الدراما العالية، والمشروعة المبرّرة، التي صنعها حدث وقوع صدّام حسين في قبضة جيش الإحتلال الأمريكي ليست في الآن ذاته قادرة على الإنقلاب إلى غربال يحجب الشمس، الساطعة الحارقة في الواقع، ذات الشواظ واللهيب، صانعة النار والخراب والدم، ومولّدة الحقائق الصلبة الصعبة كلّ يوم، بل كلّ ساعة...
وهذه الشمس الساطعة ليست سوى واقع الإحتلال الأمريكي للعراق، وحقائق ذلك الإحتلال القديمة ـ المقيمة، إلى جانب وقائعه وحقائقه القادمة غداً أو بعد غد، أو تلك المعلّقة في أفق أبعد قليلاً ولكن ليس أقلّ وطأة. وللمرء أن يبدأ من حقيقة لاشرعية هذا الإحتلال العسكري، وانطلاقه في الشكل من تهويل أمريكي ـ بريطاني حول امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، ونهوضه في المحتوى على مجموعة متكاملة من الأهداف الإقليمية التي تخدم المصالح الحيوية للولايات المتحدة وبريطانيا.
وليس من المبالغة القول إنّ القبض على طاغية العراق ليس نهاية لمشكلة، بل هو بداية لسلسلة مشكلات، كانت في الأقلّ مؤجلة إلى أجل بعيد نسبياً، لكي لا نقول غير مسمّى. فماذا ينبغي أن تفعل الإدارة الأمريكية بهذا الدكتاتور، نسيج وحده كما ينبغي الإعتراف؟ ألا يملك مفاتيح بالغة الحرج لعشرات الأبواب التي تظلّ حتي هذه الساعة مغلقة محصّنة، مسدودة أمام رياح الهتك والفضيحة والتواطؤ والزيف؟ دعوا جانباً تلك الصورة البديعة التي تكتسب دلالاتها القصوي الصاعقة اليوم بالذات، صورة الرئيس العراقي السابق وهو يصافح السيد دونالد رمسفيلد، مبعوث وزارة الدفاع الأمريكية السابق ووزير الدفاع الراهن!
ودعوا جانباً، أيضاً وأيضاً، اللثام الذي سيميطه صدّام حسين عن أسرار الإتفاق الإيراني ـ العراقي حول كردستان العراق (أيام الشاه!)، وأسرار المواقف الأمريكية والأوروبية إجمالاً من الحرب العراقية ـ الإيرانية، وأسرار اجتياح الكويت، و"عاصفة الصحراء"، وسنوات الحصار، وأدوار نظام صدّام حسين في الاقتتال الكردي ـ الكردي، فضلاً عن أدوار النظام ذاته في عشرات الملفات الإقليمية ذات الحساسية الفائقة... الحارقة؟
ماذا سيقول خزّان الأسرار هذا عن إيران، وتركيا، والدولة العبرية؟ عن سورية، ولبنان، والأردن، وفلسطين المحتلة، ومصر، والكويت، والسعودية؟ عن حافظ الأسد، وحسني مبارك، وأنور السادات، والملك حسين، والملك فهد، والأمير جابر الأحمد الصباح، وياسر عرفات، ومعمّر القذافي؟ منذ الآن، وقبل أن يُنصب مقعد واحد للمحاكمة الكبرى، يرفع عضو مجلس الحكم العراقي، موفق الربيعي، الإصبع في وجه الجميع: هذه المحاكمة "ستكون محاكمة العصر، وستنكشف فيها أسرار، وسينكشف رؤساء دول وملوك ومثقفون وسياسيون ونوّاب موجودون الآن في الحكم أو خارج الحكم، في المعارضة أو في الحكم، في الدول العربية والاسلامية والشرقية والغربية".
هذه عبارة الرجل الذي جالس الدكتاتور العراقي دقائق معدودات فقط بعد القبض عليه، بإذن من بول بريمر وبحضوره، فماذا يمكن أن تكون عليه عبارة مستنطقي صدّام حسين الفعليين، رجالات المخابرات المركزية الأمريكية، وأمثال بول ولفوفيتز ودونالد رمسفيلد؟ وإذا كان الربيعي، وبالرغم من السفسطة الطافحة ـ المسطحة في خطابه إجمالاً، لا يدرك أنه قد يكون في عداد المنكشفين جرّاء اعترافات صدّام حسين، بل في أسفل اللائحة تلك على الأرجح، فكيف يمكن لنا أن نتخيّل حال الآخرين: الأسماك الكبيرة التي ستقع في الشبكة حتماً؟
ولعلّ من الأفضل أن يقارب الأمر معضلة القبض على صدّام حسين من زاوية معاكسة لتلك التي تقول: "ما الذي سيحدث الآن بعد وضع الدكتاتور في القفص؟"، بتلك التي تسأل: "ولكن... ما الذي لن يحدث بعد اعتقاله"؟ على سبيل المثال، نعرف أنّ المقاومة العراقية لن تتوقف، بل ثمة عشرات المراقبين ممّن يساجلون بأنها سوف تشتدّ وتتّسع وتأخذ محتوى جديداً، متحرّراً علي الأقل من شبهة قيادة صدّام لها. وبتنا اليوم نعرف، ولسوف نعرف بوضوح أكثر، أنّ هذه المقاومة تتألف من فصائل عراقية وطنية متباينة المشارب، ولكنها تلتقي عند هدف مناهضة الاحتلال الأمريكي؛ ومن فصائل أخرى إسلامية لم تكن تحلم بأفضل من الساحة العراقية الراهنة لمقارعة الولايات المتحدة، في بلد بلا قانون ولا حدود ولا جوازات سفر.
كذلك نعرف أن سقوط صدّام حسين في قبضة جيش الإحتلال الأمريكي لن يوقف العمليات الإرهابية، أياً كانت طبيعتها وأدواتها، ضدّ الأهداف الأمريكية والبريطانية، وفي العالم بأسره ربما. هذه، هنا أيضاً، ليست مناسبة للاحتفال بتسجيل نصر من أي نوع في ما تسميه أمريكا بـ "الحرب على الإرهاب"، لأنّ أهل البيت الأبيض هم أوّل وأفضل مَن يعرف أنّ صدّام حسين لم يكن تفريعاً عن أسامة بن لادن، وأنّ هذا الأخير ما يزال حيّاً يُرزق، طليقاً، قادراً كما يبدو على الحركة والتخطيط والفعل.
ونعرف، ثالثاً، أنّ اعتقال الرئيس العراقي السابق لن يشدّ من عزيمة جيش الإحتلال الأمريكي، أو يمنح أجهزة الأمن الأمريكية وسام استحقاق وجدارة. فالمدهش في الواقع ليس حقيقة نجاح تلك الأجهزة في تضييق الخناق على صدّام إلى درجة حصر نطاق حركته في منطقة واحدة صغيرة محدودة، بل المدهش أنّ هذا الأمر استغرق كلّ هذا الوقت! والمدهش ليس نجاح تلك الأجهزة في اختراق ترتيبات صدّام الأمنية، بحيث تمكنت أخيراً من العثور على خيط يقود إليه، بل المدهش عملياً هو نجاح ذلك الدكتاتور الدموي في التخفّي طيلة تسعة أشهر تقريباً، وسط أناس ينبغي أن يكونوا، وهم أغلب الظنّ، أصحاب مصلحة كبرى في اعتقاله!
ونعرف، أخيراً، أنّ شبح صدّام حسين لم يكن السبب في مشاحنات القوى العراقية التي غطّت الإحتلال وتحالفت معه، عربية كانت أم كردية، سياسية المشارب أم مذهبية الولاءات أم قائمة على مبدأ الإرتزاق الرخيص وحده. ولهذا فإنّ خروج صدّام حسين من حفرة العنكبوت إلى الأسر الأمريكي لا يعني أن تلك القوى ستتوقف عن ممارسة صراعاتها الرخيصة وخياناتها الصغيرة وحروب تحسين مواقعها التافهة أصلاً، متناسية أيّ وكلّ واجب ملقى علي عاتقها تجاه حقوق المواطن العراقي في الاستقلال والخبز والحرية والكرامة.
وهذه مناسبة لكي نقول، مرّة أخرى، إنّ الأوحال الحقيقية في المستنقع العراقي لا تبدأ من حيث يبدأ الشطر العسكري في برنامج الغزو الأمريكي، أو من اكتمال الحجة الأمريكية في تغليب الحرب على الدبلوماسية، بل من حيث تنتهي أعمال هذَين الشطرين تحديداً، حين يتوجب على الغازي مواجهة الحقائق الأخرى ــ الصلدة الصعبة العسيرة، الأشدّ إثقالاً للكاهل من حقائق القتال ــ ومعالجتها واحدة تلو الأخرى.
ونعرف ــ من تجارب الحروب كافّة، وحروب الولايات المتحدة خصوصاً وتحديداً ــ أنّ كسب الحرب لا يعني البتة كسب السلام: السلام بمعناه الأعرض المركّب، الذي يتجاوز وقف إطلاق النار وانتهاء الأعمال العسكرية، والذي لا يعني ما هو أقلّ من استثمار نتائج الحرب لصالح القوّة الظافرة، في المستويات الجيو ـ سياسية والإقتصادية في البدء، ثمّ في المستويات الأخرى التالية، المباشرة وغير المباشرة. ونتذكّر هنا أنّ السلام العراقي الذي تسعى إليه الولايات المتحدة متعدد الأوجه نظرياً، ولكنّه عملياً يخصّ الملفات الثلاثة التالية: النفط العراقي، الإستيطان العسكري، التحويلات السياسة التي اصطُلح على تسميتها بـ "تغيير النظام".
ففي مسعى السيطرة على النفط العراقي، الإحتياطيّ الأوّل في العالم كما تقول أحدث التقديرات، لا تكتفي الولايات المتحدة بهدف واحد يتمثل في تأمين حاجاتها إلى لطاقة فحسب، بل تريد إكمال طوق السيطرة غير المباشرة على نفط السعودية والكويت، والإمساك تالياً بورقة ضغط اقتصادية ـ سياسية كونية حاسمة يطلق عليها جوستن بودر تسمية "الفيتو النفطي". وفي الترجمة العملية لأبجدية هذه السيطرة، يصبح في وسع الولايات المتحدة أن تضغط على اقتصاديات دول منافسة (مثل أوروبا واليابان)، أو مرشحة للمنافسة مستقبلاً (مثل الصين وروسيا والهند).
وفي ملفّ الإستيطان العسكري تدرك الولايات المتحدة أنها بحاجة إلى التواجد العسكري، الدائم والكثيف والمستقرّ، في منطقة الشرق الأوسط. لكن واشنطن تدرك، من جانب آخر، أنّ استمرار تواجدها الكثيف في السعودية والكويت تحوّل إلى عبء سياسي على آل سعود وآل الصباح، وبات بمثابة حاضنة خصبة لتفريخ مشاعر العداء للولايات المتحدة، واستيلاد المزيد من نماذج أسامة بن لادن، وتعريض أمن النظامين الحاكمين لمخاطر مباشرة. وهكذا فإنّ قرار غزو العراق واحتلاله يعني، أيضاً، الاستيطان فيه عسكرياً إلى أمد طويل وربما أبدي (في حسابات واشنطن على الأقلّ)، وتخفيف العبء عن دول الخليج، وحراسة الدولة العبرية عن بُعد، وإحكام القبضة على المنطقة بأسرها عملياً.
ويبقى الملفّ السياسي، وفي بعض حيثياته العجيبة المتناقضة ما يحلم به رجالات الرئيس (من أصحاب "مشروع قرن أمريكي جديد"، ومن أمثال بول ولفوفيتز خصوصاً) حول تحويل العراق إلى "دولة ـ أمثولة"، حاملة للقِيَم الأمريكية (في طبعتها الرجعية أو النيو ـ محافظة)، وناقلة لـ "فيروس الديمقراطية" إلى أربع رياح الشرق الأوسط. والأسابيع القليلة الماضية دفعت بهذا النقاش إلى الكواليس بعض الشيء، ليس لأنّ أصحابه فقدوا الإيمان به (عن حسن نيّة أو سوء طوية)، بل لأنّ الأولوية القصوى في أشغال الإدارة كانت ممنوحة لاعتبارات الأرض، هناك في العراق المحتلّ، حيث الأوجاع اليومية كفيلة بتقويض حلم سيّد البيت الأبيض في ولاية جديدة.
وحتى تتكشّف الأسرار وتتضح الحقائق، ماذا لو كان استسلام صدّام حسين هو آخر ما بقي في جعبته من استيهامات عُظامية، أي قناعته بأنه عن طريق البقاء حيّاً يستطيع تسديد ضربة الإنتقام الأخيرة، وربما الوحيدة، للرئيس الأمريكي؟ المنطق يقول إنّ بقاء صدّام حسين تحت الأرض، أو العثور عليه ميتاً أو قتيلاً، سوف يبقي ملفّ أسلحة الدمار الشامل مغلقاً غامضاً مسيّجاً بالأسرار والألغاز، جرياً على الفرضية التي تقول إنّ الرئيس العراقي السابق هو وحده خاتم تلك الأسرار والعالِم بتفاصيلها كاملة غير منقوصة. ولكن... هاهو صدّام حسين على قيد الحياة، وها إنه يقول، كلّ يوم منذ إلقاء القبض عليه، إنه لا توجد في العراق أسلحة دمار شامل، وأنّ زعم وجودها كان ذريعة جورج بوش وتوني بلير لشنّ الحرب على العراق.
وفي عام 1999 اتخذت السيدة لويز أربور (رئيسة هيئة الإدعاء العام لمحكمة الدولية لجرائم الحرب في لاهاي، وسلف الرئيسة الحالية كارلا ديل بونتي)، قراراً تاريخياً بإحالة الزعيم الصربي سلوبودان ميلوسيفيتش إلى المحكمة. الفضيلة الكبرى لذلك القرار، ولعلها اليوم الفضيلة الوحيدة لتسليم ميلوسيفيتس ومحاكمته، كانت تتمثّل في أنّ هيئة دولية واحدة على الأقل ارتأت التمييز بين الحاكم والمحكوم في تصنيف سلّم المسؤولية، وفصّلت المقال الحقوقي بين الصرب كشعب وأمّة، وبين ميلوسيفيتش كحاكم وفرد.
اليوم ثمة منظمات معنيّة بحقوق الإنسان، حقوق المحكوم في عبارة أخرى، فضلاً عن هيئات دولية رسمية مثل الصليب الأحمر، تطالب بخضوع صدّام حسين لمحاكمة متحضّرة متمدّنة، بالنظر إلى أنّ الذين أوقعوه في الأسر ليسوا من نسل البرابرة، وهم أبناء واحدة من أعرق الديمقراطيات الغربية. ولا يخفى أنّ تلك المنظمات تسعى، في الآن ذاته، إلى أهداف أخرى أبعد من مجرّد تجريم صدّام، وتريد تأثيم سلسلة الأنساق السياسية البراغماتية التي هيمنت وما تزال على العلاقات الدولية، ومكّنت حاكماً مثل صدّام حسين من حكم العراق بالحديد والنار، والتمتّع في الآن ذاته برضا ومساندة وغزل الديمقراطيات الغربية العريقة.
وفي هذا أيضاً بعض الإنتقام للدكتاتور، رغم أنفه هذه المرّة!