في الوسط الأدبي مفارقات كثيرة، ليس أقلها غرابة تحول الأدباء العرب إلى جماعات وتكتلات لم تتشكل على خلفية تباينات ثقافية أو أسلوبية، بل لأغراض نفعية شخصية، حيث تسود تناقضات ناتجة عن تضارب المنافع، ومجاملات على حساب الحقيقة وتغييباً لروح النقد الخلاق وأخلاقيات الثقافة ذاتـها !! والمشكلة الكبيرة حقاً هي أن الأجيال الجديدة من الأدباء صارت تعتقد أن هذا الشذوذ هو القاعدة !! أما أولئك الذي يميزون بين الأشياء، فهم يؤثرون الصمت بسبب الشعور باللاجدوى وربما لحسابات أخرى، لذلك أصبحت لدينا ( ظواهر ) و ( مسلمات ) وصفات وألقاب أدبية لا أحد يسأل عن مصداقيتها وحقيقتها وكيفية تشكلها، ما يعني مزيداً من الأضرار والشوائب المعرفية التي ستظل تُثقل تطور الأدب العربي الجديد. فقد استطاع بعض الأدباء المعروفين تكريس عادات أدبية سيئة جداً وأسوأ ما فيها هي أنـها حلت محل ما عداها وأصبحت سائدة. وهذا ما يعطي مبرراً وضرورة للخوض في بعض هذه الظواهر عبر تفاصيل كثيرة نفضل الدخول إليها مباشرة: قبل فترة أعطاني صديق مقالاً مصوراً (فوتو كوبـي) غير موقع، طلب مني قرأته لمعرفة رأيي، فقرأت : ( الشعراء إزاء الحرية ثلاثة: واحد يولد مقيداً ليغدو باختياره حراً، مثل أبي العلاء المعري الذي أحسن الإفلات من سجونه الثلاثة
أراني في الثلاثة من سجوني فلا تسأل عن النبأ النبيث
لفقدي ناظري ولزوم بيتي وكون النفس في الجسد الخبيث
وواحد يولد حراً ليغدو باختياره مقيداً، مثل أبي الطيب المتنبي حين يمدح ( كافوراً ) ما، أو مثل حسان بن ثابت بعد دخوله الإسلام. وواحد يولد حراً ليظل حراً، مثل أمرىء القيس، شاعرنا الأول، وملكنا الضليل، وحامل لوائنا إلى النار .))
فأجبته: أن كلاماً كهذا لا يدل على السطحية فقط، بل ويكشف عن غباء الجانب المهيمن على ثقافتنا المعاصرة، أقصد الجانب الأدبي أو ما تمكن تسميته ب( ثقافة ) الشعراء الذين ساهم بعضهم في تكريس مقولات غاية في الغرابة، حيث يعتقدون أن الثقافة والحرية والجمال لم تُخلق إلا من أجل الشاعر، وهي لا تقاس إلا على مقاسات هذا الشاعر أو ذاك !! متغافلين عن حقائق كثيرة منها مثلاً: إذا كان في الماضي شعراء كبار ومؤثرون حقاً، فذلك لأن تلك الحقب ألقت بالمسؤولية الثقافية على عاتق الشاعر وحده. أما الآن فقد اختلف الأمر تماماً، إذ انتقلت الشعرية لأنواع أخرى مع تعدد شخصية المثقف، فأفلام قليلة لصلاح أبو سيف ومحمد ملص وداوود عبد السيد وعبد اللطيف عبد الحميد وأمثالهم هي الأكثر شعرية وأهمية وتأثيراً من معظم شعرنا المعاصر، بل أن مجموعة قصص مثل (بـحيرة المساء ) لإبراهيم أصلان ظلت تحتفظ بشعريتها وشفافيتها وتأثيرها الوجداني أكثر من غالبية المجموعات الشعرية التي صدرت منذ تاريخ صدورها قبل أكثر من ثلاثين سنة، ناهيك عن إنجازات الثقافة العربية الإبداعية والفكرية في شتى المجالات .. وإذا عدنا لمناقشة الآراء الواردة في الفقرة السالفة، نجدها غاية في السذاجة، فمع احترامنا للمعري، فإن مقولة مثل ( كون النفس في الجسد الخبيث ) لم تعد مقنعة لا إنسانياً ولا علمياً. أما الاعتراض على المتنبي، فهو وارد لكنه لا يكمن في مدحه لكافور ما، لأن مسألة مدح السلاطين لم يوجدها المتنبي شخصياً، بل هي ظاهرة سائدة في عصره، وهي نتيجة، في حين يجب أن يكون الاعتراض على المسببات، أي على العوامل التي أنتجت ثقافة المديح. وهذه المسببات مركبة من أبعاد سياسية واجتماعية عديدة، يكمن أهمها في كون المديح يهدف أصلاً إلى كسب الحماية المادية والمعنوية من السلطان في عصور مضطربة وكثيرة التقلبات، ثقافتها تعتمد على القدر والخوف من المجهول، فثقافة المديح موجودة سواء كان المتنبي موجوداً أم لا . وليس بوسع المتنبي أو سواه أن يغير من هذا الواقع رغم القلق الرهيب الذي تنطوي عليه أشعاره من هذا الواقع بالذات ورغم اصطدامه العنيف حتى بالملوك والأمراء الذين مدحهم وفي مقدمتهم كافور نفسه، حيث وصل هجاء المتنبي له حد العنصرية ( لا تشتري العبد إلا والعصا معه ... الخ ) وهي نقطة ضعف أخلاقية في ثقافته. وإذا كان ثمة اعتراضات أخرى على ثقافة المتنبي فإن لها مداخل عديدة منها تمجيده ل( القوة – السلطة ) وما عاناه من صراع داخلي بين خوفه منها ورغبته بامتلاكها !! أما الاعتراض على حسان بن ثابت بعد دخوله الإسلام فهو لا يقل خفّة ومراهقة فكرية عن مقولة ( أمرؤ القيس شاعرنا الأول وحامل لوائنا إلى النار ) !! ولو كانت هناك ثقافة جادة لدى صاحب الكلام الآنف لاستطاع ملاحظة حقيقة كبيرة وهي أن النبي محمد كظاهرة روحية وثقافية نقلت العرب من عصر العبودية والتشتت إلى عصر أكثر إنسانية وسيادة وتمركزاً ،لم يؤثر على حسان بن ثابت فقط بل أثر على أهم الظواهر الثقافية في عصره وفي العصور اللاحقة. فلو تمرد حسان بن ثابت في لحظة صعود النبي محمد، أي في لحظة حراك العرب وتجدد حياتـهم، لكان تمرده من أكثر أنواع التمرد بؤساً وانزواءً، فذلك الصعود والحراك كانا نتاج ضرورة ولا يتمرد على الضرورة إلا الحمقى.
أردت أن أكمل لكن صديقي قال : لو عرفتَ بأن كاتب المقال هو سعدي يوسف، فماذا تقول ؟! لن أقول شيئاً، أجبته . ولن أستغرب بل هذا أمر متوقع، وسواء كان سعدي أو سواه، فلن أذيع جديداً إذا قلت أن غالبية الشعراء المحدثين منذ السياب حتى الآن، اكتفوا بإنجازات شعرية متواضعة إذا ما قيست بالشعر العربي القديم أو الأوربي الحديث، دون منجزات فكرية أو نقدية تدل على ثقافة يُعتد بـها. وعلى النقيض من تهويلهم صحفياً، فإن بساطة شعرائنا لم تأت اعتباطاً بل هي مرتبطة بنسقنا الحضاري المعاصر وهو متواضع ثقافياً، ورواد الشعر العربي الحديث، كي يتواضعوا، يفترض أن يعرفوا أشياء كثيرة منها إن آباءهم حتى منتصف القرن العشرين كانوا يعالجون أسنانـهم عند الحلاق، أي إننا لم نلتحق بمعطيات الثقافة الحديثة إلا قبل عقود قليلة، وبالتالي فعلى ادعاءاتنا أن تكون متواضعة. وثمة حقيقة يجب أن لا تغيب عن البال، وهي إنه لا يمكن إنتاج شاعر كبير دون ثقافة كبيرة، وثقافة يجب أن تنتجها أجيال متتالية ومتواصلة في المجتمع المعني، بحيث يصبح الإبداع ثمرة لشجرة تورق الآن وليس لبساتين كانت مزهرة قبل ألف أو ستة آلاف سنة، وذلك لكي نكون أبناء لحظتنا الثقافية التي نساهم بخلقها نحن، فكل عصر يخلق مبدعيه وهذا لا يلغي هويتنا التاريخية، بل يعززها من حيث هو يجعلنا جديرين بالانتماء إليها عملياً لا إدعاءً .
وكمثال، حين نقرأ بأن ت. س. إليوت شاعر كبير، فإننا نستطيع توقع ذلك. لماذا ؟ لأن هذا الرجل هو أبن ثقافة غربية ذات آفاق واسعة وفاعلة، بمعنى عندما يكون هناك ظواهر راسخة في المسرح والفكر والفلسفة والرواية والموسيقى الكلاسيكية والفن التشكيلي، أي ثقافة كبيرة ومؤثرة، يصبح من المنطقي كنتيجة أن نتوقع وجود شاعر كبير اسمه ت. أس. إليوت أو سواه. وبوسعنا أن نلاحظ أيضاً أن من علامات الحداثة في الثقافة الأوربية المعاصرة أنـها استطاعت أن تتخلص من شوائب الفلكلور والخرافات التي تحسب الشاعر ساحراً أو كائناً استثنائياً .. فهل نـملك نحن العرب المعاصرين، الذين ما زلنا ننفض عن أنفسنا غبار قرون من التخلف العثماني، مثل هذه الثقافة المتنوعة والمؤثرة كي يصبح لدينا معها كل هذا العدد من الشعراء ( الكبار ) وخلال نصف قرن فقط من تجربة الشعر العربي الحديث !! لكن الشعراء العرب صدقوا وروجوا لهذه الأوهام لينصّبوا أنفسهم سادة ثقافيين لعالمنا العربي مستغلين ظروف التخلف والأمية الثقافية لدرجة جعلت بعضهم يستغرق في تصريحاته الدونكيخوتية ما دام لا يجد من يحاوره على ما يقول !!
ومن المفارقات اللافتة، إن ( النادي العربي ) في لندن حين دعا أدونيس لإقامة أمسية شعرية، وزع ورقة تعريف تقول:ADONIS is one of the greatest figures in 20th century Arab poetry.) وترجمتها ( أدونيس واحد من أعظم شخصيات الشعر العربي في القرن العشرين) ومعنى هذا أن لدينا العديد من الشعراء العظام وأدونيس هو واحد من أعظمهم! ومع احترامنا لأدونيس وسواه، فإن أمراً كهذا يثير أسئلة عديدة، منها : إلى أي مدى تبدو ادعاءات من هذا النوع منسجمة مع الحقيقة؟! ثم من أعطى نادياً اجتماعياً كل هذه الصلاحيات النقدية لكي يتحفنا بمثل هذه التقييمات ؟! ناهيك عن أن قيمة أدونيس الشعرية وتأثيره الثقافي أخذا يهبطان عقداً بعد عقد حيث لم تعد لتنظيراته أو نصوصه تلك الأهمية التي كانت له في السابق. ولو قرأ هذا الإعلان مستعرب بريطاني له علاقة بالأدب وجماليات الشعر وأراد أن يتأكد مما ورد فيه، فأين سيجد كل هذا الشعر العربي العظيم في القرن العشرين ؟! وماذا عساه أن يقول عن مفاهيمنا ووعينا لأنفسنا ؟ ثم من هو صاحب المصلحة في ترويج هذه الادعاءات والـمبالغات التي تغش وعينا لأنفسنا وتسيء لسمعتنا أمام الآخرين ؟!
إن التفسير النفسي لمثل هذه الظواهر، هو إننا نحن العرب المعاصرين نعاني من أزمة سيكولوجية كبيرة، هي أزمة البحث عن ( بطل )، فنحن أمة لها تاريخ يُعتد به، سبق لـها في العصور الوسطى أن تصدرت العالم حضارياً وثقافياً، لكننا الآن في حالة لا نحسد عليها، فقد تركتنا ظروف القهر والتخلف الموروثة والمفروضة علينا تاريخياً، في الصفوف الأخيرة بين الأمم المعاصرة، مما خلق لدينا ما يمكن تسميته ب ( أزمة بطولة ) وافتقاد للأبطال الذين ملأوا في الماضي ذاكرتنا الجماعية بضجيج خيولهم، حيث عدنا من جديد نتكئ على ذكراهم ونـهوّل من قيمتهم كتعويض عن حالة الارتكاس الحضاري التي نعانيها الآن. وعلى هذا الأساس وبسبب تسارع تطور الأمم المتحضرة وتباطؤ تطورنا نحن، ورفضنا النفسي لإدراك الصيرورة الموضوعية لأزماتنا، فقد ارتددنا إلى المبالغات والخيال حيث أدوات صناعة الأبطال المزيفين، أبطال الانقلابات العسكرية والمؤامرات التي أسميناها ثورات وطنية وقومية،، أبطال دفّعوا شعوبـهم أثـماناً باهظة،لم يكن لهذه الشعوب أن تدفعها حتى لو حكمها عملاء مباشرون. أبطال لم ينتجوا سوى المزيد من الهزائم والفقر والإذلال والوعي الزائف ومصادرة الحريات، لكنهم أبطال تُكتب لهم قصائد المديح والأناشيد القومية ويستظل في فيئهم بعض الشعراء المعاصرين، ولا فرق هنا بين كلاسيكي ومحدث، فمن لا يحصل على بيت أو سيارة يحصل على جواز سفر ومائة ألف درهم، أو مقعد دائم في المهرجانات، وهنا يصبح النفخ والتهويل مهنة وعلى بعض الصحفيين القيام بـها. والمسألة لا تتعلق بالشعراء فقط بل والشعر نفسه، ففي عصر العلوم والتقنيات الإلكترونية ووسائل الاتصال الهائلة، عصر السينما والفنون المتنوعة ظللنا نحن العرب متشبثين بأفكارنا الفلكلورية عن شخصية الشاعر الخرافية وعن أهمية الشعر الذي لا يقرأه أحد لأن غالبيته بلا حياة ولا معنى !! والذي صارت تستعمله الأنظمة العربية كمادة إعلامية عبر مهرجاناتـها ليستمر الخدر ويصبح الكذب على الذات فضيلة!! إذ يمكن إنتاج الأبطال والنجوم بأبسط التكاليف وبأسرعها، فهذا بالنسبة للشعوب المخدوعة أسهل من تحمل المسؤوليات ومواجهة الحقائق !! هكذا سنجد تفسيراً لظواهر سلبية كثيرة، من ضمنها تشبث كثيرين وتدافعهم على (لقب شاعر) لدرجة تدعو للرثاء حقاً، إذ يتكاثر (الشعراء) كالفطر دون أن يوازي ذلك ظواهر معرفية أو نقدية مماثلة، ذلك أن تعلم كتابة ( الشعر ) هو الأسهل ومردوداته الوهمية هي الأكبر، والسؤال الدائم هو : أين هو الشعر الحقيقي الذي أنتجته كل هذه الأجيال ؟ لا جواب طبعاً. لماذا ؟ لأن الجميع ويا للغرابة متفقون على تكريس هذه الـمجانية وهذا الخطأ وهذا البؤس !!
لكن لا بد من القول أن تأملات كهذه لا تنفي وجود أدب عربي معاصر، شعراً ونثراً، جدير بالقراءة ومثير للاهتمام، دون تهويل ومبالغات من النوع الذي يناقض كل معرفة وإبداع جادين. ومن باب النقد والمراجعة، لنتساءل الآن عن ثقافة سعدي يوسف وعن حدود حريته كشاعر، فهو ممن يُطلق عليهم صحفياً لقب ( شاعر كبير ) ؟!
حين قرأ صديقي ورقة الفوتو كوبي وهي مصورة عن مقال لسعدي في ( الثقافة الجديدة - 291 ) لم يفاجئني، فقد سبق وإن قرأت كتاب سعدي ( خطوات الكنغر - دار المدى 1997 ) والكتاب يفيدنا هنا فهو يكشف مستوى ثقافة سعدي يوسف و ( نوعية ) الخبرة التي أكتسبها عبر تـجربته الأدبية المتواصلة منذ نصف قرن. إذ يقول هو عنه (الآراء المبثوثة – في الكتاب - تحمل مسؤولية النظر الجاد في ما أرود وأتابع، وأرى. والنصوص في غالبها كُتبت في أواسط التسعينات من قرننا هذا الذي يكاد يغيب. وبـهذا المعنى لا يمكن اعتبارها أصداء بعيدة) وهنا يمكن القول حين يوصف شاعر معاصر بأنه (كبير ) فلا بد له من أمرين، الأول: أن تكون لديه قصائد درامية أو ملحمية أو من النوع المركب لناحية الرؤيا والإيقاع، أي قصائد تنطوي على ( قيمة معرفية ) تميزها وتؤكد أهميتها، وهذا ما هو غير موجود عملياً في تجربة سعدي الشعرية ذات المنحى الغنائي العام. والثاني، وهو يشكل خلفية للأول، أي أن تكون لديه ثقافة معاصرة وتاريخية واسعة وعميقة. فالمبدع الكبير حقاً يبدأ من حيث انتهى الآخرون لكي يتمكن من كتابة قصائد من النوع المذكور بصفته شاعراً كبيراً.
فهل يـملك سعدي يوسف قصائد من هذا النوع ؟ المتابع لقصائده منذ 1952 يعرف ببساطة أن لا وجود لمثل تلك القصائد، وما كتبه من شعر حتى الآن يتراوح بين الغنائية الذاتية والوقائعية ذات التفاصيل اليومية، والتي كان بعضها محبباً بسبب شفافيته ورومانسيته الريفية حيث تعتمد على خفة المواضيع والإيقاعات التي تتناولها. على أنه وبعد خروجه الثاني من العراق في نـهاية السبعينات، صار يبدي رغبة واضحة في تـمدين قصائده، لكنه نادراً ما حقق ذلك بنجاح، إذ أصبح مكثراً بدون روية وبدا أحياناً وكأنه في حالة تنافس مع شعراء قصيدة النثر الجدد الذين قدموا بعض إنجازات ملحوظة، وصاروا يحتلون مساحات إعلامية متزايدة أقلقت الشعراء ( الكبار ) إذ حدثت وما تزال تجاذبات لا يُحسد عليها أحد من الطرفين. ولم يخفِ سعدي في تصريحاته ضجره من شعراء قصيدة النثر. وكنتيجة، جاء ( خطوات الكنغر ) مشابـهاً لجهده الشعري، فقد احتوى على ترجمات شعرية ومراجعات وخواطر وانطباعات سبق له أن نشرها في صحف عربية، وهي لا تخلو من كلام مستهلك على غرار ( يقال: التمني رأس مال المفلس. وقد يصح القول : التغني رأس مال المفلس ) ص109 أو (الشعر يستغرق حياة كاملة، ويحتاج إلى أكثر من حياة) ص115 والعبارة الثانية تنتمي لنوع من التهويمات حول الشعر (على خلفية كتاب صدقي إسماعيل - رامبو شاعر متشرد ) ساهمت في تشجيع كثير من الشباب على ترك الحياة العلمية والعملية للاستغراق في أوهام الشعر ومغامراته غير المحسوبة مع المزيد من التدخين وشرب الكحول باعتبار ذلك هو ربح الخسارة بالنسبة للشاعر الذي تخلى عن الدنيا ووهب حياته للشعر وحده ف(الشعر يحتاج إلى أكثر من حياة ) !! ولأن هناك من يصدّق مثل هذا الكلام البائس فقد أصبح لدينا مئات الشعراء دون أن نجد إلا القليل من الشعر. والسؤال الحقيقي هو : هل الشعر يحتاج إلى أكثر من حياة أم الحياة تحتاج إلى أكثر من الشعر ؟! خاصة بالنسبة للعربي المهموم بشعوب محاصرة بكل أنواع الأزمات والحروب .
وبعض آراء سعدي في كتابه، تثير الاستغراب فعلاً، لنأخذ قوله حول الشعراء الجدد في سلطنة عُمان ( للشعر في عُمان تاريخ مباغت. أقول هذا لأن القصيدة الجديدة وُلدت في هذه البلاد، أو انتسبت أليها، خارج المسار الطبيعي لتصور نوع أدبي ما، أي أن القصيدة الجديدة انبثقت من الرماد كالعنقاء، ولم تكن تـحولاً أو مجموعة تحولات لأصول مؤسسة في المكان .) ص128 وهذا الكلام يعني أن سعدي يعتقد بأن الشعر هو من اختصاص بعض الأقطار العربية، وأن كل قطر عربي هو جزيرة أو مكان معزول تشتغل فيه الثقافة لوحدها، وكأن كل بلد عربي له ثقافته الخاصة التي تتأسس منفردة داخله !! لذلك فهو متعجب من ( التاريخ المباغت للشعر في عُمان ) !! وكأن عُمان معزولة عن العالم العربي والثقافة العربية! بل يقول في مقال آخر حول الموضوع ذاته، ص160 ( أن القصيدة الجديدة في عُمان نبتت بجذور معلقة في الهواء، لا غائرة في الأرض، كانت القصيدة الجديدة قطيعة كاملة، قصيدة بلا تراث، سواء في الشكل أو الموضوع، أو زاوية الرؤية. بل إن اللقطات الذكية التي تحتفي بـها هذه القصيدة كانت من بقاع أخرى غير عُمان في الغالب، ...، النص الشعري يظل يبحث عن أرض مشروعة، مُشرَعة. وفي الحالة العُمانية تعترض البحث صعوبة واضحة، إذ لا ميراث قريباً تستند إليه القصيدة - السياب مثلاً بالنسبة لقصيدة العراق - ...) ومصدر الاستغراب في آراء من هذا المستوى، هو في عدم موضوعيتها وافتعالها لإشكالية لا وجود لـها في الواقع، فالسياب على الصعيد الثقافي لم يكن عراقياً صرفاً، فهو لا ينتمي للزهاوي أو الرصافي أو الجواهري بقدر انتمائه للتجربتين الشعريتين في مصر وبلاد الشام في النصف الأول من القرن العشرين، فهما الأوضح في بوادر التجديد غداة ظهور السياب، وهذه مسألة طبيعية في منشأ وتكوّن الأدب العربي. ومنطقياً فإن السياب نفسه يصبح ميراثاً قريباً للأصوات الجديدة في الشعر العربي في مختلف الأقطار ومنها عُمان طبعاً، وإلا فإن منطق سعدي يوسف اللاواقعي هذا سيخلق عقدة عند الشعراء العُمانيين الجدد لا مبرر ولا معنى لها سوى خفـّة سعدي يوسف الثقافية، وكأن العمانيين لا ينتمون للثقافة العربية ولا ذاكرة وجدانية وثقافية واحدة تربطهم بالعرب الآخرين، ولم يدرسوا في عواصم عربية وعالمية عديدة، ولم يسافروا خارج بلادهم ليوسعوا من مداركهم وافقهم الإنساني والثقافي مثل كل الأدباء ، وكأنـهم عثروا على الشعر صدفة في الطريق !! إن استغراب سعدي من وجود شعر جديد في عُمان، لا يدل إلا على الضعف في إنتاج أفكار منطقية حول ظواهر الحياة الثقافية، في حين إن البديهيات النقدية تشير إلى كون قيمة النص تكمن في داخله وليس بافتراضات من خارجه، فإذا كان غنياً وحيوياً فهذا يعني بالضرورة إنه ينتمي لتجربة غنية وحيوية، أي إن كاتب النص ينتمي لثقافة من النوع نفسه، وإذا كان كاتب هذا النص عُمانياً أو ليبياً فهذا يعني أن لديه قدرة شعورية وفكرية على استقبال أفضل ما في الثقافة العربية، أما مسألة عدم وجود تراث أدبي مـميز في بلده فهي تحتسب لصالحه، لأن وجود السياب في العراق لا يعني إن أي شاعر عراقي هو أفضل من أي شاعر عُماني، ووجود تراث روائي وقصصي في مصر لم يمنع من وجود رواية ليبية مـميزة .. الخ . لكن اعتباطية سعدي يوسف النقدية هذه لا تقتصر على ما ورد في كتابه هذا، فهو بعد قليل سيلغي حتى الشعراء العراقيين أنفسهم!! فبعد أن أصبح غالبية شعراء العراق في المنافي والـمغتربات، ورغم تنوع اللوحة الشعرية والأدبية التي لا يمكن بأية حال إنكار أهمية جوانب منها، غير أن سعدي وفي مقابلة في ( القدس العربي 20 – 2 – 2001 ) ووفقاً لتحليلات من النوع السالف، لا يجد سوى تعابير مثل ( الثقافة العراقية في تدهور شامل ولا فرق بين ما يكتب في الداخل أو في السويد ) !! وعندما يسأله المحاور ( ولكن ألا توجد إضاءات في هذا الشعر أو استثناءات ؟ ) يجيبه : (يوجد كذب كبير لا يصدق ) !!
إن ( خطوات الكنغر ) يتراوح في الواقع بين ترجمات معتادة لبعض الشعراء المعروفين، وانطباعات ذات مستوى بسيط قد يرفض مسؤول صفحة ثقافية نشرها لو كانت لأسم غير معروف، توّجها بآرائه تلك حول الشعر العُماني. وإذا كانت كل كتابة تكشف عن نوعية ثقافة كاتبها فان قارئ ( خطوات الكنغر ) يلاحظ افتقار الكتاب لأية علاقة جادة بالمعرفة وخلوه من المفاهيم الجمالية المعاصرة، أو إنجازات العلوم الإنسانية الحديثة كالانتربولوجيا وعلم التحليل النفسي أو اللسانيات .. الخ، فالثقافة الحيوية الجادة لا بد لها من أن تظهر في لغة الكاتب، في مفرداته وطريقة معالجته للظواهر والأحداث. يقول سعدي في ص116 :( أحياناً، يقولون لي : ألم تتعب ؟ ما الذي أنت واجده في عزلتك، التي تكاد تكون منقطعة للشعر وحده ؟ ليس من جواب لدي ). وربما لا يعرف سعدي يوسف أنه بـهذا الاعتراف كشف عن نقطة ضعف غالبية الشعراء العرب المعاصرين ومن مختلف الأجيال، إذ تقتصر ثقافتهم على الجانب الأدبي وربما على القراءات الشعرية في الغالب، الأمر الذي يقودهم إلى ( نظرة شعرية ) وليست معرفية للثقافة والأدب والحياة عموماً. الحياة بصفتها أصل الثقافة وجوهرها لذلك تأتي قصائدهم في الغالب فقيرة من حيث توغلها في تفاصيل التجربة الإنسانية المعاشة ومحدودة الرؤى من حيث قيمتها المعرفية، ولذلك يندر أن تجد شاعراً تمتلك تجربته الشعرية والثقافية خطاً بيانياً متصاعداً .
***********************************
نقد الثقافة العراقية في سياقها العربي ( 2- 2 ) :ثقافة سعدي يوسف نموذجاً !!
أما مقال سعدي يوسف في مجلة ( المدى ) عدد 23 سنة 99 حول رحيل المرحوم هادي العلوي، والمعنون ( الولي ) فهو بدوره يكشف الفقر المنهجي في ثقافته، يبدأ المقال ( هل كان يوم الأحد، 26 أيلول 1998 بداية ولاية هادي العلوي ؟ ) ويختمه بقوله ( ولاية هادي العلوي قائمة بيننا .. وإنا لذكره لحافظون )لنلاحظ هذه اللهجة الروزخونية (الـمُلائية) المثيرة للاستغراب حقاً، سيما وهي تأتي في وقت أصبحت فيه بعض الحركات الإسلامية تؤمن بالتعددية والديمقراطية وترتقي بمفردات خطابـها إلى ما هو حيوي ودنيوي بما يتلاءم مع إدراكها لمسؤولياتها الاجتماعية، في حين يستطرد سعدي ( إن كان الولي في عربيتنا يعني القيّم على مصالح الناس، وراعي من لا راعي لهم من يتامى ومساكين وغرباء، فما هادي العلوي إلا من الأمر في الصميم ) لاحظوا هذا المطب الغريب حقاً، ففي عصر دولة المؤسسات وحقوق الإنسان، يريد الشاعر الحداثوي أن يرى الناس يتامى ومساكين، منتظرين وليـّاً صالحاً ليعطف عليهم ويحميهم من غائلة الحرمان؟! ألا نحتاج نحن العراقيين حقاً لمن يحمينا من مغبة هذه الثقافة ومشاكلها ؟ وإذا كان من يطري موقفاً ما إنـما يدعو الآخرين إليه أيضاً، فلنقرأ ( مما تعلمه العلوي من مشايـخه، وعاشه ممارسة : المعارضة والحرمان والسفر والغربة. بل لقد أمتحن إرادته امتحاناً. يقول - أي العلوي - جربتُ ذلك، فقد قللت أكلي وقلصت من أصنافه طيلة عدد من السنين مع عدم أكل اللحم فبدأت أعراض سوء التغذية تظهر على بدني وحدث تهرّؤ في الشفتين ففزعت إلى طبيبي العالـِم عبد الستار الرفاعي والى أخي الكبير كاظم المختص بالصيدلانيات، فاتفق كلاهما على أن ذلك ناتج عن سوء التغذية، ووضعا لي برنامج غذاء ضمن الخيار النباتي فزالت تلك الأعراض وتحسنت صحتي) وهكذا وبناء على إعجاب سعدي بـهذا المنطق، يصبح على كلٍّ منا أن يذهب لشيخه ليتعلم منه المعارضة والحرمان والسفر والغربة. أما معاقبة هادي العلوي لنفسه بالتقشف في الطعام فيسميها سعدي (امتحان الإرادة لدى هادي العلوي) في حين يستطيع أي مثقف أن يكتشف بأن ما فعله العلوي - مع كل احترامي له كإنسان وباحث له مكانته المعروفة - لم يكن إلا مازوشية واضحة لها علاقة بوساوس طفلية مصاحبة لعقدة شعور بالذنب لأسباب خاصة به، فهو كأي إنسان آخر عرضة للمطبات النفسية والشعورية حتى لو كان عبقرياً، أما الإعجاب بتقشف هادي العلوي وطريقته في الحياة فهذه مسألة شخصية وليست قضية ثقافية ليتم تعميمها، بل إن تجربة العلوي السياسية لا يُعتد بـها من الناحية الثقافية، سواء كانت تجربته الشيوعية المتقلبة بين ( اللجنة المركزية ) وبين ( القيادة المركزية ) حيث عارض بل وعرَّضَ بأناس عديدين لـمجرد أن لديهم ملاحظات على سياسة الشيوعيين، وذلك في (مجلة فتح ) الفلسطينية منتصف الثمانينات، ووصفهم بكلمات يُفترض أن لا تخطر على بال مثقف مثله، علماً أنه كان ولوقت قريب يتهم هذا الحزب باليمينية التحريفية والتبعية ل( الإمبريالية السوفييتية ) !! أما التنظيم الذي أسسه في أعوامه الأخيرة، وهو ( الهيئة المشاعية العليا للعراق ) فهو مشروع خيالي لا ينفع ولا يضر في أفضل وصف.
وفي نفس عددها 23 نشرت ( المدى ) آخر مقال للعلوي وهو (الجواهري معلّم الوطنية) وفيه ( بتأثير نشأة الجواهري في أجواء القتال ضد الجيش البريطاني وفي عام الثورة على الاحتلال، اتسمت حلوله للقضايا الوطنية بالعنف المسلح، وكان في ذلك متقدماً على الحزب الشيوعي الذي تعددت لديه أساليب النضال وكان العنف المسلح خياراً أخيراً أو هامشياً، والحزب مؤسسة سياسية والجواهري بندقية خالصة لا تفقه للسياسة معنى، وهو كسياسي قد لا يقل أمية عن أي مواطن بسيط، وكانت هذه من مزاياه، فلو تعمق في علم السياسة لكتب لنا شعراً من طراز ما يكتبه تلامذة القانون الدولي ومريدو الشرعية الدولية وفرسان الأمم المتحدة من مثقفينا الأكثر حداثة ) ويضيف ( وقد سخر الجواهري من الحلول السلمية التي يسميها أنصاف حلول، ومن السياسيين الذين يجمعون بين اللين والشدة مع العدو، فيكون جانب منهم مواعاً كالزبدة وجانب أصم كالصخرة. والجواهري مع الصخرة لا مع الزبدة ) وهكذا فالشاعر لكي يكون وطنياً عليه - وفق منطق العلوي - أن يكون أمّياً في السياسة لكي تدفعه الغريزة فقط للقتال والقتال وحده، لأن أي حلول أخرى هي حلول مائعة أو لا وطنية، وهكذا يريد العلوي تكريس الأمية وتمجيدها إلى جانب العنف باعتباره الخيار الوحيد الأمثل، وينصّب المرحوم الجواهري كمعلم لهذه الوطنية، فالناس قُصّر بحاجة لمعلم وأب دائماً !! وهذه هي مدامك ثقافة الاستبداد والوصاية، الجمهور قاصر ولا بد له من معلم، والمعلم هو الجواهري وامتيازه هو كونه شاعراً وأميّـاً في السياسة، هذه هي تعاليم ( الولي ) ووصاياه، علماً أن الجميع يعرف بأن الجواهري شاعر مداح، وهو لا يُخفي ذلك ولا يخجل منه فهو أبن الثقافة العباسية لغة وتصورات، وهي ثقافة المدح والتكسب، وفي العراق كان يمدح الشهيد بقصيدة والجلاد قاتل الشهيد بقصيدة أخرى !! ولا يلغي من أهمية هذه الحقائق ما إذا كان الجواهري شاعراً كبيراً أم لا. لكن لا أحد يشير لهذه التناقضات !! ف( الناس تتجنب خصومة الشعراء )!! حسب الهرطقة العربية القديمة، ومثل هذه التجاذبات تشكل في الواقع خلفية سعدي الثقافية والسياسية التي أعتمدها في قصيدتـه الـمنشورة في (الحياة 2- 2 -000 2) والتي ينهال فيها على العراقيين في منافيهم بسيل من الشتائم في سابقة لم يجرؤ عليها أحد لا ضد العراقيين ولا سواهم، إذ أن فعلاً كهذا هو في واقع الحال يجمع العنصرية إلى جانب الاستخفاف. وبالنسبة لسعدي فالأمر أيضاً يدل على رغبة صاحبه بجلد ذاته، وهي مازوشية لا تخفي نفسها، ولا تفسير آخر لها سوى كونها نرجسية مقترنة بالشعور بالفشل، لم يعد بالإمكان إخفاء رائحتها. فهو يدين العراقيين باعتبارهم ( زمراً ثقالاً أو فرادى، مثلما يمضي العراقيون، يمضي في متاهة لندن الصغرى العراقيون، لم يتصدقوا حتى بومضة دمعة أو شمعة ... لم يصدقوا نبضاتـهم قولاً، كأنـهم جواميس القيامة. هل أقول لهم كذبتم ؟ لم تعودوا مثلما كنتم عماليق القرى، يا أخوتـي : أنتم هنا الغرباء والبؤساء ، أيتام بـمأدبة مسخمة، وكيس قمامة في أسفل البرميل .. كالأحياء كالثملين بالماء .. السفينة لم تعد حتى خطوط سفينة، لكنهم يطفون منتفخي الوجوه على مرايانا، ثقالاً في الصباح، ومثقلين بما يُخدِّر في المساء ...
لمن إذاً نمضي ؟ وماذا نرتجي في لندن الصغرى وفي قنوات هولندا وفي ثلج السويد .. الخ )
إن الموضوع الرديء، اللاإنساني لا يُنتج سوى قصائد رديئة لغةً وإيقاعاً على غراره، فالقصيدة ككل لا تحوي سوى كلاماً عادياً واستعارات رخيصة هدفها الشتم والاستفزاز، معتمدة على وعي فلكلوري لا يزال يعيش في أوهام القرية وعفاريتها (لم تعودوا مثلما كنتم عماليق القرى) فهو يفتش عن عماليق ولا يجدهم بين المنفيين فتنجرح مشاعره وتئن روحه حنيناً إلى الماضي - القرية !! فتأتي الاستعارة مثقلة بالسذاجة، لأن القرية العربية في العراق وغيره، كمكانٍ مزرٍ، هي وبسبب بؤسها صارت حاضنة فلكلورية لإنتاج خرافات ( العماليق ) و( الأبطال ) الذين ينتظرهم الناس بفارغ الصبر لكي يعيدوا العدالة إلى الأرض !! وهم يأتون عادة في حكايا العجائز لأحفادهن آخر الليل. وهكذا يـمني الشاعر نفسه أن يكون الطفل الذي يقول ببراءته ما لم يتجرأ على قوله أحد، غير أن قصيدته بـما انطوت عليه من ركاكة شكلاً وإساءة مضموناً كانت نتاج شيخوخة منحرفة المزاج وهي لا تذكرني إلا بمقولة يوكيو مشيما ( ليس هنالك أسوأ من البراءة المتعفنة ) .
ولكن لنتساءل : من هو سعدي يوسف وما هي مصداقية مواقفه السياسية ليمنح نفسه حق الإساءة للآخرين عبر توهم حق الوصاية عليهم ، أي آخرين ناهيك عن كونهم عراقيين شُردوا من وطنهم واغتصبت حقوقهم وأجسادهم والكثيرون منهم يحملون من جروح الانتهاك والتعذيب ما لا يمكن وصفه. فهم واقعاً ضحايا تراجيديون، وكثيرون منهم أبطال حقيقيون ساهموا في انتفاضة آذار المجيدة 1991 كثوار دافعوا عن كرامتهم ووجودهم بعد أن تخلت عنهم الأحزاب التاريخية الفاشلة، وكان حلم الخلاص من جحيم السلطة الذي حققوه بدمائهم وشجاعتهم الفائقة وأستمر لبضعة أيام عظيمة حقاً كان من الناحية الإنسانية والمعنوية أهم من أي شعر أو أدب حتى لو كان كبيراً فعلاً لا افتراضاً، فالإنسان يبقى أهم من أي نص دائماً. وفي جميع الأحوال فان على المرء أن يخجل من نفسه ألف مرة قبل أن يفكر بالإساءة لأناس هم ضحايا، دون مبرر أو شعور بالمسؤولية. يسيء للعراقيين المنفيين، دون أن يسمي أو يشير لجهة أو فئة تستحق الإدانة، ودون أن يمتلك شجاعة الشاعر العربي القديم الذي كان يهجو قادة وملوكاً على طريقته القديمة تلك، مسمياً الأشياء بأسمائها حتى لا يلتبس الأمر على أحد، علماً بان الهجاء يأتي عادة بسبب عداوة، في حين أن إساءة سعدي جاءت دون سبب ظاهر، إذ أن العراقيين في لندن وغيرها من عواصم العالم، رحبوا واحتفوا به كما لم يفعلوا مع أي شاعر آخر !! وهذا ما قصدته بالنرجسية الشائخة التي لم تعد تخفي رائحتها.
ولكي نفهم خلفيات نوازعه هذه، نستطيع أن نشير إلى كونه أديباً ينتمي لحزب شيوعي ستاليني تربى ونشأ وعيه منذ البداية في أجواء هذا الحزب الذي يعتقد كبقية الأحزاب الثورية، أنه الأكثر وطنية وتقدمية ويملك الحقيقة المطلقة، وقد انتقل هذا الغرور لبعض أعضائه، علماً أن هذا الحزب رغم تاريخه الوطني وريادته الثقافية في فترات سابقة، فقد اقترن تاريخه أيضاً بأخطاء وهزائم عديدة ومعروفة. وفي منتصف السبعينات حين كان متحالفاً مع النظام الدكتاتوري السابق، كان سعدي يعمل في ( طريق الشعب ) كأحد كوادر الجريدة ومحرر صفحتها الثقافية، وآنذاك ارتكبت الجريدة خطيئة حقوقية بالمعنيين الثقافي والسياسي، إذ سمت انقلاب 17تموز 1968 الذي دفع العراقيون أثماناً باهظة بسببه، سمته بالتدريج ( تغييراً ثورياً ) ومن ثم ( ثورة وطنية ) !! وذلك عبر سطور افتتاحياتـها وتحت أنظار سعدي وعلمه هو وسواه من محرري الجريدة دون اعتراض من أحد، ما ساهم بإعطاء السلطة غطاءً وطنياً للإيغال في اضطهاد العراقيين ومصادرة حقوقهم وتشريدهم !! ليستقبلهم سعدي يوسف في منافيهم بـهذه الشتائم المشينة دون أن يسأل ضميره الثقافي لماذا ظل صامتاً ومتواطئاً حين أهينت اللغة على صفحات جريدته، وأهينت الحقيقة داخل اللغة وخارجها عبر تحويل انقلاب مشبوه إلى ثورة وطنية !! فأين كان ضميرك الثقافي في تلك الفترة ؟! وفي المنافي هل امتلكت جرأة الاعتراض على بعض أصدقائـك من الشعراء العرب الـذين تعوّدوا على مهرجانات السلطة والتغزل ب( قمر بغداد الليموني وبوزير الإعلام بصفته وزيرا للشعراء )!! هل أخبرتهم أن تلك المهرجانات مقامة على جثث الضحايا ؟! أم أن مصالحك الذاتية حالت دون ذلك ؟! وبتراكم هذه الأخطاء والتناقضات يصبح التعريض بالضحايا أقرب للشخصية السادومازوشية حيث يتساوى الفاشستي بالستاليني عندما يتشابـهون في الشعور بالذعر من الآخرين والشعور بالهزيمة أمام حقائق الحياة التي ترفض نزعة التسلط وثقافة التسلط.
لقد انـهارت التجربة الشيوعية في العالم بأسره وعم الشعور بالفشل مشاعر الكثير من الشيوعيين، هذه حقيقة واقعة وليست وجهة نظر، وخاصة بعض الأدباء الذين عاشوا ممتلـئين لأكثر من نصف قرن بمزاعم تاريخية وإنسانية غالباً ما ينكشف بؤسها وضحالة الوعي الذي يقف وراءها، فيصبح الشاعر نداباً دون أن يدري ربما ( نحن نبكي طلقة حتى ولو صدئت) كما يقول سعدي في إحدى قصائد السبعينيات، فهي أي تلك المزاعم التاريخية أقرب للنفاجة والإدعاء منها للحقيقة، لذلك فالشعور بالفشل في مثل هذه الحالة سينطوي على مـخاطر نفسية غير عادية، إنـها مخاطر نشوء ( عقدة الاشـمئزاز من الذات ) التي شاعت عند بعض الألمان في أعقاب هزيمة النازية في الحرب العالمية الثانية، وها هو سعدي يوسف أبن التجربة الستالينية، بدل أن ينتقد تجربته السياسية والثقافية، حوّل الجمهور العراقي في المنفى إلى ضحية، أي إلى موضوع لسادية مرعوبة من حقائق الحياة كمقدمة لتعميم ( عقدة الاشمئزاز من الذات ) التي يعانيها، وهذا أخطر ما عبرت عنه (القصيدة). ولو تأملنا مفردات قصيدة سعدي هذه لوجدناها صدى لمقالات ( جريدة الثورة ) في أعقاب انتفاضة آذار 1991 حيث استعملت نفس ألفاظها للانتقاص من العراقيين والإساءة لإنسانيتهم !!
إن الأزمات المتشابـهة تنتج مفردات وأفكاراً متشابـهة، وهذا هو المقصود بكون الستالينية وجهاً آخر للنازية، فرغبة الشيوعي الفاشل في تعميم عقدة الاشمئزاز من الذات التي يعانيها هو، لا يقابلها ويذكّر بـها سوى عقدة الجرب الفكري والعاهات الطبقية التي تحرك كوامن اللاشعور عند السلطات الاستبدادية، وبالنتيجة يصبح الإنسان العراقي ضحية لشتائم الطرفين، وليس اعتباطـاً أن نقرأ مؤخراً ( قصيدة ) بعنوان ( أحلام اليرابيـع ) لأحد شعراء السلطة، البعثي سامي مهدي، يـهجو بـها ( س ي ) واصفاً إياه بأبشع الأوصاف. والقصيدتان من حيث الرداءة وفساد الروح هما وجهان لعملة واحدة، هي عملة الفشل والعجز والاستبداد. والنتيجة هي أن الثقافة العراقية أصبحت ضحية للغة الشتائم والمهاترات هذه !! فهل العراقيون مسؤولون عن فشل هذه الأحزاب كي يكونوا ضحية لاستبدادها مرة ولفشل شعرائها مرة ثانية ؟!
إن ( قصيدة ) سعدي هذه ورغم ركاكتها الشعرية البائنة، هي مؤشر سلبي خطير يشير إلى ركود الثقافة العربية عموماً والعراقية ضمناً، وغياب الصفة الأخلاقية عنها أحياناً، لأن الأخلاق بالمعنى الحضاري تقترن وتتأثر عادة بـمستوى الثقافة الحقوقية السائدة، وهي أكثر من رديئة في الواقع العربي، إلى جانب غياب حرية البحث والحوار في الغالب، والثقافة العربية لذلك أمام اختيارين، الأول هو أن تستمر على هذه الحالة البائسة، فتتآكل أكثر فأكثر لتنفي نفسها بنفسها، إلى أن تأتي أجيال لاحقة تتحمل مسؤولية إعادة الاعتبار لكل ما تم هدره والتفريط به من قبل الأدعياء والفاشلين. والثاني هو أن تنفض عنها غبار الركود ومعه تلك الأسماء البائسة التي ظلت مهيمنة بخوائها وادعاءاتها السمجة على الساحة الثقافية، لكي تؤسس لغة جديدة ووعياً ديمقراطياً، ثقافياً وحقوقياً، قادراً على رفض ومواجهة ( ثقافة الاشمئزاز من الذات ) المتغلغلة في عقول بعض الحزبيين، سواء من حزب السلطة أم تلك الأحزاب المسكونة، هي وبعض كتابـها، بـهاجس التسلط على الآخرين حتى وهم في المنافي !!
وعلى ضوء ذلك، سيكون بوسع المتابع أن يفهم مغزى مقالات سعدي يوسف التي دأب على نشرها منذ سقوط نظام صدام حسين، وأسباب الرداءة والعدوانية التي تميزها، فهي تنطوي على نفس الحقد على العراقيين الذين ساهموا في إنقاذ الشعب العراقي من جور الديكتاتورية وطغيانها، ولو بقينا نستمع لما يقوله سعدي وأمثاله لبقينا تحت وطأة الفشل والهزيمة إلى أجل مجهول، وهذا ما يفسر استغراب واستخفاف العراقيين بمقالاته تلك.