|
الإعلام وأدوات التغيير في العراق الجديد
حسين علي الحمداني
الحوار المتمدن-العدد: 2216 - 2008 / 3 / 10 - 10:30
المحور:
الصحافة والاعلام
من الواضح أن سرعة تطور وسائل الاتصال بين الناس وانتشارها واستقطابها يعتبر عاملا مهما في تزايد تأثير هذه الوسائل على المجتمع بشكل عام، وعلى فئة الشباب بشكل خاص. وقد كان الاعتقاد سائدا بأن هذا التطور سيترك آثارا عميقة في المجتمعات، وهذا اعتقاد له ما يبرره. ولكن خلال فترة وجيزة بدأ مضمون الاتصال في التطور، وأخذ منحى آخر، إلى درجة أن بعض جوانبه أخذت بعدا كبيرا من الجدل حول تفاعل الناس مع هذا المضمون. ومثال ذلك الفضائيات الخاصة ببث ألاغاني والفيديو كليب ، والتي استقطبت قطاعا عريضا من الشباب على امتداد العالم، بخاصة العالم العربي في الآونة الأخيرة. واللافت للنظر أن الفئة الصغيرة من الشباب، والذين يمكن أن نقول إنهم بالفعل أطفال، استقطبوا أيضا لهذه البرامج، الأمر الذي يضع تساؤلات كبيرة حول تأثير الإعلام ودوره في المجتمع في ظل غياب شبه تام لإعلام الدولة أو ما يمكن أن نسمية الإعلام الموجه. يقول البعض إن التلفزيون هو "الوالد الثالث" أو ما يطلق عليه "the third parent"؛ لما له من تأثير على الأطفال. ففي ظل تراجع دور الاتصال الشفهي بين أفراد المجتمع وداخل الأسرة الواحدة، تقدم الإعلام الجماهيري، بخاصة التلفزيون ليصبح له دور يوازي دور الأبوين. فالساعات التي يقضيها الطفل أمام التلفزيون في يومه تصل إلى درجة قد تفوق الساعات التي يقضيها في أي عمل آخر. وبهذا يمكننا القول بأن التلفزيون أصبح يساهم بشكل كبير في صياغة تفكير أبنائنا، ويحدد لهم التوجهات الثقافية والفكرية، وأنماط السلوك الاجتماعي التي تصبغ شخصيتهم.بالطبع نحن نتحدث هنا عن كافة وسائل الاتصال، ولكن التركيز على التلفزيون والإنترنت بشكل خاص؛ لأنهما الوسيلتان اللتان تستقطبان فئة الأطفال والشباب، وهما الوسيلتان اللتان تدخلان كل بيت وتقدمان أشكالا متنوعة وجذابة من البرامج دون رقيب. وقبل الحديث عن دور الإعلام في تكريس مفاهيم الدكتاتورية والديمقراطية لدى الأطفال لا بد من الإشارة إلى واقع التربية في مجتمعاتنا العربية , إن مجتمعاتنا العربية والإسلامية بفعل جملة من العوامل التاريخية والثقافية والمفاهيم السلبية السائدة لا تعرف غير أسلوب التحكم في الآخرين وسيلة للعلاقات الاجتماعية والسياسية. فالدكتاتورية تبدأ من البيت لتصل إلى الموظف والمسئول، ثم إلى الحاكم. وهناك جملة من الأمور التي يمكن أن نلاحظها في مجتمعاتنا على كافة الأصعدة، منها: 1- اعتبار رأي الفرد صحيحا، وما سواه خاطئا. ومن هنا تتولد الرغبة في فرض الآراء على الآخرين . 2- اعتبار أن التنازل عن الرأي عيب، حتى وإن كان خاطئا ويصل إلى درجة التمادي في الخطأ. 3- النظر إلى الآخرين نظرة دونية، وتحقير آرائهم وأشخاصهم. إلى غير ذلك من الأمور التي تصبغ الشخصية والتي تعكس أسلوبا تربويا عقيما بني على مفاهيم غير حضارية، بل بعيدة كل البعد عن قيم الإسلام؛ فالبيئة التي تفرز هذه التربية هي بيئة غير مثقفة وغير واعية، ولا تمتلك رؤية صحيحة لأهمية التربية في تطور المجتمعات. ربما يدعي الكثيرون أننا نتعامل مع الزوجة والأولاد بشكل ديمقراطي، وأنهم يمتلكون كامل الحرية في التعبير عن آرائهم. ولكن هذا الكلام قد يكون ظاهريا، وليس حقيقيا. الطفل والمرأة في المنزل لا يمتلكون أي حرية أو حق في المشاركة في اتخاذ القرار، مع أن هذا هو مدخل الديمقراطية. فالطفل لا يناقش ولا يجد مجالا للإدلاء برأيه في الصف الدراسي بالمدرسة.. المعلم هو الحاكم، وهو صاحب القرار. بالطبع نحن لا ننتقص من قيمة الأب في المنزل، أو المعلم في المدرسة، ولا نطلب منه التخلي عن حقه في إدارة مؤسسته الصغيرة. ولكن ما نطالب به هو حق الآخرين في النقاش والحوار، وبالتالي اتخاذ القرار. هذا الحال ينسحب على الإعلام، وعلى طريقة معالجته لقضايا المجتمع؛ فإعلامنا العربي بداية هو إعلام أحادي الاتجاه، بمعنى أن القائمين على وسائل الإعلام يقررون ما هو مفيد وما هو غير مفيد للفرد والمجتمع، فيختارون البرامج والمواد الإعلامية التي يعتقدون أنها مناسبة للناس. ولا يعيرون انتباها لآراء الجمهور وتطلعاتهم، وللبرامج التي يريدون تلقيها. والأهم من ذلك أن وسائل الإعلام يفترض أن تمثل المجتمع تمثيلا حقيقيا فتكون مرآة تعكس صورة المجتمع وقيمه وآراءه وأفكاره وعاداته وتقاليده. وكذلك تعبر عن هموم المواطن وطموحه وآلامه وآماله. وهذا الأمر يعتبر صمام الأمان للإعلام، ويكون بالتالي "ديمقراطيا"؛ لأنه يصبح لسان حال المجتمع. فلو عبر الإعلام تعبيرا حقيقيا عن واقع المجتمع، لما احتاج إلى جهد كبير في القيام بإعداد البرامج المعبرة عن إرادة الناس واختيارهم. هذا في الحقيقة هو الدرس الأول في "ديمقراطية الإعلام" وأسلوب تعامله مع الإنسان. وتأثير هذا الأسلوب في التعامل مع الجمهور ينعكس بشكل غير مباشر على طريقة تفكير الناس وتعاملهم مع بعضهم البعض. فالأب أو الأم مثلا يختاران لطفلهما ملابسه وألعابه، ويرسمان له طريقة حياته، وإذا نشأ الطفل في مثل هذا الجو، فكيف نتوقع أن يتعامل مع الآخرين؟. بالتأكيد سيكون نسخة طبق الأصل للنماذج التي يراها في بيئته المحيطة. إن عدم إشراك الجمهور في اختيار المادة الإعلامية، أو على الأقل في إبداء رأيه في هذه المادة، هو نموذج واضح لأساليب الدكتاتورية والتحكم التي توارثتها الأجيال. وبالرغم من أن الجمهور ربما لا ينتبه لهذا الأمر فإنه ينغرس في اللاوعي عند الفرد، وينشأ بالتالي الطفل على هذا الأسلوب في التعامل مع الآخرين.وتزداد المسألة تعقيدا حين نتعمق في المادة الإعلامية التي تبثها وسائل الإعلام. فبالرغم من أن الإعلام يسعى إلى تقديم الأخبار والتحليلات ومادة الترفيه والتسلية بشكل عفوي، إلا أننا نرى أن هذه المادة مستقاة من واقع سياسي واقتصادي واجتماعي قائم على تحكم طرف بالآخرين. ويمكن أن نجمل هذه الأمور في النقاط التالية: 1- الإعلام العربي -على وجه الخصوص- في مجمله ليس إعلاما نقديا تجاه الآخرين، وبالذات تجاه الحكومات التي لا تعرف الديمقراطية أصلا. بل أكثر من ذلك، حيث نرى أن المادة الإعلامية تدور في كثير من الأحيان في فلك الحاكم، فتكيل له المديح، وترصد تحركاته، وتجعله منزها عن الأخطاء والنواقص وهذه الحالة بالذات غير موجودة في الإعلام العراقي في مرحلة ما بعد سقوط الدكتاتورية , رغم وجود بعض القنوات التي تحاول بين الحين والآخر الاصطياد في المياه العكرة . ونحن نعلم أن النقد والحوار والاختلاف في الرأي هي بعض مظاهر الديمقراطية التي يجب أن يتربى الطفل عليها، ويجب أن تتكرس في المجتمعات التقليدية. فالتعامل مع المضمون الإعلامي على أنه "موال للسلطة" يبرز "إنجازاتها" ويظهر الجانب الإيجابي لها، هو تأكيد لمظاهر الدكتاتورية. فالإنسان يتعلم "النفاق" وكيل المديح للآخرين، ويبعده عن الإيجابية في النقد الصريح البناء وإبداء وجهة النظر المخالفة. ففي هذه الحالة يقوم الإعلام بتكرار ما يحدث في المجتمع من جهة، ويعلم الأجيال هذه الأنماط من السلوك من جهة أخرى. 2- يمكن في بعض الأحيان أن تقوم وسائل الإعلام بعرض مشاهد درامية تعطي الطفل الحق في إبداء رأيه. ولكن الغالب في الأفلام والمسلسلات هو تأكيد وجهة نظر الكبار، والتقليل من وجهة نظر الآخرين. ونقصد بالكبار هنا كبار السن أو الأغنياء الذين يفرضون آراءهم على الآخرين، أو الزعماء والقادة، أو المسئولين في العمل؛ فالموظف مثلا لا يستطيع أن يناقش، ويخضع لرأي رئيسه دون نقاش، بل ينافقه ويؤكد بعبارات لا تقبل التأويل حصافة رأيه وحنكته وصدق نواياه وسعة اطلاعه، وحتى إدراكه لأبعاد القضية المطروحة. 3- برامج التوجيه الديمقراطي تعتبر هامة في الإعلام؛ ففي المرحلة التي تمر بها البشرية حاليا لا بد من إحداث نقلة نوعية على المستوى الاجتماعي والثقافي ونحن في العراق أحوج ما نكون لهذه النقلة على المسويين الاجتماعي والثقافي بغية تحقيق الانتقال الديمقراطي الصحيح. والإنسان يحتاج منذ طفولته إلى جرعات توعية حول أنماط السلوك الديمقراطي، والمسألة تبدأ طبعا بتغيير التصورات، وهي مسألة في غاية الصعوبة، لكن تغيير السلوك لا يمكن أن يتم إلا من خلال تغيير القناعات وتعديل المفاهيم وإشاعة التوعية، ثم الإرشاد نحو السلوك الديمقراطي السليم. وبالطبع يكون ذلك أحيانا بأسلوب مباشر ضمن برامج إعلامية خاصة، وأحيانا أخرى بأساليب غير مباشرة من خلال عرض قضايا مختلفة تتضمن إشارة إلى الأنماط السليمة والأنماط الخاطئة في السلوك. وخلاصة الأمر أن للإعلام دورا هائلا في التغيير وفي التأثير على الفرد، بخاصة على الأطفال الذين أصبحوا في عصر الاتصال يعتمدون بدرجة كبيرة على التلفزيون تحديدا. فالإعلام أصبح في الوقت الراهن أداة قوية في التغيير وفي توجيه الرأي العام، وفي صياغة أنماط العلاقات الاجتماعية. الإعلام يعلم الفرد الممارسة الديمقراطية من خلال طريقته في الأداء، أي من خلال علاقته مع الجمهور. فإلى أي درجة يحترم الإعلام رأي الجمهور؟ وهل يعبر بشكل واقعي عن الإنسان؟ وهل يشارك الفرد في اختيار المادة الإعلامية؟ وكيف يمكن أن يصبح الجمهور شريكا في العمل الإعلامي؟.من جهة أخرى، نجد أن الإعلام يمارس دور المرشد للممارسة الديمقراطية من خلال مضمون برامجه الإعلامية؛ فهو الذي يشجع الفرد على إبداء رأيه والدفاع عن حقه في ذلك، وهو الذي يضع الممارسات الدكتاتورية في خانة الاتهام ويحكم عليها بأنها ممارسات خاطئة. وبالتالي يكون مرشدا للجمهور في تكريس الفكر الديمقراطي. إن الإعلام هو أداة التغيير في المستقبل، وهو حجر الأساس في تطوير العديد من الجوانب الحياتية، وأجزم بأن الانفتاح على العالم الذي حصل نتيجة تطور وسائل الاتصال سينقل التجارب الديمقراطية عبر الحدود، ويفتح آفاق أطفالنا إلى حقوقهم الأساسية في الممارسة الديمقراطية. لقد سقطت كل العوائق أمام وسائل الإعلام، وعلى الآباء والمسئولين إدراك ذلك والاستفادة من هذا التطور والتأقلم والتعايش معه، والاستعداد للمرحلة القادمة التي لن يكون للدكتاتورية فيها مكان. وإلا فإن التغيير سيحدث فجأة دون مقدمات، ولن يجد عندها الآباء إلا الاستسلام للأمر الواقع.
#حسين_علي_الحمداني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
انظروا لإيران من الجانب الآخر
-
العراقي والستلايت
-
بناء العقلية العراقية الجديدة
-
عقارب الساعة لن تعود
-
رعب الإرهاب في ميزان المصالح
-
الديمقراطية التوافقية في العراق
-
من مع إيران.. من مع أمريكا؟؟؟
-
المواطنة ما هي؟
-
ماذا بعد زيارة بوش؟؟
-
العلاقة بين المدرسة وأولياء الأمور
-
المعرفة مورد لا ينضب
-
النهوض بالواقع التربوي
-
الديمقراطية في عراقنا الجديد
-
أسباب العنف عند الأطفال
-
مدير المدرسة الناجح
-
صراع اصوليات لا صراع حضارات
-
ملامح النظام التعليمي الجديد
-
استراتيجية مقترحة لإعداد معلم مدرسة المستقبل
-
الشراكة بين المدرسة والبيت
-
الديمقراطية وخلق المفاهيم الجديدة
المزيد.....
-
لحظة لقاء أطول وأقصر سيدتين في العالم لأول مرة.. شاهد الفرق
...
-
بوتين يحذر من استهداف الدول التي تُستخدم أسلحتها ضد روسيا وي
...
-
الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل جندي في معارك شمال قطاع غزة
-
هيّا نحتفل مع العالم بيوم التلفزيون، كيف تطوّرت -أم الشاشات-
...
-
نجاح غير مسبوق في التحول الرقمي.. بومي تُكرّم 5 شركاء مبدعين
...
-
أبرز ردود الفعل الدولية على مذكرتي التوقيف بحق نتنياهو وغالا
...
-
الفصل الخامس والسبعون - أمين
-
السفير الروسي في لندن: روسيا ستقيم رئاسة ترامب من خلال أفعال
...
-
رصد صواريخ -حزب الله- تحلق في أجواء نهاريا
-
مصر تعلن تمويل سد في الكونغو الديمقراطية وتتفق معها على مبدأ
...
المزيد.....
-
السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي
/ كرم نعمة
-
سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية
/ كرم نعمة
-
مجلة سماء الأمير
/ أسماء محمد مصطفى
-
إنتخابات الكنيست 25
/ محمد السهلي
-
المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع.
/ غادة محمود عبد الحميد
-
داخل الكليبتوقراطية العراقية
/ يونس الخشاب
-
تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية
/ حسني رفعت حسني
-
فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل
...
/ عصام بن الشيخ
-
/ زياد بوزيان
-
الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير
/ مريم الحسن
المزيد.....
|