل، ما لم يتم ردم المنبع السياسي الذي يولد منه الديكتاتور القادم.
لذلك، فإن وضع صدام حسين خارج المشروع البعثي، وخارج المشروع القومي (ولا اقصد مشروع القومية العربية، بل اعني رغبات بعض الحكومات والقوى السياسية العربية في وجوده والافادة من جهله وتهوره)، والاهم خارج المشروع الدولي، لم يكن قادرا على انجاب ديكتاتور على هذا القدر من القسوة والفظاظة، وعلى هذه الدرجة من البأس وطول فترة التحكم بالناس.
وحتى ذلك لم يكن كافيا لانتاج ديكتاتور كصدام. فإلى جانب العوامل السياسية والاجتماعية والتاريخية والشخصية يحتاج الطغيان الى معاونين مباشرين لتحقيقه وتنفيذه. وطغيان واسع وطويل كطغيان صدام حسين تطلب وجود جيش كبير من المعاونين ميتي الضمير، جيش من الوشاة، والادباء المزورين، وقادة فرق الاعدام، والمخبرين، وجنود الدفاع والهجوم، وايدلوجيي ومنظري الخراب والقوة، وحتى المبوّقين والطبّالين. وأكاد أجزم فأقول حتى ذلك كله لم يكن كافيا لانتاج ديكتاتور من طينة صدام حسين. فإضافة الى ذلك كله تطلب ظهور صدام وجود مناخ سياسي وقانوني ونفسي اجتماعي يجوز الطغيان ويسمح بظهوره، كعامل من عوامل صناعة القرار السياسي والاجتماعي.
لقد سقط صدام، ولكن هل ستسقط معه نزعة الديكتاتورية، وهل ستتجفف منابع ظهورها؟ من هو المؤهل للقيام بذلك؟.



#سلام_عبود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عــلّــوكــي
- ظاهرة مقتدى الصدر: الجذور, الأسباب, النتائج
- مـن الـثــــورة الـى الـدولـــة
- يـوميات عربـيـة في أسـوج مـن الثورة الـمؤدبة الى الثورة الخج ...
- الـشــاعـرة الأســـوجـيــة اديـث ســودرغــران تـكـســر جــلـ ...
- مــن يـكـون -الـروائـــي- صـــدام حـســــيـن؟ عـن -زبــيــبـ ...
- إعــادة إعـمـــار الـثــقـــافـــة فـي الـعــــراق الـبــعــ ...
- الـمــــوت يـمـشـــي فـي نــومـــه
- أقــنـعـــة الـفـــرهـــــود
- هل استقر مهد الحضارات في بطون الدبابات؟
- ســقـط الـديـكــتـاتـور صـعـد الـيـانـكـي: تهـانـيـنـا
- المسألة العراقية بين خيار أسوأ الاحتمالات و خيار المبدئية ال ...
- الرهينة - من القصة القصيرة الى الرواية-


المزيد.....




- مع تقدم القوات الأوكرانية.. روسيا تقدّم آلاف الدولارات لوظائ ...
- فيضانات وأضرار كبيرة في ألمانيا بعد عاصفة عنيفة وأمطار غزيرة ...
- سيرا على الأقدام.. قصة شابين إيرانيين هربا إلى ألمانيا
- بينيت يطالب بتغيير القيادات السياسية والعسكرية
- روسيا تكشف عن ناقلة جنود مطوّرة في منتدى -الجيش-2024-.
- اكتشاف هام قد يساهم في محاربة اضطراب شائع لدى الأطفال
- مارك زوكربيرغ يزيل الستار عن تمثال لزوجته
- الكشف عن طائرة نقل ضخمة روسية مسيرة ذات الإقلاع العمودي في م ...
- موسكو تندد بمحاولات الاستخبارات البريطانية تجنيد الدبلوماسيي ...
- الهند.. العثور على جسيمات بلاستيكية دقيقة في جميع عينات المل ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - سلام عبود - منابع الديكتاتورية.. صدام نموذجاً هل صنعته الطفولة أم صنعه حزبه وظرفه؟