بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية مجموعة من الباحثين .
عرض: الدكتور مصطفى العبد الله الكفري
لقد أصبحت أقطار الوطن العربي في الثمانينات من هذا القرن، تعاني من التخلف والتجزئة والتبعية، بدرجة أقوى مما عانت منه في منتصف هذا القرن. وتزايد الانفتاح الاقتصادي على الغرب لبعض الأقطار أدى إلى تعاظم اندماجها في النظام الاقتصادي العالمي الرأسمالي (من موقع تابع، ومستغل، عبر آليات متعددة يسري بعضها، وأخبثها، في أدق خلايا الكيان العربي). وأخذ يتعاظم أحكام طوق التخلف والتجزئة والتبعية، على رقبة التنمية في أقطار الوطن العربي.
ولكن هذا لا يعني أن الدول العربية على مدى ثلاثة عقود لم تحقق شيئاً، وكان حصادها هشيماً. لا ريب أنه قد حدث تطوير "متفاوت" في بعض جوانب الحياة في المجتمعات العربية خلال هذه الفترة. ويمكن الإشارة إلى التطورات التنموية في بعض الأقطار العربية المتقدمة، أو في الأقطار التنموية "وإن كانت أحياناً عالية التكاليف".
استهدفت ندوة "التنمية المستقلة في الوطن العربي" والتي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، في عمان خلال الفترة 26/29 نيسان 1986م ، استهدفت (دراسة التنمية كمفهوم شامل ومركب، بجوانبه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، مع التركيز على محور التبعية والاستقلال). وتركزت الدراسات والمناقشات حول أربعة محاور وهي :
1)- المفهوم النظري للتنمية الشاملة.
2)- دراسة تجارب وخبرات مختارة في دول العالم الثالث.
3)- دراسة الخبرات والتجارب التنموية في الأقطار العربية على المستويين القطري والقومي.
4)- وتناول المحور الرابع مستقبل التنمية من منظور استهدافي.
(… ، ألا أن وقائع الندوة، من دراسات وتعقيبات وتعليقات تقدم، في تقديري، صورة واضحة لحصاد الفكر التنموي العربي في الوقت الراهن. وعندي أنه بعيد عن تبلور مدرسة عربية، متميزة وراسخة، في التنمية) ص11 .
إن أعمال الفكر الجاد والملتزم بقضايا الأمة المصيرية هو من أهم مساهمات المثقفين العرب، وأن قيمة العمل الفكري تعظم بقدر ما يساهم بفعالية في الحركة المتصاعدة على درب التقدم. لذلك جاء على لسان الدكتور خير الدين حسيب، أن من بين ما تهدف إليه الندوة:
- الإجابة عن السؤال حول نوع التنمية التي تريد، ومن يتولى أمرها وكيف يمكن أن تضمن لنا حياة أفضل.
- المساهمة في تعميق وتوضيح أطروحات بحوثها النظرية حول مفهوم "التنمية المستقلة" وماهيتها، ووضع اللبِنات الأولى لمدرسة عربية في التنمية المستقلة.
- كيف يمكن تحقيق عملية "التنمية المستقلة" في الوطن العربي ؟ وهل يمكن تحقيقها على المستوى القطري ؟ أم أن التكامل والوحدة العربية أساس لتحقيقها .
ويحاول الأستاذ نادر الفرجاني أن يضع تصوراً للتنمية المستقلة في الوطن العربي. ويشير إلى (أن التنمية المستقلة هي عملية تاريخية أكثر منها حالة). لذلك فإن تعريف وتحديد ملامح التنمية المستقلة يتم من خلال منظور طويل الأجل. مع إمكانية تحديد مستوى التطور وحالة التنمية المستقبلة لبلد ما، عند نقطة زمنية محددة. ويضيف الأستاذ الفرجاني (ليست التنمية المستقلة في تقديري سمة توجد أو لا توجد، وإنما يحتمل تصورها أن توجد بدرجات متفاوتة. وعلى هذا لا يصح في نظري، بغض النظر عن مشكلة القياس، القول بأن مجتمعها ما قد حقق التنمية المستقلة، بينما يتمكن من تحقيقها مجتمع آخر. وإنما المقبول أن نحاول تحديد موقع مجتمع ما على متصل يتراوح بين الصفر والمائة مثلاً، يعبر عن مدى الاستقلال التنموي) ص14 .
ثم يحدد الأستاذ الفرجاني أبعاد التنمية المستقبلة وفقاً لما يلي :
1)- أهداف التنمية المستقلة هي : تحقيق أعلى درجة من الرفاه المادي والمعنوي لكافة المواطنين مع ضمان تطوره باستمرار.
2)- مضمون التنمية المستقلة الأساسي هو : الاعتماد على الذات وبناء القدرات الإنتاجية التي تضمن الوفاء بالحاجات الأساسية للمواطن.
3)- ووسيلة التنمية المستقلة في الوطن العربي هي : تنمية القدرات البشرية، وتأطيرها، ومشاركتها الفاعلة في الإنتاج واتخاذ القرار.
4)- والوعاء الوحيد الكفيل بتحقيق درجة عالية من التنمية المستقلة في الوطن العربي هي: كافة الموارد والإمكانيات التي يملكها الوطن العربي، ووحدته الحضارية، واتساع سوقه .
هذه هي أهداف وأبعاد التنمية المستقلة، التي تطمح الأقطار العربية إلى تحقيقها. إضافة إلى كون التنمية المستقلة عملية مركبة ومتعددة الأبعاد .
التنمية هل هي خبيثة ؟ أم أنها طيبة ؟
يحاول الدكتور إسماعيل صبري عبد الله في بحثه في التنمية المستقلة (محاولة لتحديد مفهوم مجهل) أن يوضح هوية التنمية، هل هي خبيثة ؟ أم أنها طيبة ؟ ويصل إلى "التسليم بأن التنمية تكون طيبة أو لا تكون تنمية أصلاً" ص26 .
ويجب أن يكون تعبير التنمية دالاً على التغيير الإرادي في مقومات المجتمعة، بغض النظر عما إذا كانت نتائج هذا التغيير خيراً أم شراً، ولمصلحة من فئات المجتمع يكون هذا التغيير. فالتنمية المستقلة هي: التغيير الإرادي المقصود الذي يحرر شعوب الدول المتخلفة من التبعية والاستغلال وما يرتبط بهما من فقر وجهل ومرض وغيرها.
ويحدد الباحث توصيفاً لما يجب أن تكون عليه التنمية المستقلة :
-يجب أن تكون تنمية متمحورة حول الذات لمواجهة النهب الاستعماري والاستغلال التي تتعرض له الدول النامية من قبل الدول المتقدمة ومن خلال التبادل التجاري الدولي غير المتكافئ.
-يجب أن تسعى إلى تحقيق الوفاء بالاحتياجات الأساسية للمواطن، من أجل القضاء على التفاوت في المجتمع.
- ضرورة المشاركة الشعبية في إقرار وتنفيذ خطة التنمية.
- استقدام التكنولوجيا الملائمة للظروف الاقتصادية ومستوى التطور الذي وصل إليه الاقتصاد الوطني.
- الحفاظ على الهوية الحضارية للأمة العربية.
وبذلك نصل إلى النتيجة التي تعرف التنمية المستقلة بأنها الاعتماد على النفس . ص37
(يعني اعتماد مجتمع معين على نفسه أول ما يعني الاعتماد على قدراته الخاصة. والمجتمع إنما هو مجموع أفراد. ولذلك فإن أول ما يملك من قدرات هو قدرات أفراده. وبهذا المدخل للتنمية الإنسان ليحتل قلب ساحة الفكر والحركة على أساس أنه صانع التنمية الحقيقي. أن التنمية تطرد وتتسارع إذا توافر العمل المنتج لكل مواطن، وإذا توالى ارتفاع إنتاجية العمل. ومن هنا يصبح توفير الصحة والتعليم، أو ما سميناه بلغة علم المعلومية Soft ware التنمية أهم من اقتناء الآلات وتشييد المنشآت أو (Hard ware التنمية) ص37 .
إن التنمية المستقلة لكل أمة –وفقاً لما يراه الدكتور إسماعيل صبري عبد الله – يجب أن تكون مشروعاً حضارياً متمايزاً عن الرأسمالية إلى حد بعيد. والابتعاد عن القيود والحدود التي رسمها الاستعمار، التي تعرقل المشروع الحضاري. ومن الضروري تحديد المقومات الحضارية المشتركة التي تجعل من الوارد تزايد تقارب البلد أن إلى مستوى الاندماج حين يمكنها تصور مشروع حضاري مشترك يبعدها عن جاذبية قلب النظام الرأسمالي. ص53
آليات التبعية :
وتبدأ الورقة التي تقدم بها الخبير الاقتصادي الدكتور إبراهيم سعد الدين عبد الله، تحت عنوان (النظام الدولي وآليات التعبة : آليات التبعية في إطار الرأسمالية متعدية الجنسيات)، تبدأ من القبول العام لمقولة "التبعية" باعتبارها صياغة نظرية (تصف حقيقة أن دول العالم الثالث قد أخضعت خلال فترة معينة لم تزل ممتدة حتى الآن لسيطرة النظام الرأسمالي العالمي، وأن الهياكل الاقتصادية والاجتماعية في هذه الدول قد أعيد تشكيلها بواسطة القوى الرأسمالية المسيطرة ولصالحها. وقد أنتجت تلك العملية التاريخية آثاراً اقتصادية واجتماعية وثقافية هامة، حيث أدت إلى تفكك وتحلل العلاقات بين مختلف قطاعات الاقتصاد الوطني في الدول التي خضعت للسيطرة الرأسمالية، وارتباط الدول الخاضعة بالدول الرأسمالية المتقدمة بعلاقات غير متكافئة يعاد تجددها باستمرار، وأن بوسائل مختلفة، وذلك بهدف أن يستمر امتصاص جانب هام من الفائض الاقتصادي من الدول التابعة لصالح رأس مال الدولي) ص93 .
وبذلك نلاحظ أن علاقات التبعية بين دول المركز ودول التخوم هي علاقات تاريخية وجدلية، نشأت نتيجة للسيطرة والاستغلال الاستعماري.
حيث ما تزال دول العالم الثالث ترتبط بنيوياً بالسوق الرأسمالي العالمي في إطار التقسيم الدولي السائد للعمل ، ومن خلال الدور المتعاظم للشركات متعدية الجنسيات في الاقتصاد العالمي.
ويعدد البحث تسع آليات متميزة للتبعية في حالة بلدان العالم الثالث عموماً، وفي حالة الأقطار العربية خصوصاً.
التنمية المتمحورة على الذات :
أما البحث الذي تقدم به الدكتور سمير أمين بعنوان "حول التبعية والتوسع العالمي للرأسمالي"، فقد ناقش التغيرات المهمة التي شهدتها غالبية المجتمعات المكونة للنظام العالمي وكذلك في هيكـل النظام نفسـه. حيث سادت بعض الظواهر خلال الفترة 1914-1945 ، أهمها: ص145
- ركود نسبي للقوى الإنتاجية .
- تناقضات عنيفة بين المراكز الاستعمارية .
- استمرار الأوضاع الكولونيالية أو شبه الكولونيالية في آسيا وأفريقيا،
- نجاح الثورة الاشتراكية في كل من روسيا والصين، وتسلم الحزب الشيوعي مقاليد السلطة.
أما الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية، ومنذ عام 1945 فقد اتسمت بالصفات التالية :
- رواج لا سابق له في مجموع النظام الرأسمالي،
- هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية،
- إنهاء النظم الكولونيالية المباشرة ،
- قيام أكثر من مائة دولة مستقلة جديدة أو مستحدثة.
وينادي الدكتور أمين بالتنمية المتمحورة على الذات، التي تعني السيطرة الوطنية على التراكم. بل تعني "فك الارتباط" ويضيف (ليس مفهوم فك الارتباط تعبيراً آخر مرادفاً للتنمية المتمحورة على الذات، فهو مفهوم يدل على ظاهرة خاصة، أو بعبارة أدق هو شرط مفروض من النظام. فهو شرط للتنمية المتمحورة على الذات في ظروف وراثة ذات طابع "طرفي" ص167 .
إن دراسة سريعة للتاريخ تؤكد أن الارتباط بين الدول الغنية القوية (المركز)، وبين الدول الفقيرة الضعيفة (التخوم)، هو ارتباط موجود على مر العصور، رغم أنه ارتباط غير متكافئ. وهذا الارتباط هو محور علاقة التبعية التي يتم من خلالها نقل ثقافات وسلوك وقوانين ولغات دول المركز إلى دول التخوم. لذلك نلاحظ أن انتقال بعض أنماط الاستهلاك من الدول الغنية إلى الدول النامية من النتائج الطبيعية للعلاقة غير المكافئة، ولكن الحتمية، بين المركز والأطراف. هل يكون الحل في القضاء على هذه العلاقة غير المكافئة (التبعية) هو المطلوب (فك الارتباط) أم الدعوة التي يتحول المجتمع العربي إلى مركز هام في العلاقات الدولية ؟ ص201
وقد انتهى الدكتور سمير أمين في تحليله للتطور الاقتصادي الاجتماعي لدول العالم الثالث في إطار النظام الاقتصادي العالمي الرأسمالي الراهن، إلى أن البرجوازية المحلية في بلدان العالم الثالث –مع استثناءات قليلة- لم تنجح في السيطرة على عملية التراكم الداخلي لعناصرها المختلفة، وأنها ظلت مرتبطة بالمصالح الاقتصادية "لمراكز" النظام الرأسمالي العالمي، ولم تنجح في إقامة تحالفات مع القوى الشعبية المحلية، لذلك نادى الباحث بالتنمية الاقتصادية المستقلة، لا بل نادى بـ "فك الارتباط" (وفتح مرحلة الانتقال الصعب والمتناقض إلى الاشتراكية) ص204 .
تجارب مختارة من العالم الثالث :
وناقش القسم الثاني من الكتاب "تجارب مختارة من العالم الثالث" ثلاث نماذج للتجربة التنموية في بعض الدول النامية وقد شمل ذلك الهند والصين الشعبية وكوريا الجنوبية :
1)- نموذج التنمية الهندي بين تناقضات النمو الرأسمالي وطموحات الاستقلال الاقتصادي والاعتماد على الذات. قدم الورقة الدكتور رمزي زكي. وتناول البحث المواضيع التالية:
آ – إطلالة سريعة على الاقتصاد الهندي عقب الحصول على الاستقلال .
ب-التنمية الهندية عبر محاولات التخطيط، تحليل وتقوم للخطط الخمسية المنفذة في الهند خلال الفترة 1950-1985م .
ج- تناقضات الوضع الراهن، من حيث زيادة النمو مع زيادة الفقر، ارتفاع معدل التراكم وزيادة معدل البطالة، ارتفاع معدل الادخار والميل الشديد للاستدانة، إضافة إلى احتمالات المستقبل في الهند .
2-عرض تجربة الصين التنموية (من الكتاب الأحمر إلى الكتاب الأصفر). قدم البحث الدكتور نادر الفرجاني. وتضمن البحث، تعريف خاطف بالصين، ثم تحدث عن مرحلة قيادة الرئيس ماو تسي تونغ للصين، بعدها تحدث عن التطورات التي حدثت بعد رحيل ماو، وما هي الدروس المستفادة من منظور التنمية المستقلة في الوطن العربي من التجربة الصينية. وبذلك نلاحظ أن الباحث قد رسم لنا أهما سمات التجربة الصينية سواء أكانت في عهد ماو تسي تونغ أو بعد رحيله. كما ألقى الضوء على الأسباب التي دعت إلى الدراسة المعمقة لهذه التجربة. لا لأنها أكبر تجربة تنموية في عصرنا من حيث حجم البلاد وأهمية الإنجازات فقط، ولكن لأنها تعرضت لجميع العوائق التي يتعرض لها العالم الثالث بشكل عام والوطن العربي بشكل خاص.
3- إدارة التنمية الاقتصادية في كوريا الجنوبية، بحث تقدمت به الدكتورة هبة مندوسة. حيث يعتبر نموذج كوريا الجنوبية التنموي نموذجاً ناجحاً من حيث الإنجازات العديدة التي حققتها الدولة في فترة لا تتجاوز العشرين عاماً منذ عام 1955 . ومن أهم تلك الإنجازات السرعة التي قفز بها النمو بالقياس إلى قلة الموارد المتيسرة وندرة الأراضي الزراعية وتخلف هيكل الإنتاج ومشكلة الانفجار السكاني. وناقش البحث المواضيع التالية :
آ – لمحة موجزة عن كوريا الجنوبية .
ب- الإنجازات المبكرة التي حققتها ، في القطاع الزراعي والتعليم ،
ج- الاستراتيجية الصناعية وتنمية الصادرات والتخطيط ،
د – المساعدات الأجنبية والاستثمارات الأجنبية المباشرة ،
هـ- الدولة : الإدارة العليا وبناء المؤسسات ،
والنتيجة أن الباحث خلصت إلى أنه من الصعب محاكاة النموذج الكوري لإحداث تنمية مستقلة في الوطن العربي .
حاولت فيما تقدم عرض البحوث والمناقشات التي تمت في القسم الأول و الثاني من الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية حول التنمية والمستقلة في الوطن العربي. وسوف أحاول عرض القسم الثالث والرابع والذي تضمن بعض التجارب التنموية العربية، والتصور المستقبلي للتنمية المستقلة في الوطن العربي، في العدد القادم .
الدكتور مصطفى العبد الله الكفري
جامعة دمشق – كلية الاقتصاد
[email protected]
"التنمية المستقلة في الوطن العربي"
بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية مجموعة من الباحثين .
منشورات مركز دراسات الوحدة العربية