جريس سالم بقاعين
الحوار المتمدن-العدد: 2215 - 2008 / 3 / 9 - 00:32
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
الخمرة من أطيب الأشياء عند العرب, فكانوا يفرطون في شربها , ويقبلون عليها إقبال الناس على شرب الشاي عندنا هذه الأيام.
لقد كانت حياتهم قاسية, ومشاكل المعيشة عندهم صعبة شديدة والفراغ في الحياة اليومية طويل, والفقر هو الغالب عليهم, فأخذوا من الخمرة سبباً لقتل الفراغ وللتغلب على هموم الحياه, فصارت من ثم عندهم أطيب شيء ينسيهم واقع ما هم عليه من سوء حال.
روي عن قتادة : " ليس للعرب يومئذ عيش أعجب اليها منها "
"تفسير الطبري"
وقد كان المسلمون يشربونها كالجاهلين طيلة عهدهم بمكة وحيناً من هجرة الرسول الى المدينة, فكانوا إذا دعوا إلى وليمة كانت الخمرة في رأس القائمة ما يقدم للضيوف, وكانوا إذا نزلو على أحد , وأراد مضيفهم أكرامهم قدم لهم ما عنده منها.. لم يجدوا في شربها حرجاً, لأنها كانت شراباً مباحاً مثل الأشربة المباحة الآخرى, ولكن قوماً من الجاهلين ومن المسلمين وجدوا في شربها أذى ومضيعه للعقل والمال ومفسد تفسد بين الصديق وصديقة لذلك امتنعوا عن شربها وتفاخروا بأمتناعهم عنها, وعابوا من كان يشربها لما يصدر منه في سكره من لغو وهجر وعمل قبيح وأفعال مضحكه لا يصح صدورها من أنسان يحترم نفسة ويقدر شخصيته.
ذكر عن علي بن أبي طالب أنه دخل على الرسول وعنده زيد بن حارثة فقال له رسول الله وقد بدا الغضب في وجهه مالك؟ فقال: يا رسول الله, والله ما رأيت كاليوم قط ,عدا حمزة على ناقتي, فأجبت اسنمتها وبقر خواصرهما, وها هو ذا في بيت معه شرب, فدعا رسول الله بردائة فارتداه, ثم انطلق يمشي ومعه علي وزيد حتى جاء الباب الذي فيه حمزة فاستأذن فأذنوا له, فإذا هم شرب, وقنية تغنيهم " فطفق رسول الله يلوم حمزة فيما فعل, فإذا حمزه محمرةعيناه, فنظر حمزه الى رسوال الله ثم صعد النظر الى ركبته ثم صعد النظر الى سرته ثم الى وجهه فقال حمزه: وهل أنتم عبيد لأبي. فعرف الرسول أنه ثمل فنكص الرسول على عقبيه القهقري, وخرج.
صحيح مسلم (6/85)
وقد أحدثت الخمره شروراً في المدينه, وأدت إلى وقوع مشاجرات وخصومات بين المسلمين بسبب سكرهم, وتغلب الخمره على عقولهم, وأدت الى عراك هدد مجتمع المدينة بالأنقسام وبالتقاتل بسبب النزعات القبيلية, مما حمل عقلاء القوم على أن يسألو الرسول في أمرها وفي أمر الميسر الذي كان شراً كذلك, ويرجون الله أن يقول كلمته في ذلك, لا سيما بعد أنتصار الأسلام على أعدائه, وأتخاذ أعدائه كل الوسائل لدحره وفي رأسها إثارة الفرقة بين المسلمين, وقد وقعت حوادث عديدة من هذا القبيل أشار إليها أهل الأخبار " كانو إذا سكروا وثب بعضهم على بعض وقاتل بعضهم بعض" تفسير الطبري (2/210)
فنزل الأمر من الله بها في مراحل ثلاث, كان تحريمها في الأمر الثالث. وكان مما ذكر: أن عمر بن الخطاب كان يقول وهو في المدينه : " اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً" , وأنه ذكر للرسول عاقبة شربها, وسأل الله تحريمها, وأن ناساً من أهل المدينه كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر أتوا الرسول فسألوه عن ذلك, فأنزل الله
(( يسألونك عن الخمر والميسر قل فيها إثم كبير ومنفع للناس وإثمها اكبر من نفعها)) فقالو هذا شيء قد جاء فيه رخصة. نأكل الميسر ونشرب الخمر ونستغفر من ذلك. حتى أتى رجل صلاة المغرب, فجعل يقرأ: (( قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ولا أنا عابد ما عبدتم ولا انتم عابدون ما اعبد)) فجعل لا يجود ذلك ولا يدري ما يقرأ فأنزل الله ((يا أيها الذين امنو لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى)) فكانوا الناس يشربون الخمر حتى يجيء وقت الصلاه فيدعون شربها, فيأتون الصلاه, وهم يعلمون ما يقولون, فلم يزالوا كذلك حتى أنزل الله تعالى (( يا أيها الذين أمنو انما الخمر والميسر والانصاب والازلام .......الى قوله (( فهل انتم منتهون)) فقالو: انتيها يا رب, وقال آخرون : نزلت هذه الآيةبسبب سعد بن ابي وقاص وذلك انه كان لامي رجلاً شراب لهما, فضربة صاحبه بلمى جمل ففزر أنفة فنزلت فيهما " تفسير الطبري (2/22) اسباب النزول (ص122 وما بعدها)
وذكر أن الناس لما سألوا الرسول أن يبين الله رأية في الخمر فأنزل : (( يسألونك عن الخمر والميسر)) قالوا يا رسول الله دعنا ننتفع بها, كما قال الله تعالى, فسكت عنهم, وقالوا ما حرما- أي الخمر والميسر- علينا انما قال: ((قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس)) فكانوا يشربون الخمر, حتى يوماً من الايام صلى رجل من المهاجرين أم اصحابة في المغرب, فخلط في قراءته فأنزل الله آية أغلظ منها : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وانتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون)) فكانوا الناس يشربون حتى يأتي أحدهم الصلاة وهو مغبق, وقالوا يا رسول الله إنا لا نشربها قرب الصلاة, فسكت عنهم, فكان منادي الرسول إذا قال: حي على الصلاه نادى : لا يقربن الصلاة سكران , حتى حدث حادث ادى الى نزول ((يا ايها الذين انما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجسن رجسن من عمل الشيطان فاجتنبوه)) سورة المائدة الايه 90
فقال رسول الله : حرمت الخمر ... (تفسير ابن كثير (2/92 وما بعدها)،(ا/255) وقد ذكر بعض الرواه ان سبب نزول الحرمة هو بسبب تخاصم سعد بن ابي وقاص مع انصاري بسبب غلبة الخمرة عليهما "تفسير الطبري(2/212).
وذكر بعض اخر ان رجلا من الانصار صنع طعاما ، فدعا قوما من المهاجرين فشربو الخمر حتى انتشوا، فتفاخروا ... فقالت الانصار نحن افضل ، وقالت قريش نحن افضل ، فوقل الشر بين الطرفين.
وذكر بعض اخر " عن ابن عباس, قال: إنما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار, شربوا, فلما أن ثمل القوم عبث بعضهم ببعض, فلما أن صحوا جعل الرجل يرى الأثر بوجهه ورأسه ولحيته, فيقول: صبنع بي هذا أخي فلان, وكانوا إخوه ليس في قلوبهم ضفائن فيقول: والله لو كان بي رؤوفاً رحيماً ما صنع بي هذا, حتى وقعت الضفائن في قلوبهم فأنزل الله هذه الآية " تفسير ابن كثير (2/95).
وتذكر رواية أخرى ان سبب تحريمها هو أن رجلاً أخذ به السكر ما أخذ فجعل ينوح على قتلى بدر, فبلغ ذلك النبي فجاء فزعاً يجر رداءه من الفزع حتى انتهى اليه, فلما عاينة الرجل, رفع رسول الله شيئاً كان بيده ليضربة, قال أعوذ بالله من غضب الله ورسوله, لا أطعمها ابداً, فأنزل الله تحريمها ( تفسير الطبري 2/211) وفي رواية
أن الآية نزلت في أناس من أصحاب الرسول كانو يشربون الخمر ويحضرون الصلاه وهم نشاوا فلا يدركون كم يصلون ولا ما يقولون في صلاتهم ( اسباب النزول 112)
ولما نزل الأمر في تحريم الخمر قال رسول الله : من كان عنده من هذه الخمر فاليأنتنا بها, فجعلوا يأتونه بما عندهم منها وجمعوه, ثم قال رسول الله: اتعرفون هذه؟ قالو: نعم يا رسول الله, هذه الخمر. ثم قال الرسول صدقتم, ثم قال فإن الله لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وشاربها وساقيها وحاملها والمحمولة اليه وبائعها ومشتريها واكل ثمنها ثم أمر فأريق ما جمع من ذلك الخمر " تفسير ابن كثير (2/95)".
وفي كتب التفسير والحديث أن الخمر لما حرمت, نادى المنادي في سكك المدينه: الا ان الخمر قد رحمت, فأهرقها من كان يشرب آن ذاك, كان قوم يشربون في بيت أبي طلحه, يسقيهم أنس بن مالك وهو اصغر الموجدين وكان في الموجدين أبو طلحه وأبو دجانه ومعاذ أبن جبل وأبوأيوب وسهيل بن بيضاء وابو عبيده وأبي ابن كعب, فلما سمعوا المنادي ينادي بالتحريم, أمرو بالخمر فأريقت وكفوا عن الشرب... صحيح مسلم(1/85 وما بعدها).
وكان نزول تحريم الخمر في السنه الثامنه من الهجره, هوي عن ابن عباس انه قال: كان لرسول الله صديقاً من ثقيف او من دوس, فلقيه يوم الفتح برواده خمر يهديها اليه, فقال رسول الله يا فلان اما علمت ان الله قد حرمها... إبنكثير (2/93) مسند الامام أبي حنيفه (195)الحديث رقم 428
ولعل بعض القراء يندهشون, وربما يسمعون للمرة الأولى أن أبا حنيفه قد أباح أنواعاً من الخمور, ولعلي اصارحهم قد أصابت على سؤال حائر كان يدور في داخلي وأنا أقرأ عن الشراب والمناومة في مجالس الخلفاء, ولعل فيما عرضة الأستاذ أحمد أمين في كتابة ضحى الأسلام عن خلاف الفقهاء حول, ورأي أبي حنيفه فيها, ما يوضع الأمر للقاري (( ضحى الأسلام _ ج1- ط 10 1984 ص 119-120))
((ذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد بنحنبل إلى سد الباب بتاتاً, ففسروا الخمر في الآية السابقة بما يشمل جميع الأنبذه المسكرة من نبيذ التمر والزبيب والشعير والذرة والعسل وغيره, وقالوا كلها تسمى خمراً وكلها محرمه, أما الأمام أبي حنيفه ففسر الخمر في الآية بعصير العنب مستنداً إلى المعنى اللغوي لكلمة الخمر وأحاديث أخرى وأدى به إجتهادة إلى تحليل بعض أنواع من النبيذ كنبيذ التمر والزبيب إن طبخ ادنى طبخ وشرب منه قدر لا يسكر, وكنوع (( الخليطين)) وهو أن يؤخذ قدراً من تمر ومثله من زبيب, ثم يصب عليهما الماء, ويتركهما زمناً, وكذلك نبذ العسل والتين, والبر والعسل.
ويظهر أن الإمام ابي حنيفه في هذا كان يتبع الصحابي عبدالله بن مسعود فقد علمت من قبل ان إبن مسعود كان إمام مدرسه العراق, وعلمت مقدار الأرتباط بين فقه أبي حنيفه وابن مسعود والدليل على ذلك ما رواه صاحب العقد عن ابي مسعود من انه كان: يرى حل النبيذ حتى كثرت الروايات عنه, وشهرت أذيعت وأتبعه ذلك شاعرهم:-
(( من ذا يحرم ماء الحزن خالطه في جوف خابية ماء العناقيد؟
إني لأكره تشديد الرواه لنا فيه ويعجبني قول ابن مسعود
وننهي حديثنا بهذه الطرفة... فقد اشتهر عن فقهاء الحجاز إباحة الغناء, واشتهر عن فقهاء العراق من ابتاع ابي حنيفه إباحة الشراب, فتجمعوا بين الفريقين ولخصوا مذهبهم في قول الشاعر:-
رأيه في السماع رأي حجازي وفي الشراب رأي اهل العراق
أباح العراق النبيذ وشربه وقال حرامان المدامه والسكر
وقال الحجازي: الشرابان واحد فجعل لنا من بين قوليهما الخمر
سنأخذ من قوليهما طرفيهما واشربها لا فارق الوازرالوزر
#جريس_سالم_بقاعين (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟