* اين كانت كرامات من شعروا بالاهانة حين ذبح صدام عشرات الآلاف من ابناء شعبه وفتح القبور الجماعية
* كيف يجوز وضع هذا الجزّار في خانة مقاومة الامبريالية
* إن النضال العنيد والثابت يتطلب معرفة الشركاء في النضال واهدافهم البعيدة قبل المرحلية
* ليس كل من عارض امريكا هو مناهض للامبريالية
* على اليسار الحقيقي ان يعود الى اصوله في التحليل والنضال
للمرة الثانية اضطر للتطرق لنفس الموضوع الذي كتبت عنه في مطلع هذا الاسبوع، وما دفعني الى هذا هو الحوار المكثف الجاري في اعقاب اعتقال الطاغية الارهابي صدام حسين بيد من هم لا أقل منه ارهابا، جنود الاحتلال الامريكي.
في هذا الحوار سقطت عدة عبارات، في عدة حوارات مكتوبة ومتلفزة تثير القلق الشديد، ومن بينها ان "اعتقال صدام على هذا النحو وعرض صوره ما هي إلا مهانة للعرب"، او ان "صدام وقف في وجه الامبريالية الامريكية ولهذا علينا ان نقف الى جانبه"، وأن وقوف صدام في وجه امريكا كان للتصدي لمخططها للسيطرة على العالم، وغيرها من العبارات التي لا ترتكز الى قاعدة ودلائل لا بل ان الواقع هو نقيض لكل هذا. ولشديد الأسف ان مثل هذه العبارات والمقولات سمعناها، ايضا، على لسان بعض المحسوبين على اليسار في الدول العربية.
إن مجرد تعبير "مهانة للعرب" يظهر وكأنه هناك شعور "قومي" جماعي للكرامة والمهانة، وهذا تعبير ينضم الى سلسلة التعابير القومجية والعصبية القومية، وكأن القومية هي تلك التي يعبر عنها زعيم، وليس الشعوب، حتى ولو كان الزعيم قاهرا لشعبه.
وسؤالي البسيط، للذين يطلقون مثل هذه العبارات، هي اين كانت كراماتهم حين كان صدام يرتكب مجازر بحق شعبه العربي، ويفتح عشرات القبور الجماعية ويذبح عشرات الآلاف من ابناء شعبه، واين كانت هذه الكرامات، التي تشعر بالاهانة الآن، حين جاع الشعب العراقي وتعذب، ليس فقط بسبب الحصار الدولي الاجرامي، بل ايضا بسبب سياسة النهب والسلب التي كان يتبعها هذا الطاغية. والسؤال الأهم الذي يجب أن يُطرح على ضمير كل انسان هو: ألا يوجد للشعب العراقي كرامة يجب أن نحترمها؟ فقبل ان تتعاطفوا مع جزّار اعتقله اسياده الذين صنعوه ودعموه، تعاطفوا مع الشعب المظلوم.
ثم عن اي اهانة تتكلمون، ألا تجدون دورا لصدام في الحالة التي ظهر فيها على شاشات التلفزة، لماذا قبل بتسليم نفسه؟. لقد سارع المبررون للادعاء بأنه تم تخديره، ومن الممكن خلق الكثير من التبريرات والتبريرات المناقضة، ولكن الحقيقة واحدة وواضحة وهي ان هذا الجزّار وعلى الرغم من كل الجرائم البشعة التي ارتكبها دون رحمة فإنه بقي جبانا، وعلى الأقل لم يكن بقدر شجاعة ولديه وحفيده الفتى الذين قاوموا حتى آخر رصاصة وخرجوا من مأواهم جثثا.
اما الأمر الثاني فهو بدعة ان صدام مقاوم للامبريالية، اي مقاومة هذه؟، قليل من الخجل يا ناس، لماذا يتم تجاهل التاريخ بهذه الدرجة، فمن الذي احضر صدام للحكم ألم يكن الامريكان، ومن الذي دعم صدام في حربه على ايران التي تصدت لامريكا في بداية الثورة وكانت في حالة عداء معها؟، ألم يكن سادة البيت الابيض.
ثم تعالوا نبسط الأمور الى ابسط الدرجات والمفاهيم، فما هي الامبريالية؟، اليست هي القوى الرأسمالية العالمية الاحتكارية التي تسعى للسيطرة على اقتصاد واسواق وخيرات العالم واستغلال الشعوب؟، فكيف يمكن لمن نهب شعبه وسلب خيراته وأخذ لنفسه حصة من كل مبيعات النفط، ان يكون مناهضا للامبريالية. كيف من الممكن ان يكون شخصا تُعد ثروته بمليارات الدولارات مناهضا للامبريالية.
والنكتة الآخرى هي تلك التي تتحدث عن أن صدام عدو للرجعية، اي رجعية هذه التي يعاديها صدام، هل لأن منصبه يُسمى رئيسا وليس ملكا؟، بماذا يختلف حكمه عن الانظمة المالكة وهو الذي جعل منصبه وراثيا مع ابنائه، لا بل هناك انظمة ملكية وحتى منها عربية، ديمقراطية اكثر بما لا يقاس من نظام صدام "الرئاسي".
نقاشي الاساسي هو مع بعض القوى اليسارية، أو الذين يعتبرون انفسهم يسارا. إن اليسار الحقيقي هو الذي ينظر الى المجمل العام، ولا تحكمه انتماءات فئوية، ولا تتملكه مصطلحات رجعية مثل "عدو عدوي هو صديقي"، ويتميز ببعد النظر وفهم الابعاد للمواقف التي يتخذها.
وعلى ما يبدو ان مقولة "عدو عدوي هو صديقي" تقف من وراء بعض المواقف الخاطئة، او القراءة الخاطئة لخارطة القوى المناهضة للامبريالية حقا، وطبعا هناك الكثير من الانظمة الحاكمة الواعية لمثل هذه البلبلة، وتحاول الادعاء بانها مناهضة للامبريالية مع ان ممارساتها هي استغلالية وقمعية تجاه شعوبها. وتحت مقولة "عدو عدوي هو صديقي" يتم اقتراف جرائم رهيبة في عالمنا المعاصر.
ولهذا فلا يمكن اعتبار كل من وقف في وجه امريكا، مثلا، معاديا للامبريالية، لأننا قد نجد قوى استغلالية اخرى في العالم اختلفت مع امريكا على تقاسم الخيرات، فهل مثل هذه القوى مساندة لنضالنا ضد الامبريالية، والمثال الحالي على هذا واضح جدا، وهو موقف فرنسا والمانيا من الحرب على العراق، فنظرة جوهرية الى صلب الموقف الفرنسي الالماني وفهم معادلة تضارب المصالح، نفهم تماما سبب المعارضة الفرنسية الالمانية للحرب، وهو لأن هذه الحرب ستضرب المصالح الاقتصادية الفرنسية الالمانية، التي هي ايضا مصالح راسمالية احتكارية جاءت على حساب الشعب العراقي.
وهذا ما يميز اليمين الفرنسي عن الحزب الاشتراكي الفرنسي في ما يتعلق بالمواقف السياسية على الساحة الدولية، فاليمين الفرنسي يرى ان سيطرة امريكا على العالم تتعارض مع مصالحه الاقتصادية في العالم، وتضر به في عملية اعادة تقاسم العالم اقتصاديا. فهل يخطر على بالنا ان الرئيس شيراك بات مناهضا للامبريالية الامريكية، فماذا عن امبرياليته هو؟.
صحيح انه علينا الاستفادة من صراع الحيتان العالمي، ولكن هذا لا يعني اعطاء حربة النضال لأحد هذه الحيتان، لانه في اول فرصة سيطعننا نحن.
لكي يكون نضالنا ثابتا ومثمرا وفي شتى المجالات والميادين، ويكون قادرا على تحقيق اهدافه او الاقتراب منها، علينا نختار الشركاء بدقة، فليس كل من نلتقي معه مرحليا، وليس نهائيا، سيجعلنا نقترب من الهدف المنشود ايا كان. وهذه الامور التي تميزنا كيساريين عن الفوضويين والكفاح الفوضوي، الذي علّمت التجربة انه كان عاملا معيقا في النضالات التي خاضتها الشعوب.
إن الثقة بالنفس هي عنصر هام في تحديد الموقف الواضح والجريء، الذي لا يهرب وراء الكلمات، او يتجه نحو الاضواء والموقف السهل، فطالما ان موقفي واضح من الامبريالية وممارستي السياسية مطابقة لهذا الموقف، فلا اخاف بأن أظهر بموقف عدائي من طرف قررت الامبريالية في لحظة معينة معاداته، وهذا لأن المنطلقات والاهداف شديدة الاختلاف. فمثلا هنا في اسرائيل ألم يحصل اننا اتخذنا، نحن كشيوعيين، ومعنا احزاب فاعلة بين الاقلية الفلسطينية في اسرائيل، موقفاً معارضا لاجراء حكومي معين، لاقى هو ايضا معارضة في صفوف اليمين اليهودي المتطرف العنصري؟. فهل هذا يعني ان هناك تطابقا بالآراء بيننا وبين اليمين المتطرف، بالطبع لا، لأن اسباب المعارضة ومنطلقاتها مختلفة ومتعارضة كليا.
إن الاخطر في كل ما يجري الآن من نقاش حول اعتقال صدام هي محاولات الغمز واللمز لتخوين شعب بأسره، من اجل الظهور بموقف المعاداة للامريكان المحتلين. ليست هذه المرّة الأولى او الاخيرة التي تحاول وستحاول فيها امريكا تغيير نظام في بلد ما، وقبل اقل من عامين حاولت فعل هذا بوسائل أخرى في فنزويلا، وقد استمر الانقلاب الذي شارك فيه الجيش لمدة اربع وعشرين ساعة، ومن أفشل الانقلاب هو الشعب الذي أحبّ رئيسه، وهو رئيس منتخب لم تكتمل ولايته الأولى، واستطاع الشعب الاعزل ان يقضي على انقلاب قادة الجيش المسلح، قادة الجيش المدعومين مباشرة من قبل قادة البيت الابيض الحاليين، فتخيلوا لو ان صدام كان مخلصا لشعبه ووطنه، فهل كان سيسقط خلال ثلاثة اسابيع. من غير المعقول السكوت على محاولات تخوين الشعوب من اجل زعامة عفنة اجرامية، وخاصة إن جاءت مثل هذه المحاولات من قوى تعتبر نفسها يسارية.
إذا اراد اليسار في العالم ان ينهض من جديد فعليه ان يعود الى اصوله وتعاليمه في تحليل الظواهر العالمية ووضع آليات معالجتها، وان لا ينجرف مع التيارات الاصولية المختلفة في العالم وينافسها في اصدار الموقف المتسرعة.
إن الغالبية الساحقة من البشر واقعة تحت استغلال اقتصادي رهيب، نحن نعيش في عصر عبودية ولكن بأساليب متطورة وعصرية والنتيجة واحدة. ولا يمكن انقاذ البشرية من مستغليها إلا بطريق اليسار الحقيقي.
ملاحظة خاصة اتوجه بالشكر الجزيل الى جميع الرفاق والاخوة الذين بادروا الى ارسال الرسائل الالكترونية لي ليبلغوني فيها عن رفيقي العراقي العزيز ابو حازم الذي ذكرته في مقالي السابق ونشر هنا في موقع الحوار المتمدن، وفعلا وجدته ونجحت بالاتصال معه، وكان اللقاء مؤثرا جداً.