|
العنف و دولة الطوائف في العراق
فارس خليل ابراهيم
الحوار المتمدن-العدد: 2230 - 2008 / 3 / 24 - 11:11
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
بعد مرور ما يقارب 87 عاماً على تأسيس الدولة العراقية الحديثة ، واستمرار ظاهرة العنف الذي اصبح سمة مميزة لهذه الدولة منذ السنوات الاولى لتأسيسها ، جرت محاولات عديدة لتحليل هذه الظاهرة للخروج بجملة استنتاجات قد تعين المهتمين لفهم هذه الظاهرة وإيجاد الحلول الكفيلة للقضاء على مسبباتها أو التخفيف من حدة وطأتها على المجتمع في المراحل التي تكون فيها الدولة العراقية أو احدى مكوناتها الا ثنية في حالة صراع من اجل حفظ الذات والهوية . وهنا نجد انفسنا أمام نوعين من العنف ، العنف المنظم للدولة العراقية ومؤسساتها والذي بدأ مع ولادة هذه الدولة ، وهذا العنف الذي اصبح سمة ملاصقة لأغلب مكونات الشعب العراقي ، والتي هي بالطبع اقدم بكثير من تاريخ نشوء هذه الدولة . الامر الذي يدفعنا الى السؤال عن جذور هذا العنف الذي نراه اليوم ، هل هو جزء من ميراثنا الاجتماعي عبر مراحل تراكمه التاريخي ، أم هو ذلك الافراز المشوه من عملية التأسيس الخاطئ للدولة العراقية الحديثة ، أم هو ذلك المركب الخطر الذي تكون من اثنيات عنيفة ودولة ما كان لها ان تسود الا بالعنف ؟ و إذا ما تتبعنا خطوات تأسيس الدولة العراقية التي شكلت على عجالة من امر المحتل البريطاني الذي استحسن فكرة حكم هذا البلد بالنيابة وعبر سلطة تحظى برضا حكومة جلالة الملكة والشعب العراقي, وتفادي المواجهة المباشرة مع هذا الشعب الذي لا يمكن ان يحكم بسهولة ، وخصوصاً بعد تلك التجربة الدامية مع هذا الشعب في ثورة العشرين . فكان الاختيار على الأسرة الهاشمية النازحة من الحجاز وابنها الامير فيصل (رحمه الله) الذي ما كان له من خيار سوى التعاون مع البريطانيين لوضع اللبنات الاولى في تأسيس الدولة العراقية الحديثة ، معتمدين في ذلك على الدمج القسري بين هرمية السلطة وسلم الاقصاء في تشكيل نموذج هذه الدولة التي أصبحت فيما بعد سبباً من اسباب هذا العنف الذي نراه اليوم . وبعد اعتماد هذا النموذج سعى البناءون الاوائل في مشروع بناء الدولة العراقية الحديثة الى الدمج القسري لمجتمعات قوامها العلاقات القبلية التي عانت العزلة الطويلة ، الى درجة ان كثيراً من ابناء هذه المجتمعات ما كان لهم ان يرو اماكن بعد من قريتهم لولا أداؤهم للخدمة العسكرية في الجيش العراقي ، مما ولد هشاشة تعتريها الريبة في العلاقات الاجتماعية بين ابناء هذا البلد ، واستمرار طغيان ظواهر عديدة ملاصقة للحياة القبلية على العلاقات الاجتماعية بين ابناء مكونات هذا البلد (كالتفاضل والتغالب والتمايز). ان عملية الدمج القسرية هذه وبدون مقدمات منطقية داخل اطار هذه الدولة الوليدة ، ولد نوعا من الانكفاء على الذات لأغلب مكونات هذا البلد وخصوصاً عندما تتعرض احدى تلك المكونات لخطر الاقصاء والتهميش ، ليتحول هذا الانكفاء فيما بعد الى نوع من أنواع العنف وعدم قبول الآخر والموجه بالدرجة الأساس للدولة ومؤسساتها و(والقيم المدنية) بالمحصلة ، والى بقية مكونات المجتمع بالدرجة الثانية ، وحسب موقع كل مكون من هرم السلطة وسلم الاقصاء . وبما ان المجتمع العراقي ما زال يراوح في تلك المساحة الواقعة بين البداوة والمدنية وعدم نضوج الوعي الاجتماعي (بالضرورة) لذا وعلى اثر أي أزمة جديدة تواجه المجتمع الذي لا يجد تعبيراً لها في سلة (المقولات المدنية) فانه يلجأ بالضرورة الى ما ألفه من تعبيرات اثنية جاهزة وسريعة الاستخدام والتاثير ، مما يدفع بتلك الازمة أو الازمات الى مزيد من التركيب لا الحل . مما يصح فيما بعد القبول بمقولة عدم قدرة المجتمع العراقي (دولة ومكونات) الى درجة ليست بقليلة تتفاوت نسبتها بناء على مرحلتها المعاصرة ، على إيجاد وخلق نظام اجتماعي وسياسي واقتصادي جامعاً لكل مكوناته ، وسيادة حالة التمركز حول الذات والهويات الا ثنية والتأرجح بين القبول بالتعايش السلمي أو رفض الآخر (دولة كانت أو احدى المكونات) داخل اطار الدولة العراقية التي اصبحت فيما بعد الراعية الاولى لكل نزاع داخلي والمنظم الاول لكل تناقض حاد (وبالطبع دون إغفال العامل الخارجي ودرجة تأثيره) . فتصبح حالة الصراع مع الأخر هو السمة المميزة ومحور الضبط بين مكونات المجتمع العراقي ، بعد ان عرف كل مكون الحدود التي تفصله عن الآخر بغض النظر عن استحقاق كل مكون والحاجة الفعلية للمجتمع ككل للقدرات الكامنة والمتحققة في هذه المكونات . وعلى اثر فشل النخبة السياسية العراقية التي عاصرت المرحلة التأسيسية للدولة العراقية في خلق وإيجاد مجتمع مدني حديث ، وانحراف حالة العزلة وسياسية الاقصاء والتهميش نحو العنف المتبادل بين أطراف الصراع . ومع تفاقم حلة الفقر المدقع بين ابناء الشعب, هذه كله وفر بدوره أرضية خصبة لأيدلوجيات ثورية تؤمن بالعنف كوسيلة لتصحيح حالة الخلل الاجتماعي المركب الذي عم البلد ، أيدلوجيات كان لها الدور الكبير في رسم الجزء الأكبر من صورة العراق المعاصر . لقد جاءت تلك الأيدلوجيات الثورية رداً على حالة الفشل للنخبة الحاكمة في إدارة البلد وتنميته ، وجواب على العنف المنظم للدولة العراقية ضد أي مكون سعى أو قد يسعى الى شق عصى الطاعة ، أيدلوجيات استطاعت ان تستثمر حالة العنف الاجتماعي وتراثه لإزالة الآخر وتصفيته سواء كان رمزاً من رموز الثورة المضادة أو شكلاً من أشكال السلطة الرجعية . جاء تلك الأيدلوجيات الثورية لمجتمع كان مهيئاً نفسياً وثقافياً لاستقبال هذا النمط الجديد من العنف ، ولم يكن هذا العنف السياسي الجديد الذي عاش فيها العراق الحديث سوى غطاء لذلك العنف القبلي المتأصل في تراثنا الاجتماعي . لقد حلت العصبية الأيدلوجية محل العصبية القبلية فأصبح هذا العنف الجديد يبرر بشعارات معاصرة كالحقد الطبقي المقدس والقضاء على اعداء الوحدة العربية وأعداء المذهب ، ولجوء قوى التغيير هذه الى العمل المسلح (ثوار كانوا أو انقلابيين) ودفعهم لتلك الجماهير المسحوقة الى حمل السلاح لإكساب عملية التغيير صفة الشرعية الثورية ، وإبراز الجماهير كقيمة عليا وأداة رئيسة في عملية التغيير هذه في مسيرة انتزاع الحرية وإرجاع السلطة للشعب الذي سرعان ما غيب بعد ان ارتضى ان يختزل في شعارات أيدلوجية لأحزاب خاضت صراعات دموية للوصول للسلطة لقيادة عملية التغيير وبواسطة تلك الجماهير التي لم تستوعب بوضوح هذه الشعارات بأبعادها الجدلية نتيجة لحالة الجهل المستشري في المجتمع واقتصار التثقيف الأيدلوجي على الفكر التنظيمي الذي يعتمد على ذلك المركب (من اساليب العمل السري والمرونة العالية في التعامل مع الأحداث الطارئة والدعاية النارية والسرعة العالية في الهجوم والانقضاض على الخصم واستثمار عامل الخوف من الآخر) تحت ضغط وطأة العمل السري في أجواء دولة بوليسية شبح معسكرة بالكامل لا تترك المجال لا فراد أي تنظيم للعمل بحرية مما انعكس سلباً على طبيعة النشاط التثقيفي داخل التنظيم ، ليفرز فيما بعد ذهنية الانقياد الأعمى للشخصية الكاريزمية والقائد الأوحد الذي وجد من هذه الأجواء الشاذة في الحياة السياسية سبباً كافياً لاختزال الجماهير وتسطيح أذهانهم على مسطبة المقولة الشهيرة (نفذ ثم ناقش) . آنذاك لم تعد تلك الجماهير (القيمة العليا لأي تغيير) سوى ذلك الفحم الملتهب لقاطرات الأحزاب المدفوعة بجنون نحو السلطة . وما مع الانهيار الذي لحق بالدولة العراقية في 9/4/ 2003 الذي لا يمكن ان نوعز كل أسبابه الى حالة الاحتلال لولا مساهمة به جملة من المقدمات الداخلية عبر مراحل تراكمها التاريخي التي مهدت لهذا الانهيار الكبير والذي أشار الى نهاية ضرورات الحقبة التي سبقت ذلك الانهيار وإيذانا لأفول تلك الحركات والأيدلوجيات ذات الطابع الشمولي التي سعت في السابق لبناء تجاربها الخاصة في عصر انحصرت فيه دور الأنظمة الشمولية في الساحة الدولية وولادة حقبة جديدة مشوهة المعالم ، استمرت ظاهرة العنف الذي عصف بالمجتمع العراقي ولكن بوتائر وأشكال لم نسمع أو نرى مثيلا لها في تاريخ العراق المعروف بعد حلول التبريرات والمقولات الطائفية محل المقولات الثورية المؤدلجة اثر اعتماد مفهوم المحاصة أسلوبا لإدارة مؤسسات الدولة التي اصبحت قاسماً مشتركاً لأغلب القوى السياسية الفاعلة في العراق . نعم لقد كانت وما زالت الطوائف جزءاً مؤسساً للمركب العراقي ، غير ان ما نعانيه اليوم هو الطائفية السياسية . فاذا كان المفهوم الاول يشير الى هذا التنوع بالمعتقدات والممارسات الا ثنية ، فان المفهوم الثاني لا يعدو كونه ذلك السعي المجنون لبعض القوى السياسية الانتهازية لاستغلال كل ما يمكن استغلاله وبكل الوسائل والأساليب المتاحة (ومنها العنف بالطبع) من اجل تحقيق جملة من المكاسب السياسية والاقتصادية وعلى حساب بقية المكونات . ومع ظهور مفهوم الطائفية السياسية القائمة على ذلك السعي الحثيث لإزاحة الأخر والتفرد بمؤسسات الدولة ودخول هذه المؤسسات الممزقة بين الطوائف في هذا الصراع ليحل عنفها محل (العنف المنظم للدولة) . هنا دخل العراق في حقبة يمكن ان نطلق عليها تسمية (دولة الطوائف) هذه التسمية هي الاكثر دقة لوصف ظاهرة العنف الذي رافق المجتمع العراقي والدولة العراقية عبر مختلف الحقب التاريخية التي مر بها . فلم تكن السلطة في العراق سوى ذلك التفرد الكامل لإحدى مكونات المركب العراقي بكل الامتيازات وعلى حساب البقية وعلى مختلف مشاربهم الذين خاضوا صراعات مريرة لكسر هذا الاحتكار ولكن من خلف متاريس اثنية وطائفية التي لم تدع المجال لظهور أي مشروع يسمح بولادة طبيعية لمفهوم المواطنة وتأسيس (دولة المواطن) وإزالة كل الآثار السلبية (لدولة السلطان) التي جربناها مرارا ولم ننفك نغادرها حتى نعود اليها معجبين بها غير متعظين. ومن لا يتعض لا يستحق الحياة
#فارس_خليل_ابراهيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العولمة الإعلامية والضرورات الاقتصادية
-
العراق بين الديمقراطية كخيار وحاجات المرحلة الراهنة
-
الاعلام الحر..أكذوبة من القرن العشرين
-
العولمة والاعلام العربي واشكالية الانسان العربي المعاصر
-
ما العولمة؟
المزيد.....
-
من معرض للأسلحة.. زعيم كوريا الشمالية يوجه انتقادات لأمريكا
...
-
ترامب يعلن بام بوندي مرشحة جديدة لمنصب وزيرة العدل بعد انسحا
...
-
قرار واشنطن بإرسال ألغام إلى أوكرانيا يمثل -تطورا صادما ومدم
...
-
مسؤول لبناني: 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية عل
...
-
وزيرة خارجية النمسا السابقة تؤكد عجز الولايات المتحدة والغرب
...
-
واشنطن تهدد بفرض عقوبات على المؤسسات المالية الأجنبية المرتب
...
-
مصدر دفاعي كبير يؤيد قرار نتنياهو مهاجمة إسرائيل البرنامج ال
...
-
-استهداف قوات إسرائيلية 10 مرات وقاعدة لأول مرة-..-حزب الله-
...
-
-التايمز-: استخدام صواريخ -ستورم شادو- لضرب العمق الروسي لن
...
-
مصادر عبرية: صلية صاروخية أطلقت من لبنان وسقطت في حيفا
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|