معمار ، واكاديمي عراقي
لئن احتفلت الاوساط المعمارية الدولية بمنح المعمار الشهير يورن اوتزن جائزة " البريتزكير"Pretzker المعمارية المرموقة لهذه السنة 2003 ، (" نوبل " العمارة ، كما تدعى ) ، فان هذا الحدث المهم اسعد ، في ذات الوقت ، محبي العمارة الاسلامية وعشاقها ؛ ذلك لان المعمار الدانمركي المعروف ، مصمم مبني دار اوبرا سدني ، ذائع الصيت ؛ والمولود عام 1918 ، لا يخفي اعجابه وافتنانه بمنجز العمارة الاسلامية ؛ ذلك المنجز الذي تعرف عليه لاول مرة ، قبل اكثر من نصف قرن ونيف عندما زار عام 1949 المغرب العربي ، بعيد تخرجه سنة 1942 من مدرسة العمارة التابعة للاكاديمية الملكية الدانمركية للفنون ، وتشاء الصدف ، ان اعمل ، انا ، القادم من بلدان الشرق والمنتمي الى تلك العمارة الاثيرة لدي المصمم ، في ذات المدرسة عينها ، ولتكون عمارة اوتزن وزملاءه المعماريين الدانمركيين ، موضوعا لاحد اهتماماتي البحثية !
في خضم النقاش متنوع الاتجاهات الدائر الان في اوساط عالمية مختلفة ، حول تأثير الحضارات بعضها في البعض الاخر ، وعن مدى اهمية هذا الحدث وتجليلته المتعددة وابعاد تأثيراته على تطور منجزات الثقافة المحلية او الاقليمية ، يظل مسعى ادراك ومعرفة وفهم " الاخر " الشخصي ، يمثل صوتا واضحا وجليا في خطاب ذلك النقاش الذي تشعبت به الطرق ، وتباينت به التقيمات من القبول المطلق وحتى الرفض المطلق !
ومع اقرارنا بتنوع " فرشة " مرام واهداف " الاخر " في عملية تلاقي الحضارات ، وتصادمها احيانا ؛ فان من حسن الصدف ان يكون " الاخر " – معماراً ، يتوق بصدق لادراك كنه وجوهر " اخره " بتجرد واضح ، خالٍ تماما من نزعة الالغاءات المقيتة والتىجبل عليها بعض " الاخرين " ، ومتوخيا ، في ذات الوقت الى اثراء تجربته المهنية والشخصية .
وليس من دون دلالة ، اعتبار كثير من المنجزات المعمارية التى صممها " الاخرون " في بيئات مختلفة وغريبة عن مرجعياتهم الثقافية ، بمثابة رموز مميزة و "ايقونات " بصرية لذلك البلد او لتلك الثقافة ؛ والسبب واضح جدا ً، كون ان عملية التصميم استندت على احترام صادق للثقافة " الاخرية " ؛ ولكون ان تلك العملية ذاتها اتكأت على مفهوم التأويل ، المفهوم الذي بمقدوره ان ينشأ " تـناصاً " غنياً ، يكفل استيلاد " فورمات " جديدة تشي بتكويناتها عن خصوصية مرجعياتها الثقافية .
.. حدثني البروفيسور "هانس مونيك هانسين " ، صديق "يورن اوتزن " وزميله في العمل ، من ان المعمار الدانمركي كان مبتهجا ، ايما ابتهاج ، لمشهد التماثلات التى تأسست بين مقطع مبنى " بنك ملي ايران " ، الذي صممه " اوتزن " في العاصمة طهران عام 1959 ، وبين شكل الحروف العربية الانسيابية المتصلة ؛ فقد كان المعمار ينزع الى اظهار نوع من التماهي " الفورماتـي " بين ما يمكن ان تكون عليه تكوينات مبنى معاصر ، وبين الرغبة في حضور تداعيات ثقافية يود المصمم ان يعلن عن اعجابه وافتنانه بها !
وفي حينها اثارني ليس مشهد مقطع المبنى المركب وهيئة السقوف الصفيحية مختلفة الاشكال ، وتطابقاتها مع اشكال الحروف العربية الصاعدة والنازلة ، بقدر ما ترمي اليه فكرة الحدث المرئي ، الحدث الذي مكن المعمار ليجعل منه مقاربة مميّزة ، تستدعي بدلالاتها مقدار افتتنان المعمار بجديده ، ذلك الجديد ( والغريب ) الذي اسهم في اثراء مخيلتة التصميمية . وفي الاحوال كافة ، فان اشكالية استنطاق الموروث التى حاول المعمار ان يثير انتباهنا اليها ، ما فتئت قائمة ،انه يطرح علينا درسا بليغا في كيفية انتـقاء الاسئلة ، اكثر بكثير من السعي للحصول على محض اجوبة ، قد تكون في كثير من الاحيان ، ليس سوى اجوبة جاهزة!
عندما زرت منطقة " فغيـذينسبو Fredensborg " في اقصى الشمال الشرقي من الدانمرك لرؤية الحي السكني الذي اعد تصاميمه يورن اوتزن ، ونفذ في بداية الستينات ( 1962 ) ، ادركت بعمق مدى تعاطي المصمم العالمي لجهة توظيف موروث الحضارات المتنوعة المولع بها " اوتزن " في العملية التصميمية . لا يمكن للمرء ان يقّر بان مقاربات التخطيط والتصميم والانشاء ، هي مقاربات محض دانمركية ، او في احسن الاحوال اسكندينافية ؛ انها يمكن ان تكون تمازجاً ذكياً وعقلانياً لثقافات متباينة ، تعود بمرجعيتها الى حضارات عديدة ، منها بالطبع مرجعية العمارة الاسلامية . فمن الصعب بمكان انكار نوعية اسلوب تسقيط الوحدات السكنية وطريقة" فرشها " في الموقع ، عن ما كان يشكل حلاً عاديا ومألوفاً في تخطيط عمراني لمدينة عربية – اسلامية .
من جانب آخر ، يشعر المرء ، <او بالاحرى احسست ، أنا المشرقي ، شخصياً >؛ بان تعاطي المعمار مع تصاميم الوحدة السكنية المعتمد على تكوين حضور الباحة المكشوفة ، ما هو الا ايماءة شغف واحترام لموروث العمارة الاسلامية الممّيز ، فالحدث التصميمي عدا كونه غير مألوف في تطبيقات العمارة الاسكندينافية ،لا يوحي حتى الى اسلوب " الباثيو " Patio ، المعالجة التصميمية القريبة جداً من نماذج تطبيقات العمارة الاسلامية ، والتى شاع استخدامها في بلدان جنوبية عديدة .
وتظل هيئات المفردات التصميمية الاساسية المؤلفة للحل التكويني كالجدران المصمتة ، والفتحات الخارجية المقـنّـنة ، والنزوع للهندسية المنطوية على تأثيرات نحتية ، وكذلك اسلوب توزيع الفراغات للوحدة السكنية ، وحتى لون الآجر الضارب الى الصفرة ، كلها تذكرنا بان المعمار يستقي معالجلته التكوينية من منبع ، لا يمكن للمرء أن يتغاضى عن مصدره ! . وتمنح الكتل الآجرية التى تشكلها بوناراما الوحدات السكنية المبثوثة بفنية عالية على تضاريس الموقع ، وخطوط " سلويّـتها silhouette " المتعرجة ، احساساً بان الحدث المنظور يضيف شيئا جديداً ونافعاً لمفردات البيئة المبنية الاقليمية ؛ ولولا غياب تقاليد استخدام الالوان ، وبالاخص الفيروزي منها ، في المعالجات التصميمية ؛ فان حيّ " فريذينسبو " الاسكاني ، وقبله حيّ " كونغو" (1957 ) ، بالقرب من مدينة " هلسنينيور " ، يمكنا ان يكونا بسهولة ، حياً سكنياً في احدى ضواحي بغداد او في اصفهان ، وحتى ضمن احياء بخارى او مراكش!
في مبناه الضخم والمهم والوحيد ، المصمم على الارض العربية ، يتوق " يورن اوتزن " لاستثمار حدث " المكان " للتعبير عن ما يكنه تجاه العمارة الاسلامية – عمارته الاثيرة . ففي مبنى مجمع مجلس الامة الكويتي (1973-1983) ، يشتغل " اوتزن " على ثيمته المفضلة ، في جعل مقاربة تمازج الثقافات اساسا للحل التكويني ، مبيناً ، بحضور لافت ، عمل مبادئ العمارة الاسلامية في تكوينات مبناه .
يثير الانتباه ، في عمارة مجلس الامة الكويتي ، مسعى المعمار الحثيث للابتعاد عن محاكاة التشكيل الهيئاتي لنماذج مباني العمارة الاسلامية بمفهومها " الباستيشي "Pastiche السريع ؛ فهو يرغب رغبة حقيقية لاستنطاق كنه المعاني الكامنة في جوهر الحلول التكوينية للعمارة الاسلامية ؛ من هنا يمكن لنا ان نحس بفرادة " التناص " المشغول به مخطط مجمع مباني المجلس ؛ المخطط ذاته المتشكل من اتساق الطرح التصميمي الخاص مع الحرص على احترام "المكان " وثقافته . ان مخطط المجلس مبنى وفق سياق معماري عام مؤلف من وحدات تصميمية ذات تشكيلات متماثلة نوعا ما ؛ وهذه الوحدات التصميمية تنطوي في غالبيتها على فناء وسطي مكشوف ، تحيط به فضاءات خصصت للاعمال الادارية .
يطمح المعمار لان تكون مفردة سقيفة المدخل في المبنى ذات اهمية خاصة ؛ تبع اهميتها من كونها تمثل حلاً مقنعاً لاشكالية الانتقال من الخارج نحو الداخل ، وان تكون همزة وصل كفؤا بين البحر والصحراء ، كما ينشد ان تكون تلك السقيفة الرحيبة بمنزلة ميدان ظليل يتفيأ تحته ناس كثيرون : حاكمون ومحكومون ، مشرعون ومنفذون .. زيادة في تأكيد وظيفة المبنى ورمزيته ؛ فضلا على انها تجسد بذكاء المقولة العربية التى يطيب لـ " اوتزن " ان يرددها دوما وهي (.. عندما يموت شيخ القبيلة ، فان ظله يختفي ..) ؛ ولهذا فان السقبفة تمثل تعبيرا مجازيا ، وفق رؤى المعمار ، عن استمرار وجود القبم النبيلة لمؤسسة المبنى ، عن طريق دوام حضور < ظلّـة > السقيفة – الخيمة ؛ انها ( ظـّل ) اولئك الذين ارسوا يوما ما هذه المؤسسة الديمقراطية ، التى تتيح للمرء ان يتفيأ تحتها دوما رغم رحيل مؤسيسيها وروّادها ، انها فوق ذلك تمثيل رمزي بليغ للحضور وليس .. الغياب !
ثمة عنصر تكويني اخر ، له اهمية خاصة ، لا تقل عن اهمية السقبفة ، يمكن ان نشير اليه ضمن المعالجات المعمارية لمجمع مباني المجلس ، وهو الممر الداخلي العريض الذي بخترق المبنى كله من اوله الى اخره . بدايته المدخل الواقع في الجهة الشرقية ، ونهايته عند نقطة الدخول تحت السقيفة الكبرى . انه بمنولة الشريان الرئيسي للمبنى باجمعه، فكل المسارات الموصلة بفضاءات المجمع تصب فيه ، كما ان الوصول الى تلك الفراغات يتّم عبر ذلك الشارع - السوق – كما يحلو للمعمار ان يسمّيه .
في تعامله مع مفردة الشارع- السوق تصميماً ، يتوق " يورن اوتزن " الى تضمينه مفهوما ابعد من ان يكون مجرد ممر- دهليز ، قاصراً وظيفته ، كما هي اساس وظيفة الممرات على الوصول للفضاءات المعنية بعجلة ووضوح . ان دوره هنا بمنزلة مكان مناسب لالتقاء جميع العاملين في المجمع واحاديثهم ، انه بعبارة اخرى < بهو > المجلس ورواقه الفسيح .. من هنا الفة الفضاء المصمم وحميميته . في هذا المكان الانيس لا يحسّ المرء قطعا ً بذلك الشعور الملازم لمثيله ، الذي يسميه < عمّـنا > -عالم الاجتماع ( علي الوردي ) بـ < غربة السوق > !.
في محاولة استنطاقنا لبعض مشاريع " يورن اوتزن " المعمارية ، حاولنا التركيز على جانب احادي ضمن جوانب عديدة ، تعمل جميعها ، بصورة مركبة ومتداخلة لتفضي اخيراً الى استيلاد الهيئة النهائية لمنجز عمارته ، و الخروج في النهاية الى صيغ تصميمية مقنعة ومعبرة ، ومن ضمن هذه الجوانب ما يمكن ان تقوم به العمارة الاسلامية من عملٍ مجدٍ في صياغة تكوينات فضائية – فنية بليغة. لكننا ينبغي ان نشير هنا ، اولاً ، بان مفهوم العمارة الاسلامية كما يفهمه " اوتزن " –هو مفهوم خاص ، يعتمد اساساً على التأويل ؛ تأويل منجز هذه العمارة الرفيعة ، من وجة نظر خاصة .والامر الآخر ، ان طروحات مقاربة تمازج الثقافات الذي يفضله المعمار في عمله ، يمكن له ان يفضي الى خلق هيئات تشكيلية مميّزة ، بمقدور الذاكرة حفظها بسهولة ، كما يمكن لها بيسر اعادة استذكار " فورماتها " البصرية !
يعيش " يورن اوتزن " الان ، في مـالوركا Mallorca / اسبانيا ؛ في دارة صممها لنفسه ولعائلته ، بالقرب من البحر ؛ البحر الذي كان دوما مكاناً مفضلا لديه للسكن بالقرب منه . يعطي اسلوب توزيع فراغات الدارة مناسبة للتذكير مرة اخرى ، عن توق المعمار لتأكيد القيم التكوينية التى يفضلها ؛ فالتوزيع الفراغي يشي بمعالجة تصميمية ، يدرك مرجعيتها جيداً اولئك المهتمين حقيقة بقيمة العمارة وتجلياتها الاقليمية ، لكن المعمار مع هذا ، يود ان يعلن صراحة عن تعاطفه وحبه واحترامه لقيم معمارية وثقافية بعينها ؛ واذ كان رسم < هلال > كبير ، محفور في حائط مدخل الدارة يفصح عن ".. اشعار رقيق لمنظر الضوء الساطع الاتي من السماء والبحر .." كما يزعم احد النقاد ؛ فاننا نتلمس فيه ، ايضا ، اقرارا بليغا وفصيحا لتعاطف المعمار مع منجز .. العمارة الاسلامية !